خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً
٤
وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً
٥
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً
٦
-مريم

التبيان الجامع لعلوم القرآن

قرأ ابو عمرو والكسائي "يرثني" جزماً على أنه جواب الأمر. الباقون بالرفع على أنه صفة لـ { ولياً }. فمن رفع قال "ولياً" نكرة فجعل "يرثني" صلة له، كما تقول أعرني دابة اركبها، ولو كان الاسم معرفة، لكان الاختيار الجزم، كقوله { { فذروها تأكل في أرض الله } والنكرة كقوله { { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } وقال مجاهد: من جزم جاز ان يقف على "ولياً". ومن رفع لم يجز لانه صلة، ولان المفسرين قالوا: تقديره "هب لي" الذي "يرثني" أي وارثاً فكل ذلك يقوّي الرفع.
حكى الله تعالى ما نادى به زكريا ودعى ربه به، وهو أن قال { رب } أي يا رب وأصله ربي، وانما حذف الياء تخفيفاً وبقيت الكسرة تدل عليها { إني وهن العظم مني } أي ضعف، والوهن الضعف، وهو نقصان القوة، يقال: وهن الرجل يهن وهناً إذا ضعف. ومنه قوله
{ { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون } وإنما اضاف الوهن الى العظم، لأن العظم مع صلابته إذا كبر ضعف، وتناقص، فكيف باللحم والعصب. وقيل شكى البطش وهو قلة العطس وهو لا يكون إلا بالعظم. وقوله { واشتعل الرأس شيباً } معناه انتشر الشيب في الرأس، كما ينتشر شعاع النار، وهو من أحسن الاستعارات. والاشتعال انتشار شعاع النار، والشيب مخالطة الشعر الابيض للاسود في الرأس وغيره من البدن، وهو مثل الشائب الذي يخالط الشيء من غيره { ولم أكن بدعائك رب شقياً } تمام حكاية ما دعا به زكريا، وانه قال لم اكن يا رب بدعائي اياك شقياً أي كنت ادعوك وحدك واعترف بتوحيدك. وقيل معناه اني إذا دعوتك اجبتني، والدعاء طلب الفعل من المدعو، وفي مقابلته الاجابة، كما أن فى مقابلة الأمر الطاعة. ويحتمل نصب "شيباً" أمرين:
احدهما - ان يكون نصباً على المصدر كأنه قال شاب شيباً.
والثاني - التمييز كقولهم تصببت عرقاً وامتلأت ماء وقوله { وإني خفت الموالي من ورائي } قال مجاهد وأبو صالح، والسدي: الموالي ها هنا العصبة. وقيل خفت الموالي بني عمي على الدين، لانهم كانوا شرار بني اسرائيل، وانما قيل لبني العم موالي لأنهم الذين يلونه فى النسب بعد الصلب. وقيل معنى الموالي الأولياء ان يرثوا علمي دون من كان من نسلي وانشدوا في أن الموالي بنو العم قول الشاعر:

مهلا بني عمنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

والمولى المِعتق، والمَعتق، والمولى الناصر، والمولى الولي والمولى الاولى.
وروي عن عثمان أنه قرأ { وإني خفت الموالي } بفتح الخاء وتشديد الفاء.
وقوله { وكانت امرأتي عاقراً } يعني لا تلد، ويقال للمرأة التي لا تلد: عاقر والرجل الذي لا يولد له: عاقر قال الشاعر:

لبئس الفتى إن كنت اسود عاقراً جباناً فما عذري لدى كل محضر

والعقر فى البدن الجرح ومنه اخذ العاقر، لانه نقص أصل الخلقة إما بالجراحة، وإما بامتناع الولادة، ومنه العقار، لان فساده نقص لأصل المال. وقوله { يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيّاً } والميراث تركة الميت ما كان يملكه لمن بعده من مستحقيه بحكم الله فيه، يقال: ورث يرث ارثاً وميراثاً وتوارثوا توارثاً وورثه توريثاً، وأورثه علماً ومالا. و (الآل) خاصة الرجل الذين يؤل أمرهم اليه. وقد يرجع اليه أمرهم بالقرابة تارة وبالصحبة أخرى، وبالدين والموافقة، ومنه قيل (آل النبي) (صلى الله عليه وسلم).
وقوله { يرثني ويرث من آل يعقوب } قال أبو صالح: معناه يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة. وقال الحسن يرثني العلم والنبوة، وقال مجاهد يرث علمه. وقال السدي: يرث نبوته ونبوة آل يعقوب، وكان آل يعقوب أخواله، وهو يعقوب ابن ماتان، وكان قيم الملك منهم، وكان زكريا من ولد هارون بن عمران أخي موسى ابن عمران. قال مقاتل: يعقوب بن ماثان اخو عمران ابي مريم، وهما ابنا ماثان.
وقوله { واجعله رب رضيّاً } والجعل على اربعة اقسام:
احدها - بمعنى الاحداث كقولهم جعل البناء أي احدثه.
والثاني - احداث ما يتغير به كقولهم: جعل الطين خزفاً أي احدث ما به يتغير
الثالث - ان يحدث فيه حكما كقولهم: جعل فلان فلاناً فاسقاً أي بما أحدث فيه من حكمه وتسميته.
الرابع - أن يحدث ما يدعوه الى ان يفعل كقولهم: جعله يقتل زيداً اي بما أمره به ودعاه الى قتله.
ومعنى { واجعله رب رضيّاً } أي اجعل ذلك الولي الذي يرثني مرضياً عندك ممتثلا لأمرك عاملا بطاعتك.
وفي الآية دلالة على ان الانبياء يورثون المال بخلاف ما يقول من خالفنا انهم لا يورثون، لأن زكريا صرح بدعائه وطلب من يرثه ويحجب بني عمه وعصبته من الولد. وحقيقة الميراث انتقال ملك المورث الى ورثته بعد موته بحكم الله. وحمل ذلك على العلم والنبوة على خلاف الظاهر، لان النبوة والعلم لا يورثان، لأن النبوة تابعة للمصلحة لا مدخل للنسب فيها، والعلم موقوف على من يتعرض له ويتعلمه، على أن زكريا إنما سأل ولياً من ولده يحجب مواليه من بني عمه وعصبته من الميراث وذلك لا يليق إلا بالمال، لان النبوة والعلم لا يحجب الولد عنهما بحال، على أن اشتراطه ان يجعله { رضيا } لا يليق بالنبوة، لان النبي لا يكون إلا رضياً معصوما، فلا معنى لمسألته ذلك، وليس كذلك المال، لأنه يرثه الرضي وغير الرضي. واستدل المخالف بهذه الآية على أن البنت لا تحوز المال دون بني العم والعصبة، لان زكريا طلب ولياً يمنع مواليه، ولم يطلب ولية. وهذا ليس بشيء، لان زكريا إنما طلب ولياً، لان من طباع البشر الرغبة فى الذكور دون الاناث من الأولاد، فلذلك طلب الذكر، على أنه قيل ان لفظ الولي يقع على الذكر والانثى، فلا نسلم أنه طلب الذكر بل يقتضي الظاهر أنه طلب ولداً سواء كان ذكراً او انثى.
والوراء الخلف والوراء القدام ممدود وكذلك الوراء ولد الولد ممدود. والورى مقصوراً: داء فى الجوف. والورى ايضاً الخلق مقصور، وكلهم قرأ "ورائي" ممدوداً ساكن الياء إلا ما رواه ابن مجاهد عن قنبل بفتح الياء مع المدّ، وروي عن شبل عن ابن كثير (وراي) مقصوراً مثل هداي بغير همز، وفتح الياء. قال أبو علي لا أعلم أحداً من اهل اللغة حكى القصر فى هذه اللفظة، ولعلها لغة جاءت، وقد جاء فى الشعر قصر الممدود، وقياسه رد الشيء الى أصله، واللام فى هذه الكلمة همزة، وليس من باب الورى. وقال ابو عبيدة وغيره { من ورائي } يعني من قدامي، ومثله
{ { وكان وراءهم ملك } أي بين أيديهم. وحكي عن الثوري وراء الرجل خلفه وقدامه. وقوله { { ومن ورائه عذاب } اى قدامه.
وقوله { وإني خفت الموالي } فان الخوف لا يكون من الاعيان وإنما يكون من معان فيها، فقولهم خفت الله اى خفت عقابه، وخفت الموالي خفت تضييعهم مالي وانفاقه في معصية الله.