خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ
٣
وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً
٤
-النساء

التبيان الجامع لعلوم القرآن

النزول، والمعنى:
واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية على ستة أقوال:
أولها - ما روي عن عائشة انها قالت: نزلت في اليتيمة التي تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها، ويريد أن ينكحها بدون صداق مثلها، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لها صداق مهر مثلها، وأمروا أن ينكحوا ما طاب مما سواهن من النساء إلى الاربع { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } من سواهن { أو ما ملكت أيمانكم } ومثل هذا ذكر في تفسير أصحابنا. وقالوا: انها متصلة بقوله:
{ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن } { فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء } الآية وبه قال الحسن والجبائي والمبرد.
والثاني - قال ابن عباس وعكرمة: ان الرجل منهم كان يتزوج الاربع والخمس والست والعشر ويقول ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان فاذا فنى ماله مال على مال اليتيم فانفقه، فنهاهم الله تعالى عن أن يتجاوزوا بالاربع إن خافوا على مال اليتيم وإن خافوا من الاربع أيضاً أن يقتصروا على واحدة.
والثالث - قال سعيد بن جبير والسدي وقتادة والربيع والضحاك. وفي احدى الروايات عن ابن عباس قالوا: كانوا يشددون في أمر اليتامى ولا يشددون في النساء، ينكح أحدهم النسوة فلا يعدل بينهن، فقال الله تعالى كما تخافون ألا تعدلوا في اليتامى فخافوا في النساء، فانكحوا واحدة إلى الاربع، فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة.
والرابع - قال مجاهد: ان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى معناه: ان تحرجتم من ولاية اليتامى وأكل أموالهم إيماناً وتصديقاً فكذلك تحرجوا من الزنا، وانكحوا النكاح المباح من واحدة إلى أربع، فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة.
والخامس - قال الحسن: ان خفتم ألا تقسطوا في اليتيمة المربّاة في حجركم فانكحوا ما طاب لكم من النساء مما أحل لكم من يتامى قراباتكم مثنى وثلاث ورباع، فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت ايمانكم. وبه قال الجبائي وقال: الخطاب متوجه إلى أولياء اليتيمة إذا أراد أن يتزوجها إذا كان هو وليها كان له أن يزوجها قبل البلوغ وله أن يتزوجها.
والسادس - قال الفراء: المعنى ان كنتم تتحرجون من مؤاكلة اليتامى فاحرجوا من جمعكم بين اليتامى، ثم لا تعدلون بينهن. وقوله: { فانكحوا ما طاب لكم } جواب لقوله: { وإن خفتم ألا تقسطوا } على قول من قال ما رويناه أولا عن عائشة وأبي جعفر (ع). ومن قال: تقديره: ان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء الجواب قوله: { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } والتقدير: فان خفتم ألا تقسطوا في أموال اليتامى فتعدلوا فيها فكذلك فخافوا ألا تقسطوا في حقوق النساء، فلا تتزوجوا منهن إلا من تأمنون معه الجور، مثنى وثلاث ورباع، وان خفتم أيضاً من ذلك فواحدة، فان خفتم من الواحدة فما ملكت ايمانكم، فترك ذكر قوله فكذلك فخافوا ألا تقسطوا في حقوق النساء لدلالة الكلام عليه وهو قوله: { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } ومعنى { ألا تقسطوا } أي لا تعدلوا ولا تنصفوا، فالاقساط هو العدل والانصاف والقسط هوالجور. ومنه قوله:
{ { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } وقد بيناه فيما مضى. واليتامى جمع لذكران اليتامى واناثهم في هذا المعنى.
المعنى، واللغة، والاعراب
وقال الحسين بن علي المغربي: معنى ما طاب أي بلغ من النساء كما يقال: طابت الثمرة إذا بلغت، قال: والمراد المنع من تزويج اليتيمة قبل البلوغ لئلا يجري عليها الظلم، فان البالغة تختار لنفسها، وقيل: معنى { ما طاب لكم من النساء } من أحل لكم منهن دون من حرم عليكم، وانما قال: { ما طاب } ولم يقل: من طاب وان كان من لما يعقل وما لما لا يعقل لأن المعنى: انكحوا الطيب أي الحلال هذه العدة، لأنه ليس كل النساء حلالا، لأن الله حرم كثيراً منهن بقوله:
{ { حرمت عليكم أمهاتكم } الآية. هذا قول الفراء. وقال مجاهد: فانكحوا النساء نكاحاً طيباً. وقال المبرد: "ما" ها هنا للجنس كقول القائل: ما عندك؟ فتقول: رجل أو امرأة، فالمعني بقوله: ما طاب الفعل دون اعيان النساء واشخاصهن، لأن الاعيان لا تحرّم ولا تحلل، وإنما يتناول التحريم والتحليل التصرف فيها، وجرى ذلك مجرى قول القائل: خذ من رقيقي ما أردت: إذا أراد خذ منهم ارادتك ولو أراد خذ الذي تريد لم يجز إلا أن يقول خذ من رقيقي من أردت وكذلك قوله: { أو ما ملكت أيمانكم } معناه أو ملك ايمانكم، ومعنى { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } فلينكح كل واحد منكم مثنى وثلاث ورباع، كما قال: { { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } معناه: فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة. وقوله: { مثنى وثلاث ورباع } بدل من { ما طاب } وموضعه النصب وتقديره: اثنين اثنين، وثلاثاً وثلاثاً، واربعاً اربعاً، إلا انه لا ينصرف لعلتين، احداهما: انه معدول عن اثنين اثنين وثلاث ثلاث في قول الزجاج، وقال غيره: لأنه معدول ولأنه نكرة، والنكرة أصل للاشياء، وقال غيرهم: هو معرفة، وهذا فاسد عند البصريين، لأنه صفة للنكرة في قوله: { { أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } والمعنى اولي اجنحة ثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة. وقال الفراء لأنه معدول، لأنه يقع على الذكر والانثى، ولأنه مضاف إلى ما يضاف إليه الثلاث، فكأن لامتناعه من الاضافة كان فيه الالف واللام. قال الشاعر:

