خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً
٤٣
-النساء

التبيان الجامع لعلوم القرآن

القراءة والمعنى:
قرأ حمزة، والكسائي: { أو لمستم النساء } بغير ألف، الباقون { لامستم } بألف، فمن قرأ { لامستم } بالف قال: معناه الجماع: وهو قول علي (ع)، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وأبو علي الجبائي، واختاره أبو حنيفة. ومن قرأ بلا الف أراد اللمس باليد وغيرها بما دون الجماع، ذهب إليه ابن مسعود، وعبيدة، وابن عمر، والشعبي، وابراهيم، وعطاء، واختاره الشافعي. والصحيح عندنا هو الأول، وهو اختيار الجبائي، والبلخي، والطبري، وغيرهم. والملامسة واللمس معناهما واحد، لأنه لا يلمسها إلا وهي تلمسه، وقيل: ان الملامسة بمعنى اللمس، كما قيل: عافاه الله، وعاقبت اللص.
النزول:
وقيل في سبب نزول هذه الآية قولان:
أحدهما - قال ابراهيم: إنها نزلت في قوم من الصحابة أصابهم جراح.
والثاني - قالت عائشة نزلت في قوم من الصحابة أعوزهم الماء.
المعنى واللغة:
وظاهر الخطاب متوجه إلى المؤمنين كلهم بأن لا يقربوا الصلاة وهم سكارى، يعني في حال سكرهم، يقال: قرب يقرب متعد، وقرب يقرب لازم، وقرب الماء يقربه إذا ورده. وقيل في معنى السكر المذكور في الآية قولان:
أحدهما - قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابراهيم: إنه السكر من الشراب، وقال مجاهد، والحسن، وقتادة نسخها تحريم الخمر.
الثاني - قال الضحاك هو سكر النوم خاصة. وأصل السكر من السكر، وهو سد مجرى الماء يقال سكره يسكره، وإسم الموضع السكر والسكر، لانسداد طريق المعرفة به. سكر يسكر سكراً وأسكره إسكاراً، وسكرة الموت غشيته. فان قيل: كيف يجوز نهي السكران في حال سكره مع زوال عقله، وكونه بمنزلة الصبي والمجنون؟ قلنا عنه جوابان:
أحدهما - إنه قد يكون سكران من غير أن يخرج من نقص العقل إلى ما لا يحتمل الامر والنهي.
الثاني - إنما نهوا عن التعرض للسكر مع أن عليهم صلاة يجب أن يؤدوها في حال الصحو. وقال أبو علي: فيه جواب ثالث وهو أن النهي إنما دل على أن عليهم أن يعيدوها إن صلوها في حال السكر.
فان قيل: كيف يسوغ تأويل من ذهب إلى أن السكران مكلف أن ينتهي عن الصلاة في حال سكره؟ مع أن عمل المسلمين على خلافه، لأن من كان مكلفاً تلزمه الصلاة، قلنا عنه جوابان:
أحدهما - أنه منسوخ.
والآخر - إنه نهي عن الصلاة مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) في جماعة.
وقوله: { ولا جنباً إلا عابري سبيل } يقال: رجل جنب إذا أجنب، ورجل جنب أي غريب، ولا يثنى ولا يجمع، ويجمع أجناباً أي غرباء، وإنما نصب لأنه عطف على قوله: { وأنتم سكارى } وهي جملة في موضع الحال. وقيل في معناه قولان.
أحدهما - قال علي (ع)، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والحكم، وابن كثير، وابن زيد: إلا مسافرين فلكم أن تتيمموا.
الثاني - قال ابن عباس في رواية أخرى، وجابر، والحسن، وسعيد بن جبير، وابراهيم، والزهري، وعطاء، والجبائي: ان معناه لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد إلا مجتازين، وهو قول أبي جعفر (ع)، وحذف لدلالة الكلام عليه، وهو الأقوى، لأنه تعالى بين حكم الجنب في آخر هذه الآية إذا عدم الماء، فلو حملناه على ذلك لكان تكراراً، وإنما أراد أن يبين حكم الجنب في دخول المساجد في أول الآية، وحكمه إذا أراد الصلاة مع عدم الماء في آخرها.
وقوله: { وإن كنتم مرضى أو على سفر } فالمرض الذي يجوز معه التيمم مرض الجراح، والكسير، وصاحب القروح، إذا خاف من مس الماء في قول ابن مسعود، والضحاك، والسدي، وابراهيم، ومجاهد وقتادة. وقال الحسن، وابن جبير: هو المرض الذي لا يستطيع معه تناول الماء، ولا يكون هناك من يناوله. وكان الحسن لا يرخص للجريح التيمم، والمروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) جواز التيمم عند جميع ذلك. وقوله: { أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط } يعني الحدث المخصوص، وأصله المطمئن من الأرض، يقال: غائط وغيطان، والتغوط كناية عن الحدث في الغائط، والغوطة موضع كثير الماء والشجر بدمشق، وقوله: { أو لامستم النساء } قد فسرناه، وعندنا المراد به الجماع. وقوله: { فتيمموا صعيداً طيباً } فالتيمم التعمد، ومثله التأمم قال الأعشى:

تيممت قيساً وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن

يعني تعمدت، وقال سفيان: معنى تيمموا تعمدوا وتحروا، والصعيد وجه الارض من غير نبات ولا شجر، في قول ابن زيد قال ذو الرمة:

كأنه بالضحى ترمي الصعيد به دبابة في عظام الراس خرطوم

ومنه قوله: { { فتصبح صعيداً زلقاً } فبين أن الصعيد قد يكون زلقاً. والصعدات الطرقات، قال الزجاج: لا أعلم خلافا بين أهل اللغة بأن الصعيد وجه الارض، سواء كان عليه تراب أو لم يكن، وهذا يدل على ما نقوله من أن التيمم يجوز بالحجارة سواء كان عليها تراب أو لم يكن { وطيباً } أي طاهراً، وقال سفيان: يعني حلالا. وأصل الصعيد من الصعود، وهو ما تصعد على وجه الأرض من ترابها، والاصعاد في الماء بخلاف الانحدار، والصعود عقبة يشق صعودها، ومنه قوله: { { سأرهقه صعوداً } وقيل: انه جبل في النار يؤخذ بصعوده، والصعدة هي القناة التي نبتت مستوية، لأنها تصعد في نباتها على استقامة، والصعداء تنفس بتوجع.
وقوله: { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } قيل في صفة التيمم ثلاثة أقوال:
أحدها - ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، ذهب إليه ابن عمر، والحسن، والشعبي، والجبائي، وأكثر الفقهاء، وبه قال قوم من أصحابنا.
الثاني - ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الزندين، ذهب إليه عمار بن ياسر، ومكحول، واختاره الطبري، وهو مذهبنا إذا كان التيمم بدلا من الجنابة، وان كان بدلا من الوضوء فيكفيه ضربة واحدة يمسح بها الوجه إلى طرف أنفه واليدين إلى الزندين.
الثالث - قال أبو اليقظان، والزهري: انه إلى الابطين، وقال قوم انه جائز أن يضرب بيديه على الرمل فيمسح بهما وجهه، وإن لم يعلق بهما شيء، وبه نقول. ويجوز للجنب أن يتيمم عندنا، وعند أكثر الفقهاء وأهل العلم. وبه قال عمار بن ياسر ورواه عن النبي (صلى الله عليه وسلم). وروي عن عمر، وابن مسعود، وابراهيم: أنه لا يجوز للجنب أن يتيمم، لقوله: { ولا جنباً إلا عابري سبيل } وقد بينا نحن أن المراد بذلك النهي عن دخول المساجد، فكأنه قال: ولا تقربوا المساجد للصلاة وأنتم سكارى { ولا جنباً إلا عابري سبيل } لأن من لم يكن له طريق غير المسجد، أو أصابه الاحتلام في المسجد جاز له أن يجتاز فيه، ولا يلبث فيه.
والسكران الذي زال عقله لا تصح صلاته، ويجب عليه قضاؤها، ولا يصح منه شيء من العقود ولا رفعها، كالنكاح، والطلاق، والعتق، والبيع، والشراء، وغير ذلك. وقضاء الصلاة يلزمه إجماعا، وأما ما يلزم به الحدود والقصاص فعندنا أن جميع ذلك يلزمه، إن سرق قطع، وإن قذف جُلد، وإن زنا حدّ، وغير ذلك، لاجماع الفرقة المحقة على ذلك، ولعموم الآية المتناولة لذلك، ولا يلزم على ذلك تكليف من قطع رجل نفسه الصلاة قائماً، لأن ذلك تكليف مالا يطاق، وإيجاب قضاء الصلاة على السكران ليس كذلك، وكذلك إقامة الحدود، لأن ذلك تابع للشرع، وفيه خلاف.
ويجوز أن يصلي صلوات الليل والنهار عندنا بتيمم واحد، وهو كالوضوء في هذا الباب، ما لم يحدث، أو يتمكن من استعمال الماء، وبه قال الحسن، وعطاء، وأبو حنيفة وأصحابه، وقال إبن عمر، والشعبي، وقتادة، وابراهيم، والشافعي يجب التيمم لكل صلاة، ورووا ذلك عن علي (ع)، وذلك عندنا محمول على الاستحباب.
ولا يجوز التيمم عندنا إلا عند تضيق الوقت، والخوف من فوته، واختار ذلك البلخي. وقال الشافعي: لا يجوز إلا بعد دخول الوقت، وقال أبو حنيفة: يتيمم أي وقت شاء، وإن كان قبل الوقت فهو كالوضوء. ومسائل التيمم استوفيناها في المبسوط، والنهاية، ولا نطول بذكرها ها هنا.
وقوله: { إن الله كان عفوَّاً غفوراً } أي يقبل منكم العفو، ويغفر لكم، لأن قبوله التيمم بدلا من الوضوء تسهيل علينا. وقيل: يعفو بمعني يصفح عنكم الذنوب، ويغفرها أي يسترها عليكم.