خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً
٢٦
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً
٢٧
يٰأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً
٢٨
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً
٢٩
قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً
٣٠
-مريم

التبيان الجامع لعلوم القرآن

لما قال جبرائيل لمريم { هزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً } قال لها بعد ذلك { فكلي } من ذلك الرطب { واشربي } من السري { وقري عيناً } ونصبه على التمييز كقوله { { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً } وقيل فى معنا { قري عيناً } قولان: احدهما - لتبرد عينك برد سرور بما ترى.
الثاني - لتسكن سكون سرور برؤيتها ما تحب، يقال قررت به عيناً أقر قروراً وهي لغة قريش. وأهل نجد يقولون: قررت به عيناً - بفتح العين - اقر قراراً، كما يقولون قررت بالمكان - بالفتح.
وقوله { فأما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً } قال الجبائي: كان الله تعالى أمرها بأن تنذر الله تعالى الصمت، فاذا كلمها احد تومي بأنها نذرت صوماً صمتاً، لانه لا يجوز ان يأمرها بان تخبر بانها نذرت ولم تنذر، لأن ذلك كذب. وقال انس بن مالك وابن عباس والضحاك: تريد بالصوم الصمت. وقال قتادة: يعني صمتاً عن الطعام والشراب والكلام أي إمساكاً. وانما أمرها بالصمت ليكفيها الكلام ولدها بما يبرئ ساحتها - في قول ابن مسعود وابن زيد ووهب ابن منية وقيل: من كان صام في ذلك الوقت لا يكلم الناس، فاذن لها فى هذا المقدار من الكلام، في قول السدي.
فان قيل كيف تكون نذرت الصمت وألا تكلم أحداً مع قولها واخبارها عن نفسها بانها نذرت وهل ذلك إلا تناقض؟
قيل من قال: انه أذن لها فى هذا القدر فحسب، يقول: انها نذرت لا تكلم بما زاد عليه. ومن قال: انها نذرت نذراً عاماً، قال: أومت بذلك ولم تتلفظ به. وقيل: أمرها الله أن تشير اليهم بهذا المعنى، وانها ولدته بناحية بيت المقدس، وفى موضع يعرف بـ (بيت لحم).
ثم اخبر الله تعالى عن حال مريم أنها اتت بعيسى الى قومها تحمله، فلما رأوها قالوا لها { لقد جئت شيئاً فرياً } أي عملا عجيباً قال الراجز:

قد اطعمتني دقلا حوليا مسوساً مدوداً حجريا
قد كنت تفرين به الفريا

قال قتادة ومجاهد والسدي: معنى الفري العظيم من الأمر. وقيل الفري القبيح من الافتراء، فقال لها قومها { يا أخت هارون } وقيل فى هارون الذي نسبت اليه بالاخوة أربعة أقوال:
فقال قتادة: وكعب وابن زيد والمغيرة بن شعبة يرفعه الى النبي (صلى الله عليه وسلم): انه كان رجلا صالحاً فى بني اسرائيل ينسب اليه من عرف بالصلاح.
وقال السدي: نسبت الى هارون أخي موسى (ع) لأنها كانت من ولده كما يقال يا أخا بني فلان.
وقال قوم: كان رجلا فاسقاً معلناً بالفسق، فنسبت اليه.
وقال الضحاك: كان أخاها لابيها وأمها، وكان بنو إسرائيل يسمون أولادهم باسماء الأنبياء كثيراً. وقوله { ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً } اي لم يكن أبواك إلا صالحين، ولم يكونا فاجرين، فكيف خالفتيهما { فأشارت إليه } اي أومأت عند ذلك مريم الى عيسى (ع) أن كلموه، واستشهدوه على براءة ساحتي { فقالوا } في جوابها { كيف نكلم من كان في المهد صبياً } قال قوم: دخلت (كان) ها هنا زائدة ونصب { صبياً } على الحال. وانشد أبو عبيدة في زيادة (كان):

الى كناس كان مستعدة

وقال آخر:

فكيف إذا رأيت ديار قومي وجيران لنا كانوا كرام

والمعنى وديار جيران كرام و (كانوا) فضلة، فلذلك لم تعمل. وقيل معنى (كان) صار وانشد لزهير:

اجزت اليه حرة أرجية وقد كان لون الليل مثل الارندج

اي قد صار. وقال المبرد: معنى (كان) حدث. وقال الزجاج: معناه على الشرط، وتقديره من كان في المهد صبياً كيف نكلمه على التقديم والتأخير. وقال قتادة: المهد حجر أمه، واصله ما وطئ للصبي. وقيل: انهم غضبوا عند اشارتها الى ذلك وقالوا: لسخريتها بنا أشد علينا من زناها، فلما تكلم عيسى، قالوا: إن هذا الامر عظيم - ذكره السدي - فقال عيسى (ع) عند ذلك { إني عبد الله آتاني الكتاب } قال عكرمة: معناه فيما مضى { وجعلني نبياً } لان الله أكمل عقله وأرسله الى عباده ولذلك كانت له تلك المعجزة - في قول الحسن وابي علي الجبائي - وقال قوم: معناه { إني عبد الله } سيؤتيني الكتاب ويجعلني نبياً فيما بعد، وكان ذلك معجزة لمريم على براءة ساحتها على قول من أجاز اظهار المعجزات على يد غير الانبياء من الصالحين. وقال ابن الاخشاذ: كان ذلك إنذاراً لنبوته. وقال الجبائي معنى { وجعلني نبياً } أي وجعلني رفيعاً لان النبي هو الرفيع.