خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٢٥
-الأنعام

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن كثير ضيقاً بتخفيف الياء وسكونها ها هنا وفي الفرقان والباقون بتشديدها وكسرها وقرأ أهل المدينة وأبو بكر وسهل حرجاً بكسر الراء والباقون بفتحها وقرأ ابن كثير يصعد بتخفيف الصاد والعين وسكون الصاد وقرأ أبو بكر يصّاعد بتشديد الصاد وألف بعدها وتخفيف العين والباقون يصَّعد بتشديد الصاد والعين وفتح الصاد.
الحجة: الضيْق والضيّق بمعنى مثل المَيْت والميّت ومن فتح الراء من حرج فقد وصف بالمصدر كما قيل في قَمَن ودنَفَ ونحوهما من المصادر التي يوصف بها ومن كسر الراء من حرج فهو مثل دنِف وقمِن وقراءة ابن كثير يَصْعد من الصعود ومن قرأ يصعَّد أراد بتصعد فأدغم ومعنى يتصعد أنه يثقل الإسلام عليه فكأنه يتكلف ما يثقل عليه شيئاً بعد شيء كقولـهم يتعفَّف ويتحرَّج ونحو ذلك مما يتعاطى فيه الفعل شيئاً بعد شيء ويصَّاعد مثل يصعد في المعنى فهو مثل ضاعف وضعَّف وناعم ونعَّم وهما من المشقة وصعوبة الشيء ومن ذلك قولـه:
{ يسلكه عذاباً صعداً } [الجن: 17] وقولـه: { سأرهقه صعوداً } [المدثر: 17] أي سأغشيه عذاباً صعوداً وعقبة صعود أي شاقة ومن ذلك قول عمر بن الخطاب ما تصعَّد في شيء كما تصعَّد في خطبة النكاح أي ما شقَّ عليَّ شيء مشقَّتها.
اللغة: الحرج والحرج أضيق الضيق قال أبو زيد: حرج عليه السَحَر يحرج حرجاً إذ أصبح قبل أن يتسحر وحرم عليه حرماً وهما بمعنى واحد وحرجتْ على المرأة الصلاة وحرمت بمعنى واحد وحرج فلان إذا هاب أن يتقدم على الأمر وقاتل فصبر وهو كاره وقد ذكرنا معاني الهداية والهدى والضلال والإضلال في سورة البقرة وما يجوز إسناده إلى الله تعالى من كلا الأمرين وما لا يجوز عند قولـه:
{ { وما يضل به إلا الفاسقين } [البقرة: 26].
المعنى: لمّا تقدّم ذكر المؤمنين والكافرين بيَّن عقبه ما يفعله سبحانه بكل من القبيلتين فقال: { فمن يرد الله أن يهديه } قد ذكر في تأويل الآية وجوه:
أحدها: أن معناه: { فمن يرد الله أن يهديه } إلى الثواب وطريق الجنة: { يشرح صدره } في الدنيا { للإسلام } بأن يثبت عزمه عليه ويقوّي دواعيه على التمسك به ويزيل عن قلبه وساوس الشيطان وما يعرض في القلوب من الخواطر الفاسدة وإنما يفعل ذلك لطفاً له ومنّاً عليه وثواباً على أهتدائه بهدى الله وقبوله إياه ونظيره قولـه سبحانه:
{ { والذين اهتدوا زادهم هدى } [محمد: 17] { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } [مريم: 76].
{ ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً } يعني ومن يرد أن يضله عن ثوابه وكرامته يجعل صدره في كفره ضيقاً حرجاً عقوبة له على ترك الإيمان من غير أن يكون سبحانه مانعاً له عن الإيمان وسالباً إياه القدرة عليه بل ربما يكون ذلك سبباً داعياً له إلى الإيمان فإن من ضاق صدره بالشيء كان ذلك داعياً له إلى تركه والدليل على أنّ شرح الصدر قد يكون ثواباً قولـه سبحانه:
{ ألم نشرح لك صدرك } [الشرح: 1] الآيات ومعلوم أن وضع الوزر ورفع الذكر يكون ثواباً على تحمل أعباء الرسالة وكُلَفها فكذلك ما قرن به من شرح الصدر والدليل على أن الهدى قد يكون إلى الثواب قولـه: { { والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم } [محمد: 5] ومعلوم أن الهداية بعد القتل لا تكون إلا إلى الثواب فليس بعد الموت تكليف وقد وردت الرواية الصحيحة "أنه لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر ما هو فقال: نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له صدره وينفسح قالوا: فهل لذلك من إمارة يعرف بها قال صلى الله عليه وسلم: نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت" .
وثانيها: أن معنى الآية فمن يرد الله أن يثبته على الهدى يشرح صدره من الوجه الذي ذكرناه جزاء له على إيمانه واهتدائه وقد يطلق لفظ الهدى المراد به الاستدامة كما قلناه في قولـه: { { اهدنا الصراط المستقيم } [الفاتحة: 6] { ومن يرد أن يضله } أي يخذله ويخلّي بينه وبين ما يريده لاختيار الكفر وتركه الإيمان { يجعل صدره ضيقاً حرجاً } بأن يمنعه الألطاف التي ينشرح لها صدره لخروجه من قبولها بإقامته على كفره فإن قيل إنا نجد الكافر غير ضيق الصدر لما هو فيه ونراه طيّب القلب على كفره فكيف يصح الخلف في خبره سبحانه قلنا إنه سبحانه بيّن أنه يجعل صدره ضيقاً ولم يقل في كل حال ومعلوم من حاله في أحوال كثيرة أنه يضيق صدره بما هو فيه من ورود الشبه والشكوك عليه وعندما يجازي الله تعالى المؤمن على استعمال الأدلة الموصلة إلى الإيمان وهذا القدر هو الذي يقتضيه الظاهر.
وثالثها: أن معنى الآية من يرد الله أن يهديه زيادة الهدى التي وعدها المؤمن يشرح صدره لتلك الزيادة لأن من حقها أن تزيد المؤمن بصيرة ومن يرد أن يضله عن تلك الزيادة بمعنى يذهبه عنها من حيث أخرج هو نفسه من أن يصح عليه يجعل صدره ضيقاً حرجاً لمكان فقد تلك الزيادة لأنها إذا اقتضت في المؤمن ما قلناه أوجب في الكافر ما يضاده ويكون الفائدة في ذلك الترغيب في الإيمان والزجر عن الكفر وهذا التأويل قريب مما تقدمه وقد روي عن ابن عباس أنه قال إنما سمى الله قلب الكافر حرجاً لأنه لا يصل الخير إلى قلبه وفي رواية أخرى لا تصل الحكمة إلى قلبه ولا يجوز أن يكون المراد بالإضلال في الآية الدعاء إلى الضلال ولا الأمر به ولا الإجبار عليه لإجماع الأمة على أن الله تعالى لا يأمر بالضلال ولا يدعو إليه فكيف يجبر عليه والدعاء إليه أهون من الإجبار عليه وقد ذمّ الله تعالى فرعون والسامري على إضلالهما عن دين الهدى في قولـه:
{ وأضل فرعون قومه وما هدى } [طه: 79] وقولـه: { { فأضلهم السامري } [طه: 85] ولا خلاف في أن إضلالهما إضلال أمر وإجبار ودعاء وقد ذمّهما الله تعالى عليه مطلقاً فكيف يتمدح بما ذم عليه غيره.
قولـه: { كأنما يصعّد في السماء } فيه وجوه:
أحدها: معناه كأنه قد كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه أو كأن قلبه يصعد في السماء نُبُوّاً عن الإسلام والحكمة عن الزجاج.
وثانيها: أن معنى يصعد كأنه يتكلف مشقة في ارتقاء صعود وعلى هذا قيل عقبة عَنوت وكؤود عن أبي علي الفارسي قال ولا يكون السماء في هذا القول المظلة للأرض ولكن كما قال سيبويه: القيدود الطويل في غير سماء أي في غير ارتفاع صُعُدا وقريب منه ما روي عن سعيد بن جبير أن معناه كأنه لا يجد مسلكاً إلاّ صُعُدا.
وثالثها: أن معناه كأنما ينزع قلبه إلى السماء لشدة المشقة عليه في مفارقة مذهبه.
{ كذلك يجعل الله الرجس } أي العذاب عن ابن زيد وغيره من أهل اللغة. وقيل: هو ما لا خير فيه عن مجاهد { على الذين لا يؤمنون } وفي هذا دلالة على صحة التأويل الأول لأنه تعالى بيّن أن الإضلال المذكور في الآية كان على وجه العقوبة على الكفر ولو كان المراد به الإجبار على الكفر لقال كذلك لا يؤمن من جعل الله الرجس على قلبه ووجه التشبيه في قولـه: { كذلك يجعل الله الرجس } أنه يجعل الرجس على هؤلاء كما يجعل ضيق الصدر في قلوب أولئك وأنّ كل ذلك على وجه الاستحقاق وروى العياشي بإسناده عن أبي بصير عن خيثمة قال سمعت أبا جعفر (ع) يقول: إن القلب يتقلب من لدن موضعه إلى حنجرته ما لم يصب الحق فإذا أصاب الحق قرَّ ثم قرأ هذه الآية.