خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً
١٥٧
بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
١٥٨
-النساء

التبيان الجامع لعلوم القرآن

[المعنى]:
هذه الآية عطف على ما قبلها وتقديره، فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بايات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم: قلوبنا غلف وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، أنزلنا من العذاب، وأوجبنا لهم من العقاب، لان اخبارهم انهم قتلوا المسيح يقيناً، وما قتلوه، كفر من حيث هو جرأة على الله في قتل أنبيائه، ومن دلت المعجزات على صدقه، ثم كذبهم الله في قولهم: إنا قتلناه فقال: { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم }.
واختلفوا في كيفية التشبيه الذي شبه لليهود في أمر عيسى فقال وهب بن منبه: أنى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت فاحاطوا بهم، فلما دخلوا عليهم صيرهم الله كلهم على صورة عيسى فقالوا لهم سحرتمونا ليبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعاً، فقال عيسى لاصحابه: من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة، فقال رجل منهم: انا، فخرج اليهم فقال: أنا عيسى، وقد صيره الله على صورة عيسى، فاخذوه وقتلوه، وصلبوه. فمن ثم شبه لهم، وظنوا انهم قد قتلوا عيسى، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك. وبه قال قتادة والسدي وابن اسحاق ومجاهد وابن جريج، وان اختلفوا في عدد الحواريين، ولم يذكر احد غير وهب ان شبهه ألقي على جميعهم، بل قالوا: ألقي شبهه على واحد، ورفع عيسى من بينهم قال ابن اسحاق: وكان اسم الذي القي عليه شبهه سرجس، وكان احد الحواريين، ويقال: إن الذي دلهم عليه وقال هذا عيسى أحد الحواريين أخذ على ذلك ثلاثين درهما، وكان منافقاً، ثم انه ندم على ذلك فاختنق حتى قتل نفسه، وكان اسمه بودس زكريا بوطا، وهو ملعون في النصارى، وبعض النصارى يقول: إن بودس زكريا بوطا هو الذي شبه لهم فصلبوه، وهو يقول: لست بصاحبكم الذي دللتكم عليه. قال الطبري: الاقوى قول ابن المنبه، وهو ان سبعة عشر القي على جماعتهم شبه عيسى، لانه لو كان ألقي على واحد منهم مع قول عيسى ايكم يلقى عليه شبهي وله الجنة، ثم رأوا عيسى قد رفع من بين أيديهم لما اشتبه عليهم، وما اختلفوا فيه، وان جاز أن يشتبه على أعدائهم من اليهود الذين لم يكونوا يعرفونه، لكن لما ألقي شبهه على جميعهم، فكان يرى كل واحد بصورة عيسى، فلما قتل واحد منهم اشتبه الحال عليهم. وهذا الذي ذكره قريب. وقال الجبائي: وجه التشبيه ان رؤساء اليهود اخذوا إنساناً فقتلوه وصلبوه على موضع عال، ولم يمكنوا احداً من الدنو منه فتغيرت حليته وتنكرت صورته. وقالوا: قتلنا عيسى، ليوهموا بذلك على عوامهم، لانهم كانوا احاطوا بالبيت الذي فيه عيسى فلما دخلوه كان رفع عيسى من بينهم، فخافوا أن يكون ذلك سبب إيمان اليهود به، ففعلوا ذلك. والذين اختلفوا غير الذين صلبوا من صلبوه، وهم باقي اليهود، فان قيل: هل يجوز أن يلقي الله شبه زيد على عمر حتى لا يفصل الناظر اليهما بينهما، كما كان يفصل قبل القاء الشبه؟ قيل: ذلك مقدور لله بلا خلاف، ويجوز ان يفعله عندنا تغليظاً للمحنة، وتشديداً للتكليف، وان كان ذلك خارقاً للعادة، يجوز أن يجعل ذلك معجزة أو كرامة، لبعض اوليائه الصالحين، أو الائمة المعصومين (ع). وعند المعتزلة لا يجوز ذلك الا على يدي الانبياء أو في وقتهم، لانه لا يجوز خرق العادة عنهم إلا على يده. وقد قيل: إن اصحاب عيسى (ع) تفرقوا عنه حتى لم يبق غير عيسى، وغير الذي القي شبهه عليه، فلذلك اشتبه على النصارى، فان قيل: كيف يجوز من الخلق العظيم ان يخبروا بالشيء على خلاف ما هو به، وقد علمنا كثرة اليهود والنصارى، ومع كثرتهم اخبروا ان عيسى صلب وقتل، فكيف يجوز ان يكونوا مع كثرتهم كذابين؟ ولئن جاز هذا لم نثق بشيء من الاخبار اصلا ويؤدي ذلك إلى قول السنمية! قلنا: هؤلاء القوم دخلت عليهم الشبهة، لان اليهود لم يكونوا يعرفون عيسى، وانما اخبروا انهم قتلوا واحداً، وقيل لهم انه عيسى، فهم في ذلك صادقون، وان لم يكن المقتول عيسى. وأما النصارى فاشتبه عليهم، لانه كان ألقي شبهه على غيره، فلما رأوا من هو في صورته مقتولا، ظنوا انه عيسى، فلم يخبر احد من الفريقين بما ظن ان الامر على ما اخبر به، فلا يؤدي ذلك الى بطلان الاخبار بحال.
وقوله: { وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً } يعني به الذين أحاطوا بعيسى واصحابه حيث أرادوا قتله لانهم كانوا قد عرفوا عدة من في البيت، فلما دخلوا عليهم فقدوا واحداً منهم، فالتبس عليهم أمر عيسى بفقدهم واحداً من العدة، وقتلوا من قتلوا على شك منهم في أمر عيسى. هذا على قول من قال: لم يتفرق أصحابه حتى دخل عليهم اليهود واما من قال تفرقوا عنه، فانه يقول: اختلافهم كان بأن عيسى هل كان في من بقي في البيت أو كان في الذين خرجوا. فاشتبه الامر عليهم. قال الزجاج: وجه اختلاف النصارى أن منهم من ادعى انه له لا يقتل، ومنهم من قال قتل، فكذب الله الجميع. وقوله: { إلا اتباع الظن } استثناء منقطع. وتقديره لم يكن لهم بمن قتلوه علم لكنهم اتبعوه ظناً منهم انه عيسى، ولم يكن به.
وقوله: { وما قتلوه يقيناً } معناه وما قتلوا ظنهم الذي اتبعوا المقتول الذي قتلوه، وهم يحسبونه عيسى يقيناً إنه عيسى، ولا انه غيره، لكنهم كانوا منه على ظن وشبهة، كما يقول القائل: ما قتلت هذا الامر علما، وما قتلته يقيناً: إذا تكلم فيه بالظن على غير يقين. فالهاء في { قتلوه } عائدة على الظن. وقال ابن عباس وجويبر وما قتلوا ظنهم يقيناً. وحكى الزجاج عن قومهم: أن الهاء راجعة إلى عيسى (ع). نفى الله عنه القتل على وجه التحقيق واليقين. وقال السدي: وما قتلوا أمره يقينا إن الرجل هو عيسى (ع) وقوله: { بل رفعه الله إليه } يعني بل رفع الله المسيح اليه، ولم يقتلوه، ولم يصلبوه، لكن الله رفعه وطهره من الذين كفروا وقوله: { كان الله عزيزاً حكيماً } معناه لم يزل الله عزيزاً منتقما من اعدائه كانتقامه من الذين اخذتهم الصاعقة بظلمهم، وكلعنه من نقض ميثاقه وفعل ما قصه الله، حكيما في افعاله وتدبيراته وتصريفه خلقه في قضائه، واحذروا أيها السائلون محمداً ان ينزل عليكم كتابا من السماء - حلول عقوبته بكم، كما حل باوائلكم الذين فعلوا فعلكم في تكذيبهم رسلي وأفترائهم على اوليائى. وبه قال ابن عباس.
وقوله: { بل رفعه الله }.
[القراءة والحجة]:
في القراء من ادغم اللام في الراء وعليه الاكثر. وهو الأقوى لقرب مخرج اللام من مخرج الراء. وهو أقوى من ادغام الراء في اللام، لان في الراء تكويراً فهو يجري مجرى الحرفين. ومن لم يدغم قال: لانه من كلمتين. وقال الفراء: لا يجوز غير الادغام. وقال سيبويه: الادغام اجود وتركه جائز وهي لغة حجازية.
وقوله: { بل رفعه الله إليه } معناه انه رفعه إلى الموضع الذي يختص الله (تعالى) بالملك، ولم يملك احداً منه شيئا. وهو السماء، لانه لا يجوز ان يكون المراد انه رفعه إلى مكان هو (تعالى)، فيه لان ذلك من صفات الاجسام (تعالى الله عن ذلك) وعلى هذا يحمل قوله حكاية عن ابراهيم { إني ذاهب إلى ربي } يعني إلى الموضع الذي امرني به ربي ومثل قوله: { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله } يعني مهاجراً إلى الموضع الذي أمره الله بالهجرة اليه.