خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِيۤ أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ
١٦
وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيۤ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٧
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ
١٨
وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَٰلَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١٩
وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ
٢٠
-الأحقاف

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر نتقبّل ونتجاوز بالنون، أحسن بالنصب والباقون يتقبل ويتجاوز بضم الياء أحسن بالرّفع وقرأ ابن كثير وأبو جعفر ويعقوب آذهبتم بهمزة واحدة ممدودة وقرأ ابن عامر ءَأذهبتم بهمزتين والباقون أذهبتم بفتح الهمزة.
الحجة: من قرأ يتقبل فلأنّ الفعل وإن كان مبنيّاً للمفعول به فمعلوم أنه لله تعالى كما جاء في الأخرى إنما يتقبل الله من المتقين فبناؤه للمفعول كبنائه للفاعل في العلم بالفاعل وحجة من قرأ نتقبل بالنون أنّه قد تقدّم الكلام ووصينا الإنسان وكلاهما حسن وقد ذكرنا اختلافهم في أفّ في بني إسرائيل وحجة الاستفهام في أذهبتم أنه قد جاء هذا النحو بالاستفهام نحو أليس هذا بالحق وقوله أكفرتم بعد إيمانكم ووجه الخبر أن الاستفهام تقرير فهو مثل الخبر ألا ترى أن التقرير لإيجاب بالفاء كما يجاب بها إذا لم يكن تقريراً فكأنهم يوبّخون بهذا الذي يخبرون به ويبكّتون والمعنى في القراءتين يقال لهم هذا فحذف القول كما حذف في نحو قوله
{ { أكفرتم بعد إيمانكم } [آل عمران: 106].
الإعراب: وعد الصدق نصب على المصدر تقديره وعدهم الله ذلك وعداً وإضافته إلى الصدق غير حقيقية لأن الصدق في تقدير النصب بأنه صفة وعدو الذي كانوا يوعدون موصول وصلة في موضع النصب بكونه صفة الوعد وأفٍّ لكما مبتدأ وخبر تقديره هذه الكلمة التي تقال عند الأمور المكروهة كائنة لكما. ويلك منصوب لأنه مفعول فعل محذوف تقديره ألزمك الويل. وقيل: تقديره وي لك فهو مبتدأ وخبر كما قلناه في أفّ لكما وليوفّيها معطوف على محذوف تقديره والله أعلم ليجزيهم بما عملوا وليوفّيهم أعمالهم.
المعنى: ثم أخبر سبحانه بما يستحقّه هذا الإنسان من الثواب فقال { أولئك } يعني أهل هذا القول { الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا } أي يثابون على طاعاتهم والمعنى نقبل بإيجاب الثواب لهم أحسن أعمالهم وهو ما يستحق به الثواب من الواجبات والمندوبات فإنّ المباح أيضاً من قبيل الحسن ولا يوصف بأنه متقبل { ونتجاوز عن سيئاتهم } التي اقترفوها { في أصحاب الجنة } أي في جملة من يتجاوز عن سيئاتهم وهم أصحاب الجنة فيكون قوله في أصحاب الجنة في موضع نصب على الحال { وعد الصدق الذي كانوا يوعدون } أي وعدهم وعد الصدق وهو ما وعد أهل الإيمان بأن يتقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم إذا شاء أن يتفضل عليهم بإسقاط عقابهم أو إذا تابوا الوعد الذي كانوا يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل.
{ والذي قال لوالديه } إذا دعوه إلى الإيمان { أفّ لكما } وهي كلمة تبرّم يقصد بها إظهار التسخّط ومعناه بعداً لكما. وقيل: معناه نتناً وقذراً لكما كما يقال عند شمّ الرائحة المكروهة { أتعِدانِنِي أن أُخرج } من القبر وأُحيا وأبعث { وقد خلت القرون من قبلي } أي مضت الأمم وماتوا قبلي فما أخرجوا ولا أعيدوا. وقيل: معناه خلت القرون على هذا المذهب ينكرون البعث.
{ وهما } يعني والديه { يستغيثان الله } أي يستصرخان الله ويطلبان منه الغوث ليتلطف له بما يؤمن عنده ويقولان له { ويلك آمن } بالقيامة وبما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم { إنّ وعد الله } بالبعث والنشور والثواب والعقاب { حقّ فيقول } هو في جوابهما { ما هذا } القرآن وما تزعمانه وتدعوا نني إليه { إلا أساطير الأولين } أي أخبار الأوّلين وأحاديثهم التي سطروها وليس لها حقيقة. وقيل: إنّ الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قال له أبواه أسلم وألحّا عليه فقال أحيوا لي عبد الله بن جدعان ومشايخ قريش حتى أسالهم عما تقولون عن ابن عباس وأبي العالية والسدّي ومجاهد.
وقيل: الآية عامّة في كل كافر عاقّ لوالديه عن الحسن وقتادة والزجاج قالوا ويدلّ عليه أنه قال عقيبها { أولئك الذين حقّ عليهم القول في أمم } أي حقت عليهم كلمة العذاب في أمم أي مع أمم { قد خلت من قبلهم من الجن والإنس } على مثل حالهم واعتقادهم قال قتادة: قال الحسن الجن لا يموتون فقلت أولئك الذين حق عليهم القول في أمم الآية تدل على خلافه ثم قال سبحانه مخبراً عن حالهم { إنهم كانوا خاسرين } لأنفسهم إذ أهلكوها بالمعاصي { ولكل درجات مما عملوا } أي لكل واحد ممّن تقدم ذكره من المؤمنين البررة والكافرين الفجرة درجات على مراتبهم ومقادير أعمالهم فدرجات الأبرار في عليين ودرجات الفجار دركات في سجين عن ابن زيد وأبي مسلم. وقيل: معناه ولكل مطيع درجات ثواب وإن تفاضلوا في مقاديرها عن الجبائي وعلي بن عيسى { ولنوفّيهم أعمالهم } أي جزاء أعمالهم وثوابها ومن قرأ بالياء فالمعنى وليوفّيهم الله أعمالهم { وهم لا يظلمون } بعقاب لا يستحقونه أو بمنع ثواب يستحقونه.
{ ويوم يعرض الذين كفروا على النار } يعني يوم القيامة أي يدخلون النار كما يقال عرض فلان على السوط. وقيل: معناه عرض عليهم النار قبل أن يدخلوها ليروا أهوالها { أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا } أي فيقال لهم آثرتم طيباتكم ولذّاتكم في الدنيا على طيّبات الجنة { واستمتعتم بها } أي انتفعتم بها منهمكين فيها. وقيل: هي الطيبات من الرزق يقول أنفقتموها في شهواتكم وفي ملاذّ الدنيا ولم تنفقوها في مرضاة الله.
ولمّا وبّخ الله سبحانه الكفار بالتمتع بالطيبات واللذات في هذه الدار آثر النبي صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين (ع) الزهد والتقشف واجتناب الترفّه والنعمة وقد روي في الحديث
"أن عمر بن الخطاب قال: استأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه في مشربة أمّ إبراهيم وإنه لمضطجع على خصفة وأن بعضه على التراب وتحت رأسه وسادة محشوة ليفاً فسلّمت عليه ثم جلست فقلت يا رسول الله أنت نبيّ الله وصفوته وخيرته من خلقه وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولئك قوم عجّلت طيباتهم وهي وشيكة الانقطاع وإنما أخّرت لنا طيباتنا" وقال علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلوات في بعض خطبه: والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها ولقد قال لي قائل ألا تنبذها فقلت أعزب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى.
وروى محمد بن قيس عن أبي جعفر الباقر (ع) أنه قال: والله إن كان علي (ع) ليأكل أكلة العبد ويجلس جلسة العبد وإن كان يشتري القميصين فيخيّر غلامه خيرهما ثم يلبس الآخر فإذا جاز أصابعه قطعه وإذا جاز كعبه حذفه ولقد ولي خمس سنين ما وضع آجرَّه على أجُرَّة ولا لبنة على لبنة ولا أورث بيضاء ولا حمراء وإن كان ليطعم الناس على خبز البرّ واللحم وينصرف إلى منزله فيأكل خبز الشعير والزيت والخلّ وما ورد عليه أمران كلاهما لله عز وجل فيه رضى إلا أخذ بأشدهما على بدنه ولقد أعتق ألف مملوك من كدّ يمينه تربت منه يداه وعرق فيه وجهه وما أطاق عمله أحد من الناس بعده وإن كان ليصلي في اليوم والليلة ألف ركعة وإن كان أقرب الناس شبهاً به علي بن الحسين (ع) ما أطاق عمله أحد من الناس بعده.
ثم إنه قد اشتهر في الرواية أنه (ع) لما دخل على العلاء بن زياد بالبصرة يعوده قال له العلاء يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد لبس العباءة وتخلّى من الدنيا فقال (ع) عليَّ به فلما جاء به قال يا عدوّ نفسه لقد استهام بك الخبيث أما رحمت أهلك وولدك أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها أنت أهون على الله من ذلك قال يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك قال ويحك إني لست كأنت إن الله تعالى فرض على أئمة الحق أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يَتَبَيَّغ بالفقير فقره.
{ فاليوم تجزون عذاب الهون } أي العذاب الذي فيه الذلّ والخزي والهوان { بما كنتم تستكبرون في الأرض } أي باستكباركم عن الانقياد للحق في الدنيا وتكبركم على أنبياء الله وأوليائه { بغير الحق وبما كنتم تفسقون } أي بخروجكم من طاعة الله إلى معاصيه.