التبيان الجامع لعلوم القرآن
قرأ يحيى والعليمي { ثم إلينا يرجعون } بالياء على الخبر عن الغائب.
الباقون بالتاء على الخطاب. وقرأ اهل الكوفة إلا عاصماً { لنثوينهم } بالثاء من أثويته منزلاً أي جعلت له منزل مقام، والثواء المقام، الباقون بالباء من قولهم: بوأته منزلا، كما قال تعالى { مبوء صدق } في قوله { ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوء صدق } و { { إذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت } ويحتمل ان تكون اللام زائدة، كقوله { { ردف لكم بعض } ويحتمل ان يكون المراد { بوأنا } لدعاء إبراهيم { مكان البيت } ويقول القائل: اللهم بوّئنا مبوء صدق أى انزلنا منزل صدق والتبوء اتخاذ منزل يرجع اليه من يأوى اليه، وأصله الرجوع من قوله { باءوا بغضب من الله } أي رجعوا، ومنه قول الحارث ابن عباد: (بوئوا بشسع كليب) وقيل: معناه لننزلنهم من الجنة علالي.
يقول الله تعالى لخلقه الذين صدقوا بوحدانيته وأقروا بنبوة نبيه { يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة } لبعد أقطارها، فاهربوا من أرض من منعكم فيها من الايمان واخلاص عبادتي فيها. وقيل: نزلت في مؤمني مكة أمروا بالهجرة عنها، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وابن زيد. وقيل { أرضي واسعة } بما أخرج فيها من الرزق لكم - ذكره مطرف بن عبد الله بن السخير العامري. وقال الجبائي: معناه إن ارض الجنة واسعة، واكثر اهل التأويل على ان المراد به ارض الدنيا.
وقوله { فاياي فاعبدون } أي اعبدوني خالصاً، ولا تطيعوا احداً من خلقي في معصيتي. وقيل: دخول الفاء في الكلام للجزاء وتقديره إن ضاق موضع بكم فاياي فاعبدون لأن أرضي واسعة. و (إياي) منصوب بمضمر يفسره ما بعده.
ثم اخبر تعالى ان { كل نفس } احياها الله بحياة خلقها فيها { ذائقة الموت } والذائق الواجد للجسم بحاسة إدراك الطعم { ثم إلينا ترجعون } أي تردون إلينا فنجازيكم على قدر استحقاقكم من الثواب والعقاب. وفي ذلك غاية التهديد والزجر. ثم قال { والذين آمنوا } أي صدقوا بوحدانية الله، وأقروا بنبوة نبيه صلى الله عليه وآله{ وعملوا } مع ذلك الاعمال { الصالحات لنبوّءنهم } أي لننزلنهم { من الجنة } التي وعدها الله المتقين { غرفاً } أي مواضع عاليات { تجري من تحتها الأنهار } لان الغرف تعلو عليها. وقيل: تجري من تحت أشجارها المياه. وقيل: انهار الجنة في أخاديد تحت الارض { خالدين فيها } أي يبقون فيها ببقاء الله.
ثم اخبر تعالى ان ذلك { نعم أجر العاملين } أي نعم الثواب والأجر للعاملين بطاعة الله { الذين صبروا } على الأذى في الله، وصبروا على مشاق الطاعات، ووكلوا أمورهم إلى الله وتوكلوا عليه في ارزاقهم وجهاد اعدائهم ومهمات أمورهم.
ثم قال تعالى { وكأين من دابة } معنى كاين (كم) وقد فسرناه في ما مضى { لا تحمل رزقها } أي لا تدخره لغد - في قول علي بن الاقمر - وقال الحسن { لا تحمل رزقها } للادخار. وقيل: ان الحيوان أجمع من البهائم والطير ونحوهما لا تدخر القوت لغدها - إلا ابن آدم والنملة والفارة - بل تأكل منه كفايتها فقط. وقال مجاهد: معناه { لا تحمل رزقها } لا تطيق حمل رزقها لضعفها { الله يرزقها } يعني تلك الدابة الضعيفة التي لا تقدر على حمل رزقها { وإياكم } أي ويرزقكم أيضاً { وهو السميع العليم } يعني { السميع } لما يقول القائل في فراق وطنه { العليم } بما في نفسه، لانه عالم بجميع الاشياء وقيل: الآية نزلت في أهل مكة: المؤمنين منهم، فانهم قالوا لرسول الله: ليس لنا بالمدينة اموال، ولا منازل، فمن أين المعاش، فأنزل الله الآية.