ولكنما اهلي بواد أنيسه ذئاب تبغى الناس مثنى وموحدا

ومن قال: انه اسم للعدد معرفة استدل بقول تميم بن أبي مقبل:

ترى النعرات الزرق تحت لبانه احاد ومثنى أصعقتها صواهله

فرد احاد ومثنى على النعرات وهي معرفة، وقد يجيء منكراً مصروفاً كما قال الشاعر:

قتلنا به من بين مثنى وموحد باربعة منكم وآخر خامس

وترك الصرف أكثر قال صخر الغي:

منت لك أن تلاقيني المنايا احاد احاد في شهر حلال

وقد تقع هذه الالفاظ على الذكر والانثى، فوقوعها على الانثى مثل الآية التي نحن في تفسيرها، ووقوعها على الذكر قوله: { أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } لأن المراد به الجناح وهو مذكر، ويقال: احاد وموحد وثنى ومثنى، وثلاث ومثلث، ورباع ومربع، ولم يسمع في ما زاد عليه مثل خماس ولا المخمس ولا السداس والسباع إلا بيت للكميت فانه يروى في العشره عشار، وهوقوله:

فلم يستريثوك حتى رميت فوق الرجال خصالا عشارا

يريد عشراً. وقال صخر السلمي في ثنا وموحد:

ولقد قتلكتم ثناء وموحداً وتركت مرة مثل امس الدابر

ولم يرد أنه قتل الثلاثة، وانما أراد انه قتل نفراً كثيراً منهم واحداً بعد واحد واثنين بعد اثنين، وقوله: { فواحدة } نصب على انه مفعول به، والتقدير: فان خفتم ألا تعدلوا فيما زاد على الواحدة فانكحوا واحدة، ولو رفع كان جايزاً، وقد قرأ به أبو جعفر المدني، وتقديره: فواحدة كافية، أو فواحدة مجزية، كما قال: { { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ومن استدل بهذه الآية على أن نكاح التسع، جائز فقد اخطأ، لأن ذلك خلاف الاجماع، وأيضاً فالمعنى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى ان امنتم الجور وإما ثلاث ان لم تخافوا ذلك أو رباع ان امنتم ذلك فيهن، بدلالة قوله: { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } لأن معناه فان خفتم في الثنتين فانكحوا واحدة، ثم قال: فان خفتم أيضاً في الواحدة فما ملكت ايمانكم. على أن مثنى لا يصح إلا لاثنين اثنين، أو اثنتين اثنتين على التفريق في قول الزجاج، فتقدير الآية { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث } [فثلاث] بدلا من مثنى ورباع بدلا من ثلاث، ولو قيل بـ (أو) لظن أنه ليس لصاحب مثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث رباع. ومن استدل بقوله: { فانكحوا } على وجوب التزويج من حيث أن الامر يقتضي الايجاب، فقد اخطأ، لأن ظاهر الأمر وإن اقتضى الايجاب، فقد ينصرف عنه بدليل، وقد قام الدليل على أن التزويج ليس بواجب على أن الغرض بالآية النهي عن العقد على من يخاف ألا يعدل بينهن، والتقدير: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فتحرجتم فيهم، فكذلك فتحرجوا في النساء، فلا تنكحوا إلا ما أمنتم الجور فيه منهن، مما أحللته لكم منهن، من الواحدة إلى الأربع، وقد يراد بصورة الأمر ما يراد بالنهي أو التهديد كقوله: { { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } وقال: { { ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون } والمراد بذلك كله التهديد والزجر، فكذلك معنى الآية النهي، وتقديرها: فلا تنكحوا إلا ما طاب لكم من النساء على ما بيناه.
وقوله: { ذلك أدنى ألا تعولوا } اشارة إلى العقد على الواحدة مع الخوف من الجور فيما زاد عليها، أو الاقتصار على ما ملكت أيمانكم، ومعنى { أدنى } أقرب { ألا تعولوا } وقيل في معنى { ألا تعولوا } ثلاثة أقوال:
أحدها - وهو الاقوى والاصح أن معناه: ألا تجوروا، ولا تميلوا يقال منه: عال الرجل يعول عولا وعيالة إذا مال وجار، ومنه عول الفرائض، لأن سهامها إذا زادت دخلها النقص، قال أبو طالب:

بميزان قسط وزنه غير عائل

وقال أبو طالب أيضاً:

بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل

وروي: لا يضل شعيرة، وبهذا قال ابراهيم، وعكرمة، والحسن، ومجاهد، وقتادة، وأبو مالك، والربيع بن أنس، والسدي، وابن عباس، واختاره الطبري، والجبائي. وقال قوم: معناه: ألا تفتقروا، وهذا خطأ، لأن [العول] الحاجة، يقال منه: عال الرجل يعيل عيلة إذا احتاج، كما قال الشاعر:

وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل

أي: متى يفتقر. وقال ابن زيد: معناه: ألا تكثر عيالكم، وهذا أيضاً خطأ، لأن المراد لو كان ذلك لما أباح الواحدة، وما شاء من مالك الايمان، لأن اباحة كل ما ملكت اليمين أزيد في العيال من أربع حرائر، على أن من كثرة العيال يقال: أعال يعيل فهو معيل، إذا كثر عياله وعال العيال: إذا مانهم، ومنه قوله: ابدأ بمن تعول. وحكى الكسائي، قال: سمعت كثيراً من العرب يقول: عال الرجل يعول إذا كثر عياله. وقوله: { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } فصدقاتهن: جمع صدقة، يقال: هو صداق المرأة، وصدقة المرأة، وصُدقة المرأة، وصداق المرأة، والفتح اقلها. ومن قال: صُدقة المرأة قال: صدقاتهن، كما تقول: غرفة وغرفات، ويجوز صدقاتهن، بضم الصاد وفتح الدال، وصدقاتهن، ذكره الزجاج. ولا يقرأ من هذه إلا بما قرئ به صدقاتهن، لأن القراءة سنة متبعة. وقوله: "نحلة" نصب على المصدر، ومعناه، قال بعضهم: فريضة، وقال بعضهم ديانة، كما يقال: فلان ينتحل كذا وكذا، أي يدين به، ذكره الزجاج، وابن خالويه. قال بعضهم: هي نحلة من الله لهن، أن جعل على الرجل الصداق ولم يجعل على المرأة شيئاً من الغرم، وذلك نحلة من الله تعالى للنساء. ويقال: نحلت الرجل: إذا وهبت له نحلة ونحلا، ونحل جسمه ونحل: إذا دق، وسمي النحل نحلا لأن الله نحل الناس منها العسل الذي يخرج من بطونها، والنحلة عطية عليك على غير جهة المثامنة، والنحلة الديانة، والمنحول من الشعر ما ليس له، واختلفوا في المعنيّ بقوله { وآتوا النساء } فقال ابن عباس، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد، واختاره الطبري، والجبائي، والرماني، والزجاج: المراد به الازواج، أمرهم الله تعالى باعطاء المهر إذا دخل بها كملا، إذا سمّى لها، فأما غير المدخول بها إذا طلقت فان لها نصف المسمى، وإن لم يكن سمى، فلها المتعة على ما بيناه فيما مضى.
وقال أبوصالح: هذا خطاب للأولياء، لأن الرجل منهم كان إذا زوج أيمة أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله عن ذلك، وأنزل هذه الآية.
وروى هذا أبو الجارود، عن أبي جعفر (ع)، وذكر المعمر بن سليمان، عن أبيه، قال: زعم حضرمي ان اناساً كانوا يعطي هذا الرجل أخته، ويأخذ أخت الرجل، ولا يأخذون كثير مهر، فنهى الله عن ذلك، وأمر باعطاء صداقهن، وأول الأقوال أقوى، لأن الله تعالى ابتدأ ذكر هذه الآية بخطاب الناكحين للنساء، ونهاهم عن ظلمهن والجور عليهن، ولا ينبغي أن يترك الظاهر من غير حجة ولا دلالة، وقوله: { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً } اختلفوا فيمن المخاطب به، فقال عكرمة، وابراهيم، وعلقمة، وقتادة، وابن عباس، وابن جريج، وابن زيد: الخطاب متوجه إلى الازواج، لأن أناساً كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساق إلى امرأته، فانزل الله هذه الآية. وقال أبو صالح: المعني به الاولياء، لأنه حمل أول الآية أيضاً عليهم، على ما حكيناه عنه، والأول هو الأولى، لأنا بينا أن الخطاب متوجه إلى الازواج الناكحين، فكذلك آخر الآية. ومعنى { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً } إن طابت لكم أنفسهن بشيء، ونصبه على التمييز، كما يقولون: ضقت بهذا الأمر ذرعاً، وقررت به عيناً، والمعنى ضاق به ذرعي وقرت به عيني، كما قال الشاعر:

إذا التياز ذو العضلات قلنا "اليك اليك" ضاق بها ذراعا

وإنما هو على ذرعا وذراعا، لأن المصدر والأسم يدلان على معنى واحد، فنقل صفة الذراع إلى رب الذراع، ثم أخرج الذراع مفسرة لموقع الفعل، ولذلك وحد النفس لما كانت مفسرة لموقع الخبر، والنفس المراد به الجنس، يقع على الواحد والجمع، كما قال الشاعر:

بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب

ولم يقل: فجلودها، ولو قال: { فإن طبن لكم عن شيء منه } أنفساً لجاز، وكذلك ضقت به أذرعا وذراعا. فأما قوله: { { بالأخسرين أعمالاً } إنما جمع لئلا يوهم أنه عمل يضاف الى الجميع، كما يضاف القتل إلى جماعة إذا رضوا به، ومالأوا عليه. ومثل الآية: أنت حسن وجهاً، فالفعل للوجه، فلما نقل الى صاحب الوجه، نصب الوجه على التمييز. وقوله: { فكلوه هنيئاً مريئاً } فهنيئاً مأخوذ من هنأت البعير بالقطران، وذلك إذا جرب فعولج به، كما قال الشاعر:

متبذلا تبدو محاسنه يضع الهناء مواضع النقب

فالهني شفاء من المرض، كما أن الهناء شفاء من الجرب. ومعنى { فكلوه هنيئاً مريئاً } أي دواء شافياً، يقال منه: هنأني الطعام ومرأني: إذا صار لي دواء وعلاجاً شافياً، وهنيني ومريني بالكسر، وهي قليلة، ومن قال: هناني يقول في المستقبل: يهناني، ويمراني، ومن يقول: هنأني، يقول يهنئني، ويمرئني، فاذا أفردوا قالوا: قد أمراني هذا الطعام، ولا يقولون: أهنانى، والمصدر منه هناً، مراً، وقد مرؤ هذا الطعام مراً، ويقال: هنأت القوم إذا علتهم، وهنأت فلاناً المال إذا وهبته له، أهنؤه هناً، ومنه قولهم: انما سميت هانياً لتهنا، أي: لتعطي، ومعنى قوله: { فإن طبن لكم عن شيء منه } يعني من المهر، و "من" ها هنا ليست للتبعيض وانما معناه لتبيين الجنس، كما قال { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } ولو وهبت له المهر كله لجاز، وكان حلالا بلا خلاف. واستدل أبو علي بهذه الآية على أن لولي اليتيمة الذي هو غير الأب أن يزوج اليتيمة، أو يتزوجها قبل أن تحيض، أو يكمل عقلها، بأن قال الخطاب في قوله: { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } متوجه إلى الاولياء الذين كانوا يتحرجون من العقد على اليتامى اللائى لهم عليهن ولاية، خوفا من الجور، فقال الله لهم: ان خفتم من العقد على أربع فعلى ثلاث، أو اثنتين، أو واحدة، أو ما ملكت أيمانكم من سواهن، ثم أمرهم باعطائهن المهر، ثم قال: { فإن طبن لكم } يعني الأزواج الذين هم الاولياء، { عن شيء } من ذلك، { فكلوه هنيئاً مريئاً } وهذا الذي قاله ليس بصحيح، لأنه لا يسلم له أولا أنه خطاب للأولياء، فما الدليل على ذلك ثم إن عندنا وعند الشافعي ليس لأحد من الأولياء أن يزوج الصغيرة إلا الأب خاصة فكيف يسلم له ما قاله؟ ومن قال: يجوز ذلك، قال: يكون العقد موقوفا على بلوغها ورضاها، فان لم ترض كان لها الفسخ، فعلى كل حال لا يصح ما قاله.