خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
٥
-الفاتحة

تفسير صدر المتألهين

قوله جل اسمه:
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }
إيّا ضمير منفصل للمنصوب، والروادف التي بعده من الحروف لبيان الخطاب والغيبية والتكلّم، وليس لها محل من الإعراب، إذ ليست هي بأسماء مضمرة عند المحقّقين. وأما قول بعض العرب: "إذا بلغ الرجل الستّين فإيّاه وإيّا الشوابّ" فشاذ، وتقديم المفعول للدلالة على الاختصاص. فقولك للرجل: إيّاك أعني، معناه لا أعني غيرك: ولا شكّ في أنه أبلغ من أن يقول: أعنيك، كما في قوله تعالى:
{ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً } [الأنعام:164].
والمعنى: نخصّك بالعبادة ونخصّك بالاستعانة. وقرئ إياك بتخفيف الياء، وأيّاك بفتح الهمزة والتشديد، وهيّاك بقلب الهمزة هاء وقرئ بكسر النون فيهما، وهي لغة بني تميم فإنّهم يكسرون حروف المضارعة غير الياء إذا لم ينضم ما بعدها. والعبادة ضربٌ من الشكر وغايةٌ فيه، لأنها الخضوع والتذلّل، تدل على أعلى مراتب التعظيم ولا يستحقّها أحد إلاّ باعطاء أصول النعم الذي هو خلْق الحياة والقُدرة والحسّ والشهوة. و لا يقدر عليه أحدٌ إلاّ الله، فلذلك اختص سبحانه بأن يُعبد، ولا تجوز العبادة لغيره، بخلاف الطاعة، فإنّها قد تحسن لغيره، كطاعة الأب والمولى والسلطان والزوج، فمن قال: إنّ العبادة هي الطاعة، فقد أخطأ، لأنها غاية التذلّل دون الطاعة، فإنّها مجرد موافقة الأمر، ألا ترى أنّ العبدَ يطيعُ مولاه ولا يكون عابداً له؟ والكفّار يعبدون الأصنام ولا يكونون مطيعين لهم؟ إذ لا يتصور من جهتهم الأمر.
فائدة
إنّ في تقديم إيّاك على نَعبدُ وجوهاً:
منها: أنّ في هذا التقديم تنبيهاً منه للعابد على أنّ المنظور إليه في العبادة هو المعبود نفسه، لا شيء آخر، من طلب ثواب أو دفع عقاب.
ومنها: أنّه قدم نفسه لتنبيه العابد من أول الأمر على أن المعبود هو الله الحقّ، فلا يلتفت يميناً وشمالاً، ولا يتكاسل في الطاعات، ولا يثقل عليه تحمّل العبادات من الركوع والسجود، فإنّه إذا ذكر قوله: إيّاك، يحضر في قلبه معرفة الربّ تعالى، فبعده سهلت عليه تلك الطاعات، وهانت عليه مشقّة العبادات، ومثاله: من أراد حمل جسم ثقيلٍ، يتناول قبل ذلك ما يزيده قوّة وشدّة. فالعبدُ لمّا أراد حمل التكاليف الشاقّة، يتناول أولاً معجون معرفة الربوبيّة من قوله ايّاكَ حتّى يقوى على حمل ثقل العبوديّة.
ومنها: أنّك إذا قلت: نعبدُك، بتقديم ذكر العبادة منك، فقبل أن تذكر أنّها لمن هي، فيحتمل أنّ الشيطان يقول: إنّها للاصنام، أو للأجسام كالشمس والقمر: أما إذا غيّرت هذا الترتيب وقلت أولاً: إياك، ثمّ قلت ثانياً: نعