خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٣٠
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

المعنى:
قال أبو عبيدة: { إذا } زائدة. والتقدير { قال ربك للملائكة }. وهي تحذف في مواضع. قال الاسود بن يعمر:

واذا وذلك لا مهاه لذكره والدهر يعقب صالحاً بفساد

معناه وذلك لا مهاه لذكره. قال عبد مناة بن مربع وقيل: ابن ربع الهذلي

حتى اذا أسلكوهم في قتائدةٍ شلاً كما تطرد الجمالة الشردا

ومعناه حتى اسلكوهم. والقتائد: الموضع الذي فيه قتاد كثير. والشل الطرد. والجمالة: الجمالون. والشرد الابل التي تشرد عن مواضعها، وتقصد غيرها وتطرد عنها. وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لأن إذا: حرف يأتي بمعنى الجزاء ويدل على مجهول من الوقت. ولا يجوز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام إلا لضرورة. وليس المعنى في البيتين على ما ظن، بل لو حمل (إذا) في البيتين على البطلان بطل معنى الكلام الذي أراد الشاعر، لأن الأسود أراد بقوله: (واذا) الذي نحن فيه وما مضى من عيشنا. واراد بقوله (ذلك) الاشارة إلى ما تقدم وصفه من عيشه الذي كان فيه لا مهاه لذكره. يعني لا طعم له، ولا فضل لأعقاب الدهر ذلك بفساد. ومعنى قول عبد مناة بن مربع: حتى اذا اسلكوهم في قتائدة. إن قوله: اسلكوهم مثلا يدل على معنى محذوف، واستغنى عن ذكره بدلالة (اذا) عليه فحذف كما قال نمر بن تولب:

فان المنية من يخشها فسوف تصادفه اينما

يريد اينما ذهب. وكما يقول القائل: من قبل، ومن بعد. يريد من قبل ذلك، ومن بعد ذلك، ويقول القائل: اذا اكرمك أخوك فاكرمه واذا لا فلا يريد واذا لم يكرمك فلا تكرمه. ومن ذلك قول الشاعر:

فاذا وذلك لا يضرك ضرة في يوم اسأل نائلا او انكد

وكذلك لو حذف (إذا) في الآية لاستحالت عن معناها الذي تقيده { إذ }، لأن تقديره: ابتدأ خلقكم اذ قال ربك للملائكة. قال الزجاج والرماني أخطأ أبو عبيدة، لأن كلام الله لا يجوز أن يحمل على اللغو مع امكان حمله على زيادة فائدة قال: ومعنى إذ: الوقت وهي اسم كيف يكون لغواً؟ قال والتقدير الوقت والحجة في { إذ } أن الله عز وجل ذكر خلق الناس وغيرهم، فكأنه قال: ابتدأ خلقك اذ قال ربك للملائكة. وقال الفضل: لما امتن الله بخلق السماوات والأرض، ثم قال: وإذ قلنا للملائكة ما قلناه فهو نعمة عليكم وتعظيم لأبيكم. واختار ذلك الحسن بن علي المغربي. وقال الرماني والزهري: اذكر اذ قال ربك. والملائكة جمع غير أن واحدهم بغير همز أكثر فيحذفون الهمزة ويحركون اللام التي كانت ساكنة لو همّز الاسم إلى اللام. فاذا اجمعوا، ردوه إلى الأصل وهمزوا. كما يقولون: رأى، ثم يقولون يرى بلا همز. وذلك كثير. وقد جاء مهموزا في واحده قال الشاعر:

فلست بأنسي ولكن ملأكا تنزل من جو السماء يصوب

وقد يقال في واحدهم مألك: مثل قولهم: جبذ وجذب فيقلبونه، وشأمل وشمأل. ومن قال: مألك يجمعه ملائك بلا هاء مثل اشعث واشاعث. قال أمية ابن ابي الصلت:

وفيها من عباد الله قوم ملائك ذللوا وهم صعاب

واصل الملأك الرسالة. قال عدي بن زيد العبادي:

ابلغ النعمان عني ملأكاً أنه قد طال حبسي وانتظاري

وقد ينشد ملأكا ومألكا على اللغة الأخرى. فمن قال: ملأكا فهو مفعل من لاك اليه يليك إذا أرسل اليه رسالة: ومن قال مألكا فهو مفعل من ألكت اليه إلاكة اذا ارسلت اليه مألكة والوكا وكما قال لبيد بن ربيعة:

وغلام ارسلته امه بالوك فبذلنا ما سأل

وهذا من الكت ويقال: لاك يلأك والك يألك اذا أرسل قال عبد بني الحسحاس:

ألكني اليها عمرك الله يا فتى بآية ما جاءت الينا تهاديا

يعني أبلغها رسالتي. فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة، لأنها رسل الله بينه وبين انبيائه، ومن أرسل من عباده. هذا عند من يقول: إن جميع الملائكة رسل فاما ما يذهب اليه اصحابنا أن فيهم رسلا وفيهم من ليس برسل، فلا يكون الاسم مشتقاً، بل يكون علماً او اسم جنس. وانما قالوا: إن جميعهم ليسوا رسل الله لقوله تعالى: { { يصطفي من الملائكة رسلا } فلو كانوا جميعاً رسلا، لكانوا جميعاً مصطفين، لأن الرسول لا يكون إلا مختاراً مصطفى. وكما قال: { { ولقد اخترناهم على علم على العالمين } }. وقوله: { إني جاعل } أي فاعل وخالق. وهما يتقاربان. قال الرماني: حقيقة الجعل: تصيير الشيء على صفة. والاحداث حقيقة: إيجاد الشيء بعد أن لم يكن موجوداً. والخليقة: الفعيلة من قولهم: خلف فلان فلاناً في هذا الأمر: اذا قام مقامه فيه بعده، لقوله تعالى: { { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } يعني بذلك: أبدلكم في الأرض منهم، فجعلكم خلفاً في الأرض من بعدهم. وسمي الخليفة خليفة من ذلك، لأنه خلف من كان قيله، فقام مقامه. الخلف ـ بتحريك اللام ـ يقال: فيمن كان صالحاً ـ وبتسكين اللام ـ اذا كان طالحاً. قال الله تعالى { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة } وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ينقل هذا العلم من كل خلف عدوله وقال قوم: سمى الله تعالى آدم خليفة، لأنه جعل آدم وذريته خلفاء الملائكة، لأن الملائكة كانوا سكان الأرض. وقال ابن عباس: انه كان في الأرض الجن، فافسدوا فيها، وسفكوا الدماء، فاهلكوا، فجعل الله آدم وذريته بدلهم. وقال الحسن البصري: إنما أراد بذلك قوماً يخلف بعضهم بعضاً من ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم في إقامة الحق وعمارة الأرض. وقال ابن مسعود: أراد أني جاعل في الأرض خليفة يخلفني في الحكم بين الخلق، وهو آدم، ومن قام مقامه من ولده. وقيل انه يخلفني في انبات الزرع واخراج الثمار، وشق الانهار وقيل ان الأرض أراد بها مكة، روي ذلك عن ابن سارط، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: دحيت الأرض من مكة ولذلك سميت ام القرى. قال: دفن نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والمقام. وقال قوم: انها الأرض المعروفة. وهو الظاهر.
وقوله: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } وروي ان خلقاً يقال لهم الجان كانوا في الأرض فافسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله تعالى ملائكة اجلتهم من الأرض. وقيل: ان هؤلاء الملائكة كانوا سكان الارض بعد الجان فقالوا: يا ربنا اتجعل في الارض يفسد فيها ويسفك الدماء. على وجه الاستخبار منهم والاستعلام عن وجه المصلحة، والحكمة لا على وجه الانكار. كأنهم قالوا ان كان هذا كما ظننا فعرفنا وجه الحكمة فيه. وقال قوم: المعنى فيه ان الله أعلم الملائكة انه جاعل في الارض خليفة وان الخليفة فرقة تسفك الدماء وهي فرقة من بني آدم فأذن الله للملائكة ان يسألوه عن ذلك وكان اعلامه أياهم هذا زيادة على التثبيت في نفوسهم انه يعلم الغيب فكأنهم قالوا: أتخلق فيها قوماً يسفك الدماء، ويعصونك وانما ينبغي انهم اذا عرفوا انك خلقتهم ان يسبحوا بحمدك كما نسبح ويقدسوا كما نقدس؟، ولم يقولوا: هذا إلا وقد اذن لهم، لأنهم لا يجوز ان يسألوا ما لا يؤذن لهم ما فيه، ويؤمرون به، لقوله:
{ { ويفعلون ما يؤمرون } فان قيل من اين لكم أنهم كانوا علموا ذلك؟ قيل ذلك محذوف لدلالة الكلام عليه، لأنا علمنا أنهم لا يعلمون الغيب وليس اذا فسد الجن في الارض، وجب أن يفسد الانس وقوة السؤال تدل على أنهم كانوا عالمين وجرى ذلك مجرى قول الشاعر:

فلا تدفنوني إن دفني محرم عليكم ولكن خامري أم عامر

فحذف قوله: دعوني للتي يقال لها إذا أريد صيدها خامري أم عامر فكأنه قال: إني جاعل في الأرض خليفة يكون من ولده افساد في الأرض وسفك الدماء وقال ابوعبيدة والزجاج: أنهم قالوا ذلك على وجه الايجاب وإن خرج مخرج الاستفهام كما قال جرير:

ألستم خير من ركب المطايا واندى العالمين بطون راح؟

فعلى هذا الوجه قال قوم: إنما أخبروا بذلك عن ظنهم وتوهمهم، لأنهم رأوا الجن من قبلهم قد افسدوا في الأرض وسفكوا الدماء فتصوروا أنه إن استخلف غيرهم، كانوا مثلهم، فقال تعالى منكراً لذلك: { إني أعلم ما لا تعلمون } وهذا قول قتادة وابن عباس وابن مسعود. وقال آخرون: إنهم قالوه يقينا لأن الله كان أخبرهم انه يستخلف في الارض من يفسد فيها ويسفك الدماء. فاجابوه بعد علمهم بذلك بأن قالوا: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } وانما قالوه استعظاماً لفعلهم أي كيف يفسدون فيها ويسفكون الدماء، وقد انعمت عليهم واستخلفتهم فيها فقال: { إني أعلم ما لا تعلمون } وقال قوم: إنهم قالوا ذلك متعجبين من استخلافه لهم أي كيف يستخلفهم وقد علم انهم { يفسدون فيها ويسفكون الدماء }؟ فقال: { إني أعلم ما لا تعلمون }.
والسفك: صب الدماء خاصة دون غيره من الماء، وجميع المايعات. والسفح مثله لأنه مستعمل في جميع المايعات على وجه التضييع، ولذلك قالوا في الزنا انه سفاح لتضييع مائه فيه.
والملائكة المذكورون في الآية. قال قوم: هم جميع الملائكة. وقال آخرون - وهو المروي عن ابن عباس والضحاك ـ إنه خطاب لمن اسكنه من الملائكة الأرض بعد الجان، وقبل خلق آدم، وهم الذين أجلوا الجان عن الارض. وقال قتادة في قوله: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء عند الله أكبر من سفك الدماء والافساد في الارض قال الله تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون } من أنه سيكون من الخليفة رسل وانبياء، وقوم صالحون وساكنون الجنة. واقوى هذه الوجوه قول من قال: إن الملائكة إنما قالت: { أتجعل فيها من يفسد فيها } على وجه التعجب من هذا التدبير، لا إنكاراً له ولكن على وجه التألم والتوجع والاغتمام والاستعلام لوجه التدبير فيه، فقال: { إني أعلم ما لا تعلمون } من وجه المصلحة في خلقهم، وما يكون منهم من الخير والرشد والعلم، وحسن التدبير والحفظ، والطاعة ما لا تعلمون. فان قيل: الملائكة بم عرفت ذلك، اذ لم يمكنها أن تستدرك ذلك بالنظر والفكر. قلنا: قد يجوز أن لا يكون خَطَر ببالها ذلك إلا عند ما أعلمهم الله، فلما علموا ذلك، فزعوا إلى المسألة عنه، لأن المسألة لمن يتوقع سرعة جوابه أو يوثق بعلمه وخبره يقوم مقام النظر والفكر. وقوله: { أتجعل فيها من يفسد فيها } يريدون من ولد آدم الذين ليسوا أنبياء، ولا أئمة معصومين. فكأنه قال تعالى: إني جاعل في الأرض خليفة يكون له ولد ونسل يفعلون كيت وكيت. فقالوا: { أتجعل فيها من يفسد فيها } يريدون الولد. وقد بينا أن الخليفة من يخلف من تقدمه، جماعة كانوا أو واحداً فلما أخبر الله تعالى الملائكة أنه يخلق في الأرض عباداً هم آدم وولده ويكون خليفة لمن تقدمهم من الجن أو غيرهم، قالوا ما قالوا. ويحتمل أن يكون قوله: { من يفسد فيها } يريدون البعض لا الكل. كما يقال: بنو شيبان يقطعون الطريق. ويراد بعضهم دون جميعهم.
وقوله: { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } والتسبيح هو التنزيه من السوء على وجه التعظيم وكل من عمل خيراً قصد به الله فقد سبح. يقال: فرغت من سبحتي أي من صلاتي. وقال سيبوية: معنى سبحان الله: براءة الله وتنزيه الله من السوء. قال اعشى بني تغلب:

اقول ـ لما جاءني فخره ـ: سبحان من علقمة الفاخر

أي براءة من علقمة الفاخر. وهو مشتق من السبح الذي هو الذهاب. قال الله تعالى: { { إن لك في النهار سبحاً طويلا } ولا يجوز أن يسبح غير الله وان كان منزها، لأنه صار علماً في الدين على أعلى مراتب التعظيم التي لا يستحقها سواه. كما أن العبادة غاية في الشكر لا يستحقها سواه. وقال ابن عباس وابن مسعود: { ونحن نسبح بحمدك } بمعنى نصلي لك كما قال: { { فلولا أنه كان من المسبحين } أي من المصلين. وقال مجاهد: معناه نعظمك بالحمد والشكر على نعمك. وقال قتادة: هو التسبيح المعروف. وقال المفضل: هو رفع الصوت بذكر الله قال جرير:

قبح الاله وجوه تغلب كلما سبح الحجيج وهللوا إهلالا

واصل التقديس: التطهير. ومنه قوله: الأرض المقدسة أي المطهرة. قال الشاعر:

فادركنه يأخذن بالساق والنسا كما شبرق الولدان ثوب المقدس

أي المطهر. وقال قوم: معنى نقدس لك: نصلي لك. وقال آخرون: نقدس انفسنا من الخطايا والمعاصي وقال قوم: نطهرك من الادناس أي لا نضيف اليك القبائح. والقَدَسَ: السطل الذي يتطهر منه أي يقدس. ويوصف تعالى بأنه قدوس سبوح أي سبحانه أن يكون شريكا لغيره طاهر من كل عيب. وقوله: { إني أعلم ما لا تعلمون }. قال قوم: أراد ما أظهره إبليس من الكبر والعجب والمعصية لما أمر الله تعالى لآدم. ذهب اليه ابن مسعود، وابن عباس. وقال قتادة: أراد من في ذرية آدم من الانبياء والصالحين. وقال قوم: أراد به ما اختص بعلمه من تدبير المصالح. فان قيل: لو كان آدم قادراً على أن لا يأكل من الشجرة، لكان قادراً على نقض ما دبره الله فيه، لأنه لو لم يأكل منها للبث في الجنة. والله تعالى إنما خلقه ليجعله خليفة في الأرض فهذا يدل على أنه لم يكن بد من المخالفة. قلنا عن هذا جوابان:
أحدهما ـ ان الجنة التي خلق الله تعالى فيها آدم، لم تكن جنة الخلد، وانما كانت في الأرض حيث شاء الله، وانه حيث كان في الارض، كان خليفة في الارض وفي هذا سقط السؤال.
والثاني ـ ان الله تعالى علم أن آدم سيخالف، وانه يهبط إلى الأرض فيستخلفه فيها فأخبر الله تعالى بما علم. وقولهم: إنه لو كان قادراً على أن لا يخالف، لكان قادراً على نقض تدبيره ـ جهل، لأن الله تعالى قد أمره بأن لا يقرب الشجرة. فهل يجب بأن يكون أمره بأن ينقض تدبيره؟ فاذا قالوا: لا. قيل: وكذلك الله قد اقدره على ألا يخالف فيلبث في الجنة. ولا يجب بذلك أن يكون أقدره على نقض تدبيره. وقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن الملائكة سألت الله أن يجعل الخليفة منهم. وقالوا: نحن نقدسك ونطيعك ولا نعصيك كغيرنا. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فلما أجيبوا بما ذكر الله في القرآن، علموا أنهم قد تجاوزوا ما ليس لهم فلاذوا بالعرش استغفاراً، فأمر الله آدم بعد هبوطه أن يبني لهم في الأرض بيتاً يلوذ به المخطئون كما لاذ بالعرش الملائكة المقربون. فقال الله تعالى: إني اعرف بالمصلحة منكم. وهو معنى قوله: { إني أعلم ما لا تعلمون }.