قرأ نافع وابو بكر عن عاصم { وإنك لا تظمؤ } بكسر الهمزة على الاستئناف وقطعه عن الأول. الباقون بالنصب عطفاً على اسم (أن).
يقول الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وسلم) يا محمد واذكر حين قال الله تعالى { للملائكة اسجدوا لآدم } أي أمرهم بالسجود له، وانهم سجدوا له بأجمعهم إلا إبليس وقد بينا - فيما تقدم - أن أمر الله تعالى للملائكة بالسجود لآدم يدل على تفضيله عليهم، وإن كان السجود لله تعالى لا لآدم، لأن السجود عبادة، لا يجوز أن يفعل إلا لله، فأما الخلوقات فلا تستحق شيئاً من العبادة بحال، لأن العبادة تستحق بأصول النعم وبقدر من النعم لا يوازيها نعمة منعم.
وقال قوم: ان سجود الملائكة لآدم كان كما يسجد الى جهة الكعبة - وهو قول الجبائي - والصحيح الأول، لأن التعظيم الذي هو في أعلى المراتب حاصل لله لا لآدم باسجاد الملائكة له. ولو لم يكن الأمر على ما قلناه من أن في ذلك تفضيلا لآدم عليهم، لما كان لامتناع إبليس من السجود له وجه، و لما كان لقوله { { أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } وجه. فلما احتج إبليس بأنه أفضل من آدم - وإن أخطأ فى الاحتجاج - علمنا أن موضوع الأمر بالسجود لآدم على جهة التفضيل، وإلا كان يقول الله لابليس: إني ما فضلته على من أمرته بالسجود لآدم وإنما السجود لي، وهو بمنزلة القبلة، فلا ينبغي أن تانف من ذلك. وقد بينا أن الظاهر - فى روايات أصحابنا - أن ابليس كان من جملة الملائكة، وهو المشهور - في قول ابن عباس - وذكره البلخي - فعلى هذا يكون استثناء إبليس من جملة الملائكة استثناء متصلا. ومن قال: إن ابليس لم يكن من جملة الملائكة قال: هو استثناء منقطع، وانما جاز ذلك، لأنه كان مأموراً ايضاً بالسجود له، فاستثني على المعنى دون اللفظ، كما يقال: خرج أصحاب الأمير إلا الأمير، وكما قال عنتر ابن دجاجة:
من كان أشرك فى تفرق مالح فلبونه جربت معاً واغذت
الا كنا شرة الذي ضيعتم كالغصن فى غلوائه المتثبت
والمعنى لكن هذا كناشرة. وتقول: قام الأشراف للرئيس، إلا العامي الذي لا يلتفت اليه. قال الرماني: وإذا أمر الملائكة بالسجود اقتضى أن من دونهم داخل معهم، كما أنه اذا أمر الكبراء بالقيام للأمير اقتضى أن الصغار القدر، قد دخلوا معهم.
وقوله { أبى } معناه امتنع { فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك } حكاية عما قال الله لآدم: إن إبليس عدوك وعدو زوجتك يريد إخراجكما من الجنة، ونسب الاخراج الى ابليس إذ كان بدعائه واغوائه.
وقوله { فتشقى } قيل: معناه تتعب بأن تأكل من كدّ يدك وما تكتسبه لنفسك. وقيل: فتشقى على خطاب الواحد، والمعنى فتشقى أنت وزوجك، لأن امرهما فى السبب واحد، فاستوى حكمهما لاستوائهما في العلة. وقيل: خص بالشقاء لأن الرجل يكد على زوجته.
وقوله { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى } يعني في الجنة ما دمت على طاعتك لي والامتثال لأمري وانك { لا تعرى } فيها من الكسوة { وإنك لا تظمأ فيها } اي لا تعطش فيها { ولا تضحى } أي لا يصيبك حر الشمس - وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة - وقال عمر بن ابي ربيعة:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخضر
أي يخضر من البرد. وقيل: ليس فى الجنة شمس انما فيها نور وضياء. وانما الشمس في سماء الدنيا خاصة. وضحى الرجل يضحى إذا برز للشمس. قال أبو علي: إنما لم يجز أن يقول انك لا تجوع وإنك لا تظمأ. بغير فصل كراهة اجتماع حرفين متقاربين فى المعنى، فاذا فصل بينهما لم يكره ذلك، كما كرهوا: إن لزيداً قائم، ولم يكرهوا { إن في ذلك لآيات } مع الفصل. وقال الرماني إنما جاز أن تعمل { إنّ } في (أن) بفصل ولم يجز من غير فصل كراهية التعقيد بمداخلة المعاني المتقاربة، فاما المتباعدة فلا يقع بالاتصال فيها تعقيد، لأنها متباينة مع الاتصال لالفاظها، فلذلك جاز { إن لك أن لا تظمؤا فيها } ولم يجز ان انك لا تظمؤ، لأنه بغير فصل.
ثم اخبر تعالى أن إبليس وسوس لادم، فقال له { هل أدلك على شجرة الخلد... } أي على شجرة إن تناولت منها بقيت في الجنة مخلداً لا تخرج منها، وحصل لك ملك وسلطان لا يبلى على آلابد، ولا يهلك، وهي الشجرة التي نهاه الله تعالى عن تناولها. وقد قدمنا أختلاف المفسرين في ماهية تلك الشجرة فيما مضى فلا وجه لاعادته.