قرأ ابن كثير وابو عمرو { يخصمون } بفتح الخاء وتشديد الصاد إلا أن أبا عمرو يختلس حركة الخاء. وقرأ نافع - بفتح الياء وتسكين الخاء مشدد الصاد - يجمع بين ساكنين. وقرأ ابن عامر وعاصم والكسائي - بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد - وقرأ حمزة - بفتح الياء وتسكين الخاء وتخفيف الصاد - فمعنى هذه القراءة: وهم يخصمون عند انفسهم في دفع النشأة الثانية والقراءتان الأوليتان بمعنى يختصمون، فأدغمت الياء في الصاد بعد أن اسكنت. فمن أسكن الخاء، فلأنها في الأصل ساكنة، ومن فتحها نقل حركة الياء اليها. ومن كسر الخاء اتبع كسرتها كسرة الصاد. وفي القراء من كسر الياء اتباعاً لكسرة الخاء، كما قالوا يهدي، وهو يجيء عن أبي بكر.
يقول: الله تعالى مخبراً عن عناد هؤلاء الكفار وشدة جهلهم بأنه { ما تأتيهم من آية } أى دلالة وحجة من حجج الله و { من } تزاد في النفي إذا أريد بها الاستغراق، كقولهم: ما جاءني من احد ومعناه ما جاءني احد. و { من } الثانية للتبعيض، لأنه ليس كل آيات الله جاءتهم، غير انه تعالى قال ليس تأتيهم من آية أى أيّ آية كانت { من آيات ربهم إلا كانوا } هؤلاء الكفار { عنها معرضين } أى ذاهبين عنها وتاركين لها ومعرضين عن النظر فيها، وكل من اعرض عن الداعي إلى كتاب الله وآياته التي نصبها لعباده ليعرفوه بها فقد ضل عن الهدى وخسر الدنيا والآخرة.
ثم اخبر تعالى انه إذا قيل لهم: ايضاً { أنفقوا مما رزقكم الله } في طاعته واخرجوا ما اوجب الله عليكم في أموالكم - من الزكوات وغيرها وضعوها في مواضعها { قال الذين كفروا } بوحدانية الله وجحدوا ربوبيته وكذبوا بنبوة نبيه { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } احتجاجاً منهم في منع الحقوق، بأن يقولوا كيف نطعم من الله قادر على أطعامه؟! ولو شاء إطعامه أطعمه، فاذا لم يطعمه دل على انه لم يشأ إطعامه فنحن إذاً أحق بذلك. وذهب عليهم أن الله تعبدهم بذلك، لما فيه من المصلحة واللطف في فعل الواجبات وترك المقبحات، فلذلك كلفهم إطعام غيرهم. و (الرزق) هو ما خلق الله لخلقه لينتفعوا به على وجه لا يكون لاحد منعه منه فعلى هذا الوجه لا يكون الحرام رزقاً، فان الله تعالى قد منع منه بالنهي وقد سمي رزقاً ما يصلح للانتفاع به مجازاً، فعلى هذا ليس كل ما رزقه الله العبد جعل له الانفاق منه والتصرف فيه، وعلى الأول - وهو الاصح - جعل له ذلك. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله قل لهم يا محمد { إن أنتم إلا في ضلال مبين } أي ليس لكم هداية وما انتم إلا في ذهاب عن الحق وعدول عنه بين، فعلى هذا قول من قال: هو من قول الله تعالى صحيح. وقال قوم: هو من قول المشركين كأنهم لما قالوا: انطعم من لو يشاء الله اطعمه؟ قالوا لرسله ليس انتم إلا في ضلال مبين في ما تدعونا اليه.
ثم اخبر تعالى عن الكفار انهم { يقولون متى هذا الوعد } الذي تعدنا به من نزول العذاب بنا استهزاء بخبره صلى الله عليه وآله وخبر المؤمنين وتجرّياً على الله { إن كنتم صادقين } في ما تدعونا اليه وتخوفونا منه. فقال الله تعالى في جوابهم { ما ينظرون } أي لا ينتظرون { إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون } في هل ينزل العذاب بهم أم لا؟ وإنما جعلهم منتظرين لما قالوا: متى هذا الوعد، لأن من يلتمس الوعد يكون متنظراً لما وعد به { تأخذهم } في حال خصامهم { فلا يستطيعون توصية } أي لا يقدر بعضهم على ان يوصي إلى بعض { ولا إلى أهلهم يرجعون } أى لا يردون إلى اهلهم فيوصون اليهم. والصيحة التي تأخذهم هي الصيحة الأولى في الدنيا عند قيام الساعة { تأتيهم بغتة } والرجل يسقي أبله وآخر يبيع سلعته على عادتهم في تصرفاتهم، فاذا اخذتهم ونزلت بهم لم يستطيعوا توصية ولم يرجعوا إلى أهلهم للمعاجلة، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال "هي ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة القيام لرب العالمين" .