خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٥٤
-المائدة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر يرتدد بِدالَيْن والباقون بدال واحدة مشددة.
الحجة: حجة من أدغم أنه لما أسكن الحرف الأول ليدغمه في الثاني وكان الثاني ساكناً حرك المدغم فيه لالتقاء الساكنين وهذه لغة بني تميم وحجة من أظهر أن الحرف المدغم لا يكون إلا ساكناً والمدغم إذا كان ساكناً والمدغم فيه كذلك التقى ساكنان والتقاء الساكنين في هذا النحو ليس من كلامهم فأظهر الحرف الأول وحركه وأسكن الثاني من المثلين وهذه لغة أهل الحجاز.
اللغة: الذِل بكسر الذال ضد الصعوبة وبضمها ضد العز يقال ذلول بيّن الذِلّ من قوم أذلة وذليل بيّن الذُلّ من قوم أذلاء والأول من اللين والانقياد والثاني من الهوان والاستخفاف والعزة الشدة يقال عززت فلاناً على أمره أي غلبته عليه والعزاز الأرض الصلبة وعزّ يعزّ الشيء إذا لم يقدر عليه وأصل الباب الامتناع.
المعنى: لَمَّا بيَّن تعالى حال المنافقين وأنهم يتربصون الدوائر بالمؤمنين وعلم أن قوماً منهم يرتدون بعد وفاته أعلم أن ذلك كائن وأنهم لا ينالون أمانيهم والله ينصر دينه بقوم لهم صفات مخصوصة تميزوا بها من بين العالمين فقال { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } أي من يرجع منكم أي من جملتكم إلى الكفر بعد إظهار الإيمان فلن يضر دين الله شيئاً فإن الله لا يخلي دينه من أنصار يحمونه { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } أي يحبهم الله ويحبون الله { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } أي رحماء على المؤمنين غلاظ شداد على الكافرين وهو من الذل الذي هو اللين لا من الذل الذي هو الهوان. قال ابن عباس: تراهم للمؤمنين كالولد لوالده وكالعبد لسيّده وهم في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته.
{ يجاهدون في سبيل الله } بالقتال لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه { ولا يخافون لومة لائم } فيما يأتون من الجهاد والطاعات واختلف فيمن وصف بهذه الأوصاف منهم فقيل هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة عن الحسن وقتادة والضحاك وقيل هم الأنصار عن السدي. وقيل: هم أهل اليمن عن مجاهد. قال: قال رسول الله:
"أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوباً وأرقّ أفئدة الإيمان يماني والحكمة يمانية وقال عياض بن غنم الأشعري لما نزلت هذه الآية أومأ رسول الله إلى أبي موسى الأشعري فقال: هم قوم هذا" وقيل: إنهم الفرس وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فضرب بيده على عاتق سلمان فقال: " هذا وذووه ثم قال: لو كان الدين معلقاً بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس" وقيل: هم أمير المؤمنين علي (ع) وأصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين والقاسطين والمارقين وروي ذلك عن عمار وحذيفة وابن عباس وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) ويؤيد هذا القول أن النبي وصفه بهذه الصفات المذكورة في الآية. فقال فيه: وقد ندبه لفتح خيبر بعد أن ردَّ عنها حامل الراية إليه مرة بعد أخرى وهو يُجبّن الناس ويُجبّنونه: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله كرَّاراً غير فرّار لا يرجع حتى يفتح الله على يده" ثم أعطاها إياه.
فأما الوصف باللين على أهل الإيمان والشدة على الكفار والجهاد في سبيل الله مع أنه لا يخاف فيه لومة لائم فممَّا لا يمكن أحداً دفعُ عليٍّ استحقاق ذلك لما ظهر من شدته على أهل الشرك والكفر ونكايته فيهم ومقاماته المشهورة في تشييد الملة ونصرة الدين والرأفة بالمؤمنين ويؤيّد ذلك أيضاً إنذار رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً بقتال علّي لهم من بعده حيث جاء سهيل بن عمرو في جماعة منهم فقالوا له يا محمد إنّ أرقّاءَنا لحقوا بك فارددهم علينا فقال رسول الله:
"لتنتهين يا معاشر قريش أو ليبعثن الله عليكم رجلاً يضربكم على تأويل القرآن كما ضربتكُم على تنزيله" فقال له بعض أصحابه: من هو يا رسول الله أبو بكر. قال: "لا ولكنه خاصف النعل في الحجرة" وكان عليُّ يخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي عن علي أنه قال يوم البصرة: والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم وتلا هذه الآية وروى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بالإسناد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "يرد عليَّ قوم من أصحابي يوم القيامة فيجلون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي أصحابي" فيقال: إنك لا علم لك بما أحدثوا من بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى. وقيل: إن الآية عامة في كل من استجمع هذه الخصال إلى يوم القيامة وذكر علي بن إبراهيم بن هاشم أنها نزلت في مهدي الأمة وأصحابه وأوَّلها خطاب لمن ظلم آل محمد وقتلهم وغصبهم حقهم.
ويمكن أن ينصر هذا القول بأن قولـه تعالى { فسوف يأتي الله بقوم } يوجب أن يكون ذلك القوم غير موجودين في وقت نزول الخطاب فهو يتناول من يكون بعدهم بهذه الصفة إلى قيام الساعة { ذلك فضل الله } أي محبتهم لله ولين جانبهم للمؤمنين وشدتهم على الكافرين بفضل من الله وتوفيق ولطف منه ومنة من جهته { يؤتيه من يشاء } أي يعطيه من يعلم أنه محل له { والله واسع } أي جواد لا يخاف نفاد ما عنده { عليم } بموضع جوده وعطائه فلا يبذُله إلا لمن تقتضي الحكمة إعطاءه. وقيل: معناه واسع الرحمة عليم بمن يكون من أهلها.