خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥
وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ
٦
-التوبة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الانسلاخ خروج الشيء مما لابسه وأصله من سلخ الشاة وهو نزع الجلد عنها وسلخنا شهر كذا نسلخه سَلْخا وسلوخاً والحصر المنع من الخروج عن محيط والحَصر والحبس الأسر نظائر والمرصد الطريق ومثله المرقب والمربأ ورَصَده يَرصدُه رَصْداً.
الإعراب: قال أبو الحسن الأخفش: قوله { كل مرصد } المعنى على كل مرصد فحذفت على أنشد:

نُغالِي اللَّحْمَ لِلأَضْيافِ نَيّـاً وَنَرْخُصُـهُ إذا نَضَجَ القُدُورُ

المعنى: نغالي باللحم فحذفت الباء. قال الزجاج: كل مرصد ظرف كقولك ذهبت مذهباً وذهبت طريقاً وذهبت كل طريق, قال أبو علي: لا يحتاج في هذا إلى تقدير على إذا كان المرصد اسماً للمكان كما أنك إذا قلت ذهبت مذهباً ودخلت مدخلاً إذا جعلت المذهب والمدخل اسمين للمكان لم يحتج إلى عَلى ولا إلى تقدير حرف جرّ إلا أن أبا الحسن ذهب إلى أن المرصد اسم للطريق وإذا كان اسماً للطريق كان مخصوصاً وإذا كان مخصوصاً وجب أن لا يصل الفعل الذي لا يتعدى إليه إلا بحرف جر نحو قعدت على الطريق إلا أن يجيء في ذلك اتساع نحو ما حكاه سيبويه من قولهم ذهبت لشام ودخلت البيت، وقد غلط أبو إسحاق الزجاج قي قوله { كل مرصد } ظرف كقولك ذهبت مذهباً وذهبت طريقاً في أن جعل الطريق ظرْفاً كالمذهب وليس الطريق بظرف لأنه مكان مخصوص وقد نصَّ سيبويه على اختصاصه ألا ترى أنه حمل قول ساعدة:

لَدْنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُـــــهُ فِيهِ كَما عَسَلَ الطَّريقَ الثَّعْلَبُ

على أنه قد حذف منه الحرف اتساعاً كما حذف من ذهبت الشام وإذا أثبت ذلك فالمرصد مثله أيضاً في الاختصاص وأن لا يكون ظرفاً إذا كان اسماً للطريق. وقولـه: { أحد } فإعرابه أنه مرفوع بفعل مضمر الذي ظهر تفسيره، المعنى وإن استجارك أحد. قال الزجاج: ومن زعم أنه يرفع أحداً بالابتداء فقد أخطأ لأن إن الجزاء لا يتخطى ما يرفع بالابتداء ويعمل فيما بعده فلو أظهرت المستقبل لقلت: إن أحد يَقُم أكرِمْه ولا يجوز أن أحد يقم زيد يقم لا يجوز أن يرفع زيد بفعل مضمر الذي ظهر تفسيره ويجزم وإنما جاز في أن لأن أن يلزمها الفعل وجواب الجزاء يكون بالفعل وغيره ولا يجوز أن تضمر وتجزم بعد المبتدأ لأنك تقول ها هنا إنْ تأتني فزيد يقوم فالموضع موضع ابتداء.
قال أبو علي: اعلم أن جواب الشرط وإن كان بغير الفعل فالأصل فيه الفعل والفاء وإذا واقعان موقع الفعل بدلالة أن قوله { ويذرهم } على قراءة من قرأ بالجزم فمحمول على الموضع من قوله { فلا هادي له } وأما قول أبي إسحاق لا يجوز أن تضمر وتجزم بعد المبتدأ ولعمري أنه لا يجوز أن يضمر الفعل فيرفع الاسم الذي يرتفع بالابتداء بالفعل المضمر في نحو قولك إن تأتني فزيد يقوم لأن الجزم لا يقع بعد المبتدأ ولكن لا يمتنع أن يقع الجزم بعد الفاعل في الجزاء كما يقع في الشرط لأن الجزاء موضع فعل كما أن الشرط موضع فعل فالمسألة التي منع أبو إسحاق إجازتها جائزة لا إشكال في جوازها وهي قولـه إن يقم أحد زيد يقم وقد نصَّ سيبويه على إجازة ذلك قال. الزجاج: وإنما يجوز الفصل في باب إن لأن إن أمُّ الجزاء ولا يزول عنه إلى غيره فأما أخواتها فلا يجوز ذلك فيها إلا في الشعر قال:

فَمَتى وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّـــو هُ وَتُعْطَفُ عَلَيْهِ كَأْسُ السَّاقِي

المعنى: ثم بيَّن سبحانه الحكم في المشركين بعد انقضاء المدة فقال { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } قيل: هي الأشهر الحرم المعروفة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ثلاثة سَرد وواحد فرد عن جماعة. وقيل: هي الأشهر الأربعة التي حرَّم القتال فيها وجعل الله للمشركين أن يسيحوا في الأرض آمنين على ما ذكرناه من اختلاف المفسرين فيها وعلى هذا فمنهم من قال معناه { فإذا انسلخ الأشهر } بانسلاخ المحرم لأن المشركين من كان منهم لهم عهد أمهلوا أربعة أشهر من حين نزلت براءة ونزلت في شوال ومن لا عهد لهم فأجلهم من يوم نزول النداء وهو يوم عرفة أو يوم النحر إلى تمام الأشهر الحرم وهي بقية ذي الحجة والمحرم كله فيكون ذلك خمسين يوماً فإذا انقضت هذه الخمسون يوماً انقضى الأجلان وحلَّ قتالهم سواء كان لهم عهد خاص أو عام. ومنهم من قال: معناه { إذا انسلخ الأشهر } الأربعة التي هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من شهر ربيع الآخر إذ حرَّمنا فيها دماء المشركين وجعلنا لهم أن يسيحوا فيها آمنين.
{ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } أي فضعوا السيف فيهم حيث كانوا في الأشهر الحرم وغيرها في الحلّ أو في الحرم وهذا ناسخ لكل آية وردت في الصلح والإعراض عنهم { وخذوهم } قيل: فيه تقديم وتأخير وتقديره فخذوا المشركين حيث وجدتموهم واقتلوهم. وقيل: ليس فيه تقديم وتأخير وتقديره فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم أو خذوهم واحصروهم على وجه التخيير في اعتبار الأصلح من الأمرين. وقولـه { واحصروهم } معناه واحبسوهم واسترقوهم أو فادوهم بمال. وقيل: وامنعوهم دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام.
{ واقعدوا لهم كل مرصد } أي بكل طريق وبكل مكان تظنُّون أنهم يمرّون فيه وضيِّقوا المسالك عليهم لتمكنوا من أخذهم وقوله { لهم } معناه لقتلهم وأسرهم { فإن تابوا } أي رجعوا من الكفر وانقادوا للشرع { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } أي قبلوا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأن عصمة الدم لا تقف على إقامة الصلاة وأداء الزكاة فثبت أن المراد به القبول { فخلُّوا سبيلهم } أي دعوهم يتصرَّفون في بلاد الإسلام لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. وقيل: معناه فخلُّوا سبيلهم إلى البيت أي دعوهم يحجُّوا معكم.
{ إن الله غفور رحيم } واستدلُّوا بهذه الآية على أن من ترك الصلاة متعمداً يجب قتله لأن الله تعالى أوجب الامتناع من قتل المشركين بشرط أن يتوبوا ويقيموا الصلاة فإذا لم يقيموها وجب قتلهم { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } معناه وإن طلب أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم منك الأمان من القتل بعد الأشهر الأربعة ليسمع دعوتك واحتجاجك عليه بالقرآن فأمنه وبيّن له ما يريد وأمهله حتى يسمع كلام الله ويتدبَّره وإنما خصَّ كلام الله لأن معظم الأدلة فيه { ثم أبلغه مأمنه } معناه فإن دخل في الإسلام نال خير الدارين وإن لم يدخل في الإسلام فلا تقتله فتكون قد غدرت به ولكن أوصله إلى ديار قومه التي يأمن فيها على نفسه وماله { ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } أي ذلك الأمان لهم بأنهم قوم لا يعلمون الإيمان والدلائل فآمنهم حتى يسمعوا ويتدبروا ويعلموا وفي هذا دلالة على بطلان قول من قال المعارف ضرورية وفي الآية دلالة على أن المتلو والمسموع كلام الله لأن الشرع والعرب جعلا الحكاية كعين المحكي يقال هذا كلام سيبويه وشعر امرئ القيس ومن ظنَّ أن الحكاية تفارق المحكي لأجل هذا الظاهر فقد غلط لأن المراد ما ذكرناه.