خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٧
وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
١٨
-المائدة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الأحباء جمع الحبيب والحبّ المحبة وقد يكون بمعنى الإرادة وقد يكون بمعنى الشهوة وقد يستعمل في كل واحد منهما يقال: أحبُّ استقامة أمورك وأحبّ جاريتي.
الإعراب: اللام في قولـه: { لقد كفر } جواب القسم وتقديره أقسم لقد كفر الذين قالوا وإنما قال وما بينهما ولم يقل وما بينهن مع أنه ذكر السماوات على الجمع لأنه أراد به النوعين أو الصنفين كما قال الشاعر:

طَرَقا فَتِلْك هَماهِمِي أقْرِيهِما قُلُصاً لواقِحَ كالقِسّيِ وحُولا

فقال طرقا ثم قال فتلك هماهمي.
المعنى: ثم حكى سبحانه عن النصارى ما قالوا في المسيح { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } كَفَّرهم الله سبحانه بهذا القول لأنهم قالوه على وجه التدين به والاعتقاد لا على وجه الإنكار وإنما كفروا بذلك لوجهين.
أحدهما: أنهم كفروا بالنعمة من حيث أضافوها إلى غير الله ممن ادعوا إلهيته.
والآخر: أنهم كفروا بأنهم وصفوا المسيح وهو محدث بصفات الله سبحانه فقالوا هو إله وكل جاهل بالله كافر لأنه لما ضيَّع نعمة الله تعالى كان بمنزلة من أضافها إلى غيره.
{ قل } يا محمد { فمن يملك من الله شيئاً } أي من يقدر أن يدفع من أمر الله شيئاً من قولـهم ملكت على فلان أمره إذا اقتدرت عليه حتى لا يمكنه انفاذ شيء من أمره إلا بك وتقديره من يملك من أمر الله شيئاً { إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمّه ومن في الأرض جميعاً } عنى بذلك أنه لو كان المسيح إلهاً لقدر على دفع أمر الله تعالى إذا أراد إهلاكه وإهلاك غيره وليس بقادر عليه لاستحالة القدرة على مغالبة القديم أي فكيف يجوز اعتقاد الربوبية فيه مع أنه مسخر مربوب مقهور. وقيل: معناه أن من قدر على هذا لم يجز أن يكون معه إله ولا أن يشبهه شيء { ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما } ومن كان بهذه الصفة فلا ثاني له وذلك يدلّك على أن المسيح ملك له وإذا كان ملكاً لم يكن إلهاً ولا ابناً له لأن المملوك لا يجوز أن يكون مالكاً فكيف يكون إلهاً.
وقولـه: { يخلق ما يشاء } أي يخلق ما يشاء أن يخلقه فإن شاء خلق من ذكر وأنثى وإن شاء خلق من أُنثى غير ذلك فدلّ بها على أنه ليس في كون المسيح من أنثى بغير ذكر دلالة على كونه إلهاً وقولـه: { والله على كل شيء قدير } أي يقدر على كل شيء يريد أن يخلقه وفي هذه الآية رد على النصارى القائلين بأن الله جل جلاله اتحد بالمسيح فصار الناسوت لاهوتاً يجب أن يعبد ويتخذ إلهاً فاحتج عليهم بأن من جاز عليه الهلاك لا يجوز أن يكون إلهاً وكذلك من كان مولود مربوباً لا يكون ربّاً ثم حكى عن الفريقين من أهل الكتاب فقال { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحبّاؤه } قيل إن اليهود قالوا نحن في القرب من الله بمنزلة الابن من أبيه والنصارى لما قالوا للمسيح ابن الله جعلوا نفوسهم أبناء الله وأحبّاؤه لأنهم تأوّلوا ما في الإنجيل من قول المسيح: أذهب إلى أبي وأبيكم عن الحسن. وقيل: إن جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد وزيد بن التابوه وغيرهم قالوا لنبي الله حين حذَّرهم بنقمات الله وعقوباته: لا تخوّفنا فإنا أبناء الله وأحبّاؤه فإن غضب علينا فإنما يغضب كغضب الرجل على ولده يعني أنه يزول عن قريب عن ابن عباس. وقيل: إنه لما قال قوم أن المسيح ابن الله أجرى ذلك على جميعهم كما تقول العرب هذيل شعراء أي فيهم شعراء، وكما قالوا في رهط مسيلمة قالوا نحن أنبياء أي قال قائلهم وكما قال جرير:

نَدَسْنا أبا مَنْدُوسَةِ القَيْنَ بِالقَنا

فقال ندسنا وإنما كان النادس رجل من قوم جرير ثم قال تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم { قل } لهؤلاء المفترين على ربهم { فلم يعذّبكم بذنوبكم } أي فلأيّ شيء يعذبكم بذنوبكم إن كان الأمر على ما زعمتم فإن الأب يشفق على ولده والحبيب على حبيبه فلا يعذّبه وهم يُقرّون بأنهم يعذبون لو لم يقولوا به كذبوا بكتابهم وقد أقرت اليهود بأنهم يعذّبون أربعين يوماً عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل. وقيل: إن معناه الماضي وإن كان لفظه المستقبل أي فلم عذبكم الله وقد أقررتم بأنه عذبكم عند عبادتكم العجل وعذبكم بأن أعل منكم القردة والخنازير وخلى بينكم وبين بخت نصر حتى فعل بكم ما فعل والحبيب لا يعذب حبيبه فلو كنتم أحباءه لما عذبكم.
{ بل أنتم بشر ممن خلق } أي ليس الأمر على ما قلتم أنكم أبناء الله وأحباؤه بل أنتم خلق من بني آدم إن أحسنتم جوزيتم على إحسانكم وإن أسأتم جوزيتم على إساءتكم كما يجازى غيركم وليس لكم عند الله إلا ما لغيركم من خلقه { يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء } وإنما علَّق العذاب بالمشيئة مع أنه سبحانه لا يشاء العقوبة إلا لمن كان عاصياً لما في ذلك من البلاغة والإيجاز بردّ الأمور إلى العالم الحكيم الذي يجريها على وجه الحكمة { ولله ملك السماوات والأرض } يملك ذلك وحده لا شريك له يعارضه { وما بينهما } أي ما بين الصنفين ودلّ بذلك على أنه لا ولد له لأن الولد يكون من جنس الوالد فلا يكون مملوكاً له { وإليه المصير } معناه ويؤول إليه أمر العباد فلا يملك ضرّهم ونفعهم غيره لأنه يبطل تمليكه لغيره ذلك اليوم كما يقال: صار أمرنا إلى القاضي وإنما يراد بذلك أنه المتصرف فينا والأمر لنا لا على معنى قرب المكان.