يقول الله تعالى مخبراً انه قصم قرى كثيرة، ويريد أهلها. وقوله { كانت ظالمة } لما اضاف الهلاك الى القرية اضاف الظلم اليها. والتقدير قصمنا اهل قرية كانوا ظالمين لنفوسهم، بمعاصي الله، وارتكاب ما حرمه. و { كم } للكثرة وهي ضد { رب } لان { رب } للتقليل. و { كم } في موضع نصب بـ { قصمنا }. والقصم كسر الصلب قهراً، قصمه يقصمه قصماً، فهو قاصم الجبابرة، وانقصم انقصاماً مثل انقصف انقصافاً.
وقوله { وأنشأنا بعدها قوماً آخرين } يعني أوجدنا بعد هلاك أولئك قوماً آخرين. والانشاء إيجاد الشيء من غير سبب يولده، يقال انشأه إنشاء. والنشأة الاولى الدنيا، والنشأة الثانية الآخرة. ومثل الانشاء الاختراع والابتداع - هذا فى اللغة - فأما في عرف المتكلمين، فالاختراع هو ابتداع الفعل في غير محل القدرة عليه.
وقوله { فلما أحسوا بأسنا } معناه لما أدركوا بحواسهم عذابنا، والاحساس الادراك بحاسة من الحواص الخمس: السمع، والبصر، والانف، والفم، والبشرة. يقال: أحسه إحساساً وأحس به. وقال قوم: أراد عذاب الدنيا. وقال آخرون: أراد عذاب الآخرة.
وقوله { إذا هم منها يركضون } فالركض العدو بشدة الوطئ، ركض فرسه إذا حثه على المر السريع، فمعنى { يركضون } يهربون من العذاب سراعاً، كالمنهزم من عدو. فيقول الله تعالى لهم { لا تركضوا } أي لا تهربوا من الهلاك { وارجعوا إلى ما أترفتم فيه } أي ارجعوا إلى ما كنتم تنعمون فيه، توبيخاً لهم وتقريعاً على ما فرط منهم. ومعنى { ما أترفتم فيه } نعمتم، فالمترف المنعم والتترف التنعم، وهي طلب النعمة. { ومساكنكم لعلكم تسألون } أي ارجعوا إلى مساكنكم لكي تفيقوا بالمسألة - في قول مجاهد - وقال قتادة: إنما هو توبيخ لهم في الحقيقة. والمعنى تسألون من انبيائكم؟ على طريق الهزء بهم، فقالوا عند ذلك معترفين على نفوسهم بالخطأ { يا ويلنا إنا كنا ظالمين } لنفوسنا بترك معرفة الله وتصديق أنبيائه، وركوب معاصيه. والويل الوقوع في الهلكة. ونصب على معنى ألزمنا ويلنا.
ثم اخبر الله تعالى عنهم بأن ما حكاه عنهم من الويل { دعواهم } ونداؤهم أبداً { حتى جعلناهم حصيداً خامدين } بالعذاب - فى قول الحسن - وقال مجاهد: يعني بالسيف، وهو قتل (بخت نصر) لهم. والحصيد قتل الاستئصال، كما يحصد الزرع بالمنجل، والخمود كخمود النار إذا طفيت.