خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ
١١
لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١٢
شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ
١٣
وَمَا تَفَرَّقُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ
١٤
فَلِذَلِكَ فَٱدْعُ وَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
١٥
-الشورى

التبيان الجامع لعلوم القرآن

لما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله قل لهم الذي وصفته بأنه الذي يحيي ويميت هو ربي واليه ارجع فى أموري كلها، زاد فى صفاته تعالى { فاطر السماوات والأرض } أي هو فاطر السموات، ومعنى فاطر خالق السموات ابتداء. وحكي عن ابن عباس انه قال لم اكن أعرف معنى (فاطر) حتى تحاكم إلى اعرابيان في بئر فقال احدهما انا فطرته بمعنى أنا ابتدأته، والفطر ايضاً الشق. ومنه قوله تعالى { تكاد السماوات يتفطرن منه } وقوله { جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } يعني اشكالا مع كل ذكر أنثى يسكن اليها ويألفها. ومن الأنعام أزواجاً من الضان اثنين ومن المعز اثنين ومن البقر اثنين ومن الأبل اثنين، ذكوراً وإناثاً ووجه الاعتبار بجعل الأزواج ما في ذلك من إنشاء الشيء حالا بعد حال على وجه التصريف الذي يقتضي الاختيار، وجعل الخير له أسباب تطلب كما للشر أسباب تجتنب، فجعل لكل حيوان زوجاً من شكله على ما تقتضيه الحكمة فيه.
وقوله { يذرؤكم فيه } أي يخلقكم ويكثركم فيه يعني فى التزويج وفي ما حكم فيه. وقال الزجاج والفراء: معناه يذرؤكم به أي بما جعل لكم أزواجاً وانشد الازهري قول الشاعر يصف امرأة:

وارغب فيها عن لقيط ورهطه ولكنني عن سنبس لست ارغب

أي ارغب بها عن لقيط. فالذرء إظهار الشيء بايجاده يقال: ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءاً واصله الظهور، ومنه ملح ذرآني لظهور بياضه. والذرية لظهورها ممن هي منه. وقوله { ليس كمثله شيء } قيل فى معناه ثلاثة اقوال:
احدها - إن الكاف زائدة وتقديره ليس مثل الله شيء من الموجودات ولا المعدومات كما قال أوس بن حجر:

وقتلى كمثل جذوع النخيل يغشاهم سيل منهر

وقال آخر:

سعد بن زيد إذا ابصرت فضلهم ما إن كمثلهم فى الناس من احد

وقال الراجز:

وصاليات ككما توثقين

الثاني - قال الرماني: إنه بلغ في نفي الشبيه إذا نفى مثله، لانه يوجب نفي الشبهة على التحقيق والتقدير، وذلك انه لو قدر له مثل لم يكن له مثل صفاته ولبطل ان يكون له مثل ولنفرده بتلك الصفات، وبطل ان يكون مثلا له فيجب أن يكون من له مثل هذه الصفات على الحقيقة لا مثل له أصلا إذ لو كان له مثل لم يكن هو بصفاته وكان ذلك الشيء الآخر هو الذي له تلك الصفات، لانها لا تصح إلا لواحد فى الحقيقة وهذا لا يجوز أن يشبه بشبه حقيقة، ولا بلاغة فوجب التبعيد من الشبه لبطلان شبه الحقيقة.
الثالث - وجه كان المرتضى علي بن الحسين الموسوي (رحمة الله عليه) جارانا فيه فاتفق لي بالخاطر وجه قلته فاستحسنه واستجاده، وهو ان لا تكون الكاف زائدة ويكون المعنى انه نفى ان يكون لمثله مثل وإذا ثبت انه لا مثل لمثله فلا مثل له ايضاً. لأنه لو كان له مثل لكان له امثال، لأن الموجودات على ضربين: احدهما - لا مثل له، كالقدرة فلا أمثال لها ايضاً. والثاني - له مثل كالسواد والبياض واكثر الاجناس فله امثال ايضاً وليس فى الموجودات ما له مثل واحد فحسب، فعلم بذلك ان المراد انه لا مثل له اصلا من حيث لا مثل لمثله.
وقوله { وهو السميع البصير } معناه انه على صفة يجب ان يسمع المسموعات إذا وجدت ويبصر المبصرات إذا وجدت وذلك يرجع إلى كونه حياً لا آفة به، وفائدة ذكره - ها هنا - هو انه لما نفى ان يكون له شبه على وجه الحقيقة والمجاز، وعلى وجه من الوجوه بين انه مع ذلك سميع بصير، لئلا يتوهم نفي هذه الصفة له على الحقيقة فقط، فانه لا مدحة في كونه مما لا مثل له على الانفراد، لان القدرة لا مثل لها، وإنما المدحة في انه لا مثل له مع كونه سميعاً بصيراً، وذلك يدل على التفرد الحقيقي.
وقوله { له مقاليد السماوات والأرض } معناه له مفاتيح الرزق منها بانزال المطر من السماء واستقامة الهواء فيها وابنات الثمار والاقوات من الأرض. ثم قال { يبسط الرزق لمن يشاء } أي يوسعه له { ويقدر } أي يضيق لمن يشاء ذلك على ما يعلمه من مصالحهم { إنه بكل شيء عليم } مما يصلحهم او يفسدهم.
ثم خاطب تعالى خلقه فقال { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } معنى شرع بين وأظهر، وهو { الذي أوحينا إليك } يا محمد صلى الله عليه وآله وهو { ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } وسائر النبيين، وهو أنا أمرناهم بعبادة الله والشكر له على نعمه وطاعته في كل واجب وندب مع اجتناب كل قبيح، وفعل ما أمر به مما أدى إلى التمسك بهذه الاصول مما تختلف به شرائع الانبياء.
ثم بين ذلك فقال { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } وموضع { أن أقيموا } يحتمل ثلاثة اوجه من الاعراب:
احدها - ان يكون نصباً بدلا من (ما) فى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً }.
الثاني - ان يكون جراً بدلا من الهاء في (به).
الثالث - ان يكون رفعاً على الاستئناف، وتقديره هو ان أقيموا الدين. وقوله { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } معناه كبر عليهم واستعظموا كونك داعياً إلى الله، ودعاؤك يا محمد وأنث مثلهم بشر ومن قبيلتهم إنك نبي، وليس لهم ذلك، لان الله يجتبى لرسالته من يشاء على حسب ما يعلم من قيامه باعباء الرسالة وتحمله لها، فاجتباك الله تعالى كما اجتبى موسى ومن قبلك من الانبياء، ومعنى { يجتبى } يختار. وقوله { ويهدي إليه من ينيب } معناه ويهديه إلى طريق الثواب ويهدي المؤمنين الذين أنابوا اليه وأطاعوه. وقيل: يهديه إلى طريق الجنة والصواب بأن يلطف له فى ذلك إذا علم ان له لطفاً، ثم قال { وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم } ومعناه إن هؤلاء الكفار لم يختلفوا عليك إلا بعد أن اتاهم طريق العلم بصحة نبوتك، فعدلوا عن النظر فيه بغياً بينهم للحسد والعداوة والحرص على طلب الدنيا وإتباع الهوى. وقيل: إن هؤلاء لم يختلفوا إلا عن علم بأن الفرقة ضلالة، لكن فعلوا ذلك للبغي.
ثم قال { ولولا كلمة سبقت من ربك } بأن اخبر بأنه يبعثهم { إلى أجل مسمى } ذكر انه يبقيهم اليه لم يجز مخالفته، لانه يصير كذباً { لقضي بينهم } أي لفصل بينهم الحكم وانزل عليهم ما يستحقونه من العذاب عاجلا. ثم قال { وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم } قال السدي: يعني اليهود والنصارى من بعد الذين أورثوا الكتاب الذي هو القرآن { لفي شك منه مريب } أي من الدين. وقال غيره: الذين اورثوا الكتاب من بعد اليهود والنصارى في شك من الدين مريب، وهم الذين كفروا بالقرآن وشكوا فى صحته وانه من عند الله من سائر الكفار والمنافقين.
وقوله { فلذلك فادع واستقم } معناه فالى ذلك فادع، كما قال
{ { بأن ربك أوحى لها } أي اوحى اليها يقال دعوته لذا وبذا وإلى ذا. وقيل: معنا فلذلك الدين فادع. وقيل: معناه فلذلك القرآن فادع. والاول احسن واوضح
وقوله { ولا تتبع أهواءهم } نهي للنبي صلى الله عليه وآله عن إتباع ما هو به المشركون والمراد به أمته. وقيل: ثلاث من كن فيه نجا: العدل فى الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، والخشية فى السر والعلانية. وثلاث من كن فيه هلك: شح مطاع، وهوى متبع، وعجب المرء بنفسه.
وقوله { وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } أي قل لهم صدقت بما انزل الله من القرآن وبكل كتاب انزله الله على الانبياء قبلي { وأمرت لأعدل بينكم }. وقيل في معناه قولان: احدهما - امرت بالعدل. والثاني - أمرت كي اعدل. وقل لهم أيضاً { الله ربنا وربكم } أي مدبرنا ومدبركم ومصرفنا ومصرفكم { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } ومعناه أن جزاء أعمالنا لنا من ثواب او عقاب وجزاء اعمالكم لكم من ثواب او عقاب، لا يؤاخذ احد بذنب غيره، كما قال
{ { ولا تزر وازرة وزر أخرى } { لا حجة بيننا وبينكم } أي لا خصومة بيننا - فى قول مجاهد وابن زيد - أي قد ظهر الحق فسقط الجدال والخصومة. وقيل: معناه إن الحجة لنا عليكم لظهورها، وليست بيننا بالاشتباه والالتباس. وقيل: معناه لا حجة بيننا وبينكم لظهور أمركم فى البغي علينا والعداوة لنا والمعاندة، لا على طريق الشبهة، وليس ذلك على جهة تحريم إقامة الحجة، لأنه لم يلزم قبول الدعوة إلا بالحجة التي يظهر بها الحق من الباطل فاذا صار الانسان إلى البغي والعداوة سقط الحجاج بينه وبين اهل الحق. ثم قال { الله يجمع بيننا يوم القيامة وإليه المصير } أي المرجع حيث لا يملك احد الحكم فيه ولا الأمر والنهي غيره، فيحكم بيننا بالحق. وفي ذلك غاية التهديد. وقيل: إن ذلك كان قبل الأمر بالقتال والجهاد.