خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً
١٦
فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً
١٧
قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً
١٨
قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً
١٩
قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً
٢٠
-مريم

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ ابو عمرو ونافع فى رواية ورش وقالون عنه { ليهب لك } بالياء { ربك غلاماً } الباقون { لأهب } بالهمزة على الحكاية، وتقديره قال ربك لاهب لك.
وقال الحسن: معناه لاهب لك باذن الله { غلاماً زكياً } اى صار بالبشارة كأنه وهب لها. وضعف ابو عبيدة قراءة أبي عمرو، لانها خلاف المصحف. قال ابن خالويه: حجة ابي عمرو أن حروف المد واللين وذوات الهمز يحول بعضها الى بعض، كما قرئ (ليلا) بالياء - والاصل الهمزة: (لئلا)
قال ابو عليّ النحوي: من قرأ - بالياء - يجوز أن يكون أراد الهمزة، وانما قلبها ياء على مذهب ابي الحسن أو جعلها بين بين قول الخليل. وفى قراءة أبي وابن مسعود (ليهب) بالياء، وهو الاجود، ومعنى "زكيا" نامياً على الخير والبركة يقول الله تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) { واذكر في الكتاب مريم } والذكر إدراك النفس للمعنى بحضوره فى القلب، والاذكار احضار النفس للمعنى، وقد يكون الذكر قولا يحضر المعنى للنفس، والمراد بالكتاب - ها هنا - القرآن وإنما سمي كتاباً، لانه مما يكتب.
وقوله { إذ انتبذت من أهلها } فالانتباذ اتخاذ الشيء بالقاء غيره عنه، والاصل الالقاء من قولهم: نبذه وراء ظهره أي القاه، وفي هذا الطعام نبذ من شعير اي مقدار كف منه، والنبذ الطرح. وقال قتادة: معنى انتبذت انفردت. وقيل: معناه اتخذت مكاناً تنفرد فيه بالعبادة. وقيل معناه تباعدت. وقوله { مكاناً شرقياً } يعني الموضع الذي فى جهة الشرق، قال جرير:

هبت جنوباً فذكرى ما ذكرت لكم عند الصفاة التي شرقيّ حورانا

وقال السدي: معنى { فاتخذت من دونهم حجاباً } أي حجاباً من الجدران. قال ابن عباس: انما جعلت النصارى قبلتهم الى المشرق، لان مريم اتخذت من جهة المشرق موضع صلاتها. وقال ابن عباس: معنى { من دونهم حجاباً } أي من الشمس جعله الله لها ساتراً.
وقوله { فأرسلنا إليها روحنا } قال الحسن وقتادة والضحاك والسدي، وابن جريج، ووهب بن منية: يعني جبرائيل (ع) وسماه الله (روحاً) لانه روحاني لا يشبه شيئاً من غير الروح. وخص بهذه الصفة تشريفاً له. وقيل لأنه تحيا به الأرواح بما يؤديه اليهم من أمر الاديان والشرائع.
وقوله { فتمثل لها بشراً سوياً } أي تمثل لها جبرائيل في صورة البشر "سوياً" أى معتدلا، فلما رأته مريم، { قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً } تخاف عقوبة الله.
فان قيل كيف تعوذت منه إن كان تقياً؟ والتقي لا يحتاج أن تتعوذ منه، وانما يتعوذ من غير التقي!!
قيل المعنى فى ذلك إن التقي للرحمن إذا تعوذ بالرحمن منه ارتدع عما يسخط الله، ففي ذلك تخويف وترهيب، كما يقول القائل: إن كنت مؤمناً، فلا تظلمنى، وتكون هي غير عالمة بأنه تقي أم لا، فلما سمع جبرائيل منها هذا القول، قال لها: { إنما أنا رسول ربك } ارسلني الله لابشرك بأنه يهب { لك غلاماً } ذكراً { زكياً } طاهراً من الذنوب. وقيل: نامياً فى أفعال الخير. فقالت مريم عند ذلك متعجبة من هذا القول: { أنى يكون لي غلام } أي كيف يكون ذلك { ولم يمسسني بشر } بالجماع على وجه الزوجية { ولم أك بغياً } أي لم أكن زانية - فى قول السدى وغيره -. و (البغي) التي تطلب الزنا، لأن معنى تبغيه تطلبه، و { لم أك } اصلها لم اكن لانه من (كان، يكون) وإنما حذفت النون، لاستخفافها على ألسنتهم، ولكثرة استعمالهم لها، كما حذفوا الالف فى { لم أبل } واصله (لم أبالي) لأنه من المبالاة وكقولهم: (لا أدر) وقولهم: (أيش) واصله أى شيء، ومثله: لا أب لشانئك واصله لا أبا لشانئك، ومثله كثير.