خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٦٢
-البقرة

التبيان الجامع لعلوم القرآن

القراءة:
قرأ نافع بترك الهمز من الصابئين، وجميع القراء الباقون يهمزون
اما { الذين آمنوا } وهم المصدقون برسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما اتاهم من الحق من عند الله. واما الذين هادوا فهم اليهود.
اللغة:
ومعنى هادوا: تابوا. يقال: هاد القوم يهودون هودا، وهيادة وقال ابن جريج: إنما سميت اليهود يهودا، لقولهم: انا هدنا اليك. قال أعرابي يؤخذ بقوله: على ما قال ابو عبيدة: فاني من مدحه هائد أي تائب. وقيل: انما سموا يهودا، لانهم نسبوا إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب فعرّبت الذال دالا. وقال زهير: في معنى الرجوع:

سوى مرجع لم يات فيه مخافة ولا رهقا من عابد متهود

أي تائب فسميت اليهود يهودا، لتوبتهم من عبادة العجل. واصل الهود: الطمانينة. ويخبر به عن لين السير. ومنه الهوادة: وهي السكون. قال الحسين بن علي المغربي انشدني ابو رعاية السلمي، وهو من افصح بدوي أطاف بنا، واغزرهم رواية:

صباغتها من مهنة الحي بالضحى جياد المداري حالك اللون اسودا
اذا نفضتة مال طوراً بجيدها وتمثاله طوراً باغيدا فوّدا
كما مال قنوا مطعم هجرّية اذا حركت ريح ذرى النخل هودا

المطعم: النخلة. شبه شعرها باقناء البسر. هوّد تحرك تحريكة لينة قال زهير:

ولا رهقا من عايد متهود

وليس اسم يهود مشتقا من هذا.
والنصارى جمع نصران كقولهم سكران وسكارى. ونشوان ونشاوى. هذا قول سيبويه: قال الشاعر:

تراه اذا كان العثي محنفا يضحي لديه وهو نصران شامس

وقد سمع في الانثى نصرانة قال الشاعر:

وكلتاهما خرت واسجد رأسها كما سجدت نصرانة لم تحنف

وقد سمع في جمعهم انصار بمعنى النصارى قال الشاعر:

لما رأيت نبطاً انصارا شمرت عن ركبتي الازارا
كنت لهم من النصارى جارا

والمشهور أن واحد النصارى نصري: مثل بعير مهري ومهارى. وانما سموا نصارى، لنصرة بعضهم بعضا. دليله الآيات التي ذكرناها. وقيل انما سموا بذلك لأنهم نزلوا ارضاً يقال لها: ناصرة. وكان ينزلها عيسى فنسب اليها، فقيل عيسى الناصري، ثم نسب اصحابه اليه فقيل النصارى، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، وابن جريج. وقيل: إنهم سموا بذلك، لقوله: { { من أنصاري إلى الله } } والصابئون جمع صابىء: وهو من انتقل من دينه إلى دين آخر كالمرتد من اهل الاسلام. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر يسمى صابئا قال ابو زيد: صبا فلان في دينه يصبا صبوا اذ كان صابئا وصبأ تاب الصبي يصبوا صبوا: اذا كان طلع. وقال الزجاج: صبأت النجوم: اذا ظهرت. وقال ابو زيد: صبوت اليهم تصبأ صبأ وصبوء: إذا طلعت عليهم، وكان معنى الصابىء التارك دينه الذي شرع له إلى دين غيره: كما قال: ان الصابىء على القوم تارك لأرضه ومنتقل إلى سواها. فالدين الذي فارقوه هو تركهم التوحيد إلى عبادة لنجوم، أو تغطيتها. وقال نافع هو مأخوذ من قولهم: صبا يصبوا اذا مال إلى الشيء، واحبه ولذلك لم يهمز قال الشاعر:

صبوت اياديب وانت كبير

قال ابو علي الفارسي: هذا ليس بجيد، لأنه قد يصبو الانسان إلى دين فلا يكون منه مدين به مع صبوه اليه فاذا كان هذا هكذا، وكان الصابئون منتقلين من دينهم الذي اخذ عليهم إلى سواه، وجب ان يكون مأخوذاً من صبأت الذي هو الانتقال. ويكون الصابئون على قلب الهمزة، وقلب الهمزة على هذا الحد، لا يجيزه سيبويه إلا في الشعر ويجيزه غيره فهو على قول من اجاز ذلك. وممن اجاز ذلك ابو زيد. وحكي عنه انه قال لسيبويه: سمعت قربت واخطيت قال فكيف تقول في المضارع قلت: اقرأ فقال حسبك أو نحو هذا. قال ابو علي يريد سيبويه ان قريت مع اقرأ لا ينبغي، لأن قريت اقرأ على الهمز وقريت على القلب، فلا يجوز ان تغير بعض الأمثله دون بعض. فدل على ان القائل لذلك غير فصيح، فانه غلط في لغته. وقال قتادة والبلخي: الصابئون قوم معرفون لهم مذهب ينفردون به، من عبادة النجوم. وهم مقرّون بالصانع وبالمعاد وببعض الانبياء. وقال مجاهد والحسن وابن ابي نجيح: الصابئون بين اليهود والمجوس لا دين لهم. وقال السدي: هم طائفة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور. وقال الخليل: هم قوم دينهم شبيه بدين النصارى إلا ان قبلتهم نحو مهب الجنوب. خيال منصف النهار، ويزعمون انهم على دين نوح. وقال ابن زيد: الصابئون هم اهل دين من الاديان كانو بالجزيرة: جزيرة الموصل، يقولون لا إله إلا الله ولم يؤمنوا برسول الله "صلى الله عليه وسلم"، فمن اجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي "صلى الله عليه وسلم" واصحابه: هؤلاء الصابئون: يشبهونهم بهم. وقال آخرون: هم طائفة من اهل الكتاب. والفقهاء باجمعهم يجيزون اخذ الجزية منهم. وعندنا لا يجوز ذلك، لانهم ليسو اهل الكتاب.
وقوله: { من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم }.
المعنى:
تقول: من صدق بالله وأقر بالبعث بعد الممات يوم القيامة وعمل صالحاً واطاع الله فلهم اجرهم عند ربهم: يعني ثواب عملهم الصالح فان قيل: فاين تمام قوله: ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين ـ قيل تمامه جملة قوله تعالى: من آمن بالله واليوم الآخر: لأن معناه: من أمن منهم بالله واليوم الآخر، وترك ذكر منهم لدلالة الكلام عليه.
ومعنى الكلام: ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من يؤمن منهم بالله واليوم الآخر فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم.
وقوله: { من آمن بالله واليوم الآخر }.
الاعراب:
في الناس من قال: هو خبر عن الذين هادوا والنصارى والصابئين: لان الذين آمنوا كانوا مؤمنين فلا معنى حينئذ ان يقول من آمن وهو نفسهم.
ومنهم من قال: هو راجع إلى الكل ويكون رجوعه على الذين آمنوا على وجه الثبات على الايمان والاستدامة، وترك التبديل والاستبدال به.
وفى الذين هادوا والنصارى والصابئين: استئناف ايمان بالنبي "صلى الله عليه وسلم" وما جاء به.
وقوله: { من آمن بالله } فوحد الفعل ثم قال فلهم اجرهم، لان لفظة (من) وان كانت واحدة، فمعناها يكون للواحد والجمع والانثى والذكر. فان ذهب إلى اللفظ وحِّد. وان ذهب إلى المعنى جمع كما قال:
{ { ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون } فجمع مرة مع الفعل لمعناه ووحد اخرى على اللفظ. قال الشاعر:

ألمّا بسلمى عنكما إن عرضتما وقولا لها: عوجي على من تخلفوا

فجمع الفعل لانه جعل من بمنزلة الذين وربما كان لاثنين وهو ابعد وما جاء فيه قال الفرزدق:

تعال فان عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

قوله: { من آمن بالله واليوم الآخر }
النزول:
قال السدي: نزلت في سلمان الفارسي، واصحابه النصارى الذين كان قد تنصر على ايديهم قبل مبعث رسول الله "صلى الله عليه وسلم". وكانوا قد أخبروه بأنه سيبعث، وانهم يؤمنون به إن أدركوه.
وروي عن ابن عباس: أنها منسوخة بقوله تعالى:
{ { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } }. وهذا بعيد، لأن النسخ لا يجوز أن يدخل في الخبر الذي يتضمن الوعيد. وانما يجوز دخوله فيما طريقه الأحكام الشرعية التي يجوز تغييرها وقال قوم: إن حكمها ثابت. والمراد بها: ان الذين آمنوا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم من المنافقين هم واليهود، والنصارى، والصابئين إذا آمنوا بعد النفاق، واسلموا عند العناد، كان لهم أجرهم عند ربهم: كمن آمن في أول الاسلام من غير نفاق، ولا عناد، لأن قوماً من المسلمين قالوا: إن من أسلم بعد نفاقه، وعناده كان أجره اقل وثوابه انقص. وأخبر الله بهذه الآية أنهم سواء في الأجر والثواب. واولى الأقاويل ما قدمنا ذكره. وهو المحكي عن مجاهد والسدي: ان الذين آمنوا من هذه الأمة، والذين هادوا، والنصارى، والصابئين من آمن من اليهود، والنصارى، والصابئين بالله واليوم الآخر، فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لأن هذا اشبه بعموم اللفظ. والنخصيص ليس عليه دليل.
وقد استدلت المرجئة بهذه الآية على أن العمل الصالح، ليس من الايمان، لأن الله تعالى أخبرهم عنهم بأنهم آمنوا، ثم عطف على كونهم مؤمنين. أنهم إذا عملوا الصالحات ما حكمها. قالوا: ومن حمل ذلك على التأكيد أو الفضل، فقد ترك الظاهر. وكل شيء يذكرونه مما ذكر بعد دخوله في الأول مما ورد به القرآن: نحو قوله:
{ { فيهما فاكهة ونخل ورمان } }. ونحو قوله: { { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح } }. ونحو قوله: { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا }. وقوله: { { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } }. قالوا: جميع ذلك مجاز. ولو خلينا والظاهر، لقلنا: إنه ليس بداخل في الأول. فان قالوا: أليس الاقرار، والتصديق من العمل الصالح؟ فلا بد لكم من مثل ما قلناه، قلنا عنه جوابان:
احدهما ـ ان العمل لا يطلق الا على افعال الجوارح، لانهم لا يقولون: عملت بقلبي، وانما يقولون: عملت بيدي او برجلي.
والثاني ـ ان ذلك مجاز، وتحمل عليه الضرورة. وكلامنا مع الاطلاق.
وقوله: { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون }: يعني لا خوف عليهم مما قدموا عليه من اهوال القيامة. ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا عند معاينتهم ما اعد لهم من الثواب، والنعيم المقيم عنده وقبل: انه لا يحزنون من الموت.