خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
١٦٤
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

القراءة:
قرأ نافع, وابن كثير، وابو عمرو، وابن عاصم، وابن عامر { الرّياح }
على الجمع. الباقون على التوحيد، ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام.
المعنى:
لما أخبر الله تعالى الكفار بأن إلههم إله واحد لاثاني له، قالوا: ما الدلالة على ذلك؟ فقال الله عزّ وجل: { إنّ في خلق السماوات والأرض } الآية الى آخرها.
ووجه الدّلالة من الآية { أن في خلق السماوات والأرض } يدل على أنّ لها خالق، لا يشبهها ولا تشبهه، لانه لا يقدر على خلق الاجسام إلا القديم القادر لنفسه الذي ليس بجسم، ولا عرض، إذ جميع ذلك محدث ولابدّ له من محدث ليس بمحدث، لاستحالة التسلسل. وأما { الليل والنهار }، فيدلان على عالم مدبر من جهة أنه فعل محكم، متقن، واقع على نظام واحد، وترتيب واحد، لا يدخل شيئاً من ذلك تفاوت، ولا اختلاف.
وأما { الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } فتدل على منعم دبّر ذلك لمنافع خلقه، ليس من جنس البشر، ولا من قبيل الأجسام، لان الاجسام يتعذر عليها فعل ذلك.
وأما الماء الذي ينزل من السماء، فيدل على منعم به يقدر على التصريف فيما يشاء من الأمور، لايعجزه شيء.
وأمّا { إحياء الأرض بعد موتها }، فيدل على الانعام بما يحتاج اليه العباد. وإحياؤها: إخراج النبات منها، وأنواع الثمار { وبث فيها من كل دابة } دالّ على ان لها صانعاً مخالفاً لها منعماً بأنواع النعم. { وتصريف الرياح } يدل على الاقتدار على ما لا يتأتى من العباد ولو حرصوا كل الحرص، واجتهدوا كل الاجتهاد، لأنه إذا ذهبت جنوباً مثلا، فاجتمع جميع الخلق على أن يقلبوها شمالاً أو صباً أو دبوراً، لما قدروا على ذلك، ولا تمكنوا على ردِّه من الجهة التي يجيء منها.
وأما { السحاب المسخر } فيدل على أنه يمسكه القديم، والذي لاشبه له ولا نظير، لأنه لا يقدر على تسكين الاجسام الثقال بغير علاقة ولا دعامة إلا الله تعالى، وكذلك لا يقدر على تسكين الارض كذلك إلا القادر لنفسه،، فهي تدل على صانع غير مصنوع قديم لا يشبهه شيء، قادر لا يعجزه شيء، عالم لا يخفى عليه شيء، حي لا يموت واحد ليس كمثله شيء، سميع بصير
{ لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } لان صفات النقص لا تجوز عليه تعالى. ويدل على أنه منعم بما لا يقدر غيره على الانعام بمثله، أنه يستحق بذلك العبادة دون غيره.
اللغة:
والخلق هو الاحداث للشيء على تقدير من غير احتذاء على مثال، ولذلك لا يجوز إطلاقه إلا في صفات الله، لأنه ليس أحد - جميع أفعاله على ترتيب من غير احتذاء على مثال - إلا الله تعالى. وقد استعمل الخلق بمعنى المخلوق كما استعمل الرضى بمعنى المرضى، وهو بمنزلة المصدر، وليس معنى المصدر معنى المخلوق، واختلف أهل العلم فيه إذا كان بمعنى المصدر، فقال قوم: هو الارادة له. وقال آخرون: إنما هو على معنى مقدر، كقولك: وجود وعدم، وحدوث وقدم، وهذه الاسماء تدل على مسمى مقدر للبيان عن المعاني المختلفة وإلا فالمعنى بما هو الموصوف في الحقيقة. وإنما جمعت السماوات ووحدت الأرض، لأنه لما ذكرت السماء بأنها سبع في قوله تعالى:
{ ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات } وقوله: { خلق سبع سماوات } جمع لئلا يوهم التوحيد معنى الواحدة من هذه السبع. وقد دل مع ذلك قوله { ومن الأرض مثلهن } على معنى السبع، ولكنه لم يجر على جهة الافصاح بالتفصيل في اللفظ. ووجه آخر: وهو أن الأرض لتشاكلها تشبه الجنس الواحد، كالرجل، والماء الذي لا يجوز جمعه إلا أن يراد الاختلاف، وليس تجري السماوات مجرى الجنس، لأنه دبر في كل سماء أمرها. والتدبير الذي هو حقها.
وفي اشتقاق قوله { واختلاف الليل والنهار } قولان:
احدهما - من الخلف، لأن كل واحد منهما يخلف صاحبه على وجه المعاقبة له. والثاني - من اختلاف الجنس كاختلاف السواد والبياض، لأن أحدهما لا يسد مسد الآخر في الادراك. والمختلفان مالا يسد أحدهما مسد الآخر فيما يرجع الى ذاته. والنهار: إتساع الضياء، وأصله الاتساع، ومنه قول الشاعر:

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها

أي أوسعت، ويصلح ان يكون من النهر أي جعله كالنهر. والنهر أوسع مجاري الماء، فهو أوسع من الجدول، والساقية. وإنما جمعت الليلة، ولم يجمع النهار لأن النهار بمنزلة المصدر، كقولك: الضياء، يقع على الكثير والقليل، فأما الليلة، فمخرجها مخرج الواحد من الليل على أنه قد جاء جمعه على وجه الشذوذ. قال الشاعر:

لولا الثريدان هلكنا بالضُّمر ثريد ليل وثريد بالنُّهر

والفلك: السفن يقع على الواحد، والجمع بلفظ واحد، ومنه قوله: { في الفلك المشحون } ومنه { واصنع الفلك بأعيننا } والفلك: فلك السماء. قال الله تعالى: { كل في فلك يسبحون } }. وكل مستدير فلك، والجمع أفلاك وقال صاحب العين: قيل: اسم للدوران خاصة. وقيل: بل اسم لأطواق سبعة فيها النجوم. وفلكت الجارية إذا استدار ثديها. والفلكة: فلكة المغزل معروف. وفلكة الجدي، وهو قضيب يدار على لسانه لئلا يرضع. واصل الباب الدور، والفلك السفينة لأنها تدور بالماء أسهل دور. وإنما جعل الفلك للواحد، والجمع بلفظ واحد، لأن فعل وفعل يشتركان كثيراً: العرب، والعرب، والعجم، والعُجم، والبخل والبخل. ومن قال في أسد: أسد. قال في فلك: فلك، فجمعه على فُعل. وإنما أنث الفلك إذا أريد به الجمع، كقولك: السفن التي تجري في البحر.
وقوله: { وما أنزل الله من السماء } يعني من نحو السماء عند جميع المفسرين. وقال قوم: السماء تقع على السحاب، لأن كل شيء علا فوق شيء، فهو سماء له. فان قيل: هل السحاب بخارات تصعد من الأرض؟ قلنا ذلك جائز لا يقطع به، ولا مانع ايضاً من صحته من دليل عقل، ولا سمع. والسماء: السقف، فسماء البيت سقفه قال تعالى:
{ { وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً } فالسماء المعروفة سقف الأرض. وأصل الباب السمو: وهو العلو. والسماء: الطبقة العالية على الطبقة السافلة إلا أنها صارت بمنزلة الصفة على السماء المعروفة: وهي التي من أجل السمو كانت عالية على الطبقة السافلة. والأرض الطبقة السافلة. يقال: أرض البيت وأرض الغرفة، فهو سماء لما تحته من الطبقة، وارض لما فوقه، وقد صار الاسم كالعلم على الأرض المعروفة. وإنما يقع على غيرها بالاضافة.
والليل هو الظلام المعاقب للنهار. وقد يقال لما لا يصل اليه ضوء الشمس: هو الليل وإن كان النهار موجوداً. والبحر: هو الخرق الواسع الماء الذي يزيد على سعة النهر. والمنفعة: هي اللذة، والسرور وما أدى إليهما. أو إلى كل واحد منهما. والنفع، والخير، والحظ نظائر، وقد تكون المنفعة بالآلام إذا أدّت الى لذات. والاحياء: فعل الحياة. وحياة الارض: عمارتها بالنبات، وموتها إخرابها بالجفاف الذي يمتنع معه النبات. والبثّ: التفريق، وكل شيء بثثته، فقد فرقته، ومنه قوله تعالى:
{ كالفراش المبثوث } وتقول: انبث الجراد في الأرض، وتقول: بثثته سري، وابثثته إذا أطلعته عليه. والبث: ما يجده الرجل من كرب، أو غم في نفسه، ومنه قوله: { أشكو بثي وحزني إلى الله } }. وأصل الباب التفريق. وقال صاحب العين: كل شيء مما خلق الله يسمى دابة مما يدب، وصار بالعرف اسماً لما يركب، ويقولون للبرذون: دابة وتصغيرها دويبة. ودب النمل يدب دبيبه. ودب الشراب بالانسان دبيباً. ودب القوم إلى العدو أى مشوا على هيئتهم لم يشرعوا. والدبابة تتخذ في الحروب, ثم يدفع إلى أصل حصن فينفقون وهم في جوف الدبابة والدب: نوع من السباع، والانثى دبه. والدبة لزوم حال الرجل في فعاله. ركب فلان دبة فلان، وأخذ بدبته أي عمل بعمله.
وقوله تعالى: { وتصريف الرياح } التصريف والتقليب والتسليك نظائر. وتصريف الرياح تصرفها من حال إلى حال، ومن وجه إلى وجه، وكذلك تصرف الخيول، والسيول، والأمور. وصرف الدهر تقلبه، والجمع صروف. والصريف: اللبن إذا سكنت رغوته. وقال بعضهم: لا يسمى صريفاً حتى يتصرف به الضرع. والصريف صريف الفحل بنابه حتى يسمع لذلك صوت، وكذلك صريف البكرة. وعنز صارف: إذا أرادت الفحل. والصرف: صبغ أحمر، قال الاصمعي: هو الذي يصبغ به الشرك. والصرف: فضل الدرهم على الدرهم في الجودة. وكذلك بيع الذهب بالفضة، ومنه اشتق إسم الصيرفي، لتصريفه أحدهما في الآخر. والصرف: النافلة. والعدل: الفريضة. والصرفة: منزل من منازل القمر: كوكب إذا طلع قدام الفجر، فهو أول الخريف، وإذا غاب من طلوع الفجر، فذاك أول الربيع. والصرف: الشراب غير ممزوج. والصرفان تمر معروف، أوزنه وأجوده. وأصل الباب: القلب عن الشيء. والسحاب: مشتق من السحب وهو حرك الشيء على وجه الأرض، تسحبه سحباً كما تسحب المرأة ذيلها، وكما تسحب الريح التراب، وسمي السحاب سحاباً، لا نسحابه في السماء وكل منجر منسحب.
والتسخير، والتذليل، والتمهيد نظائر. تقول: سخر الله لفلان كذا إذا سهله له، كما سخر الرياح لسليمان. وسخرت الرجل تسخيراً إذا اضطهدته، فكلفته عملا بلا أجرة. وهي السخرة، وسخر منه إذا استهزأ به، قال الله تعالى
{ فيسخرون منهم سخر الله منهم } وقال { فاتخذتموهم سخريا } من الاستهزاء، وسخريا من تسخير الحول وما اشبهه. واصل الباب: التسخير: التذليل.
المعنى:
وقيل في تصريف الرياح قولان: احدهما - هبوبها شمالا وجنوباً وصبا ودبوراً. والثاني - قيل مجيؤها بالرحمة مرة وبالعذاب أخرى. وهو قول قتادة.
وقوله: { لقوم يعقلون } فيه قولان: احدهما - أنه عام لمن استدل به، ومن لم يستدل من العقلاء. والثاني - أنه خاص لمن استدل به كما قال:
{ إنما أنت منذر من يخشاها } وكما قال { هدى للمتقين } لما كانوا هم الذين اهتدوا بها وخشوا عند مجيئه أضيف إليهم وإنما أضيفت الآيات الى العقلاء لامرين: أحدهما - لأنها نصبت لهم. والثاني - لأنها لا يصح أن يستدل بها سواهم.
اللغة:
قال ابو زيد: قال القيسيون: الرياح أربع: الشمال، والجنوب، والصبا، والدبور. فأما الشمال عن يمين القبلة والجنوب عن شمالها والصبا والدبور متقابلتان، فالصبا من قبل المشرق والدبور من قبل المغرب واذا جائت الريح بين الصبا، والشمال، فهي النكباء التي لايختلف فيها. والتي بين الجنوب والصبا، فهي الجريباء، وروى ابن الاعرابي عن الاصمعي، وغيره: ان الرياح اربع: الجنوب، والشمال، والصبا، والدبور. قال ابن الاعرابي: كل ريح بين ريحين، فهي نكباء. قال الاصمعي: اذا انحرفت واحدة منهن، فهي نكباء، وجمعها نكب. فاما مهبهن، فان ابن الاعرابي قال: مهب الجنوب من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا، والصبا من مطلع الثريا الى بنات نعش، والشمال من بنات نعش الى مسقط النسر الطائر، والدبور من مسقط النسر الطائر الى مطلع سهيل، والجنوب، والدبور لهما هيف والهيف: الريح الحارة، والصبا، والشمال: لا هيف لهما. وقال الأصمعي: ما بين سهيل الى طرف بياض الفجر: جنوب. ومابان انهما هما، يستقبلهما من الغرب: شمال، وما جاء من وارء البيت الحرام فهو دبور، وما جاء قبالة ذلك، فهو صباً. وتسمى الصّبا قبولا، لأنها تستقبل الدبور، وتسمى الجنوب الازيب، والنعامى. وتسمى الشمال محوة ولا تصرف، لأنها تمحوا السحاب وتسمى الجريباء، وتسمى مسعا، وتسعا وتسمى الجنوب اللاقح. والشمال حائلا، وتسمى ايضاً عقيما، وتسمى الصبا عقيما ايضاً. قال الله تعالى:
{ وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } وهي التي لا تلقح السحاب. والذاريات التي تذروا التراب ذرواً.
ومن قرأ بلفظ الجمع، فلأن كل واحدة من هذه الرياح مثل الاخرى في دلالتها على التوحيد وتسخيرها لنفع الناس. ومن وحّد أراد به الجنس كما قالوا أهلك الناس الدينار، والدرهم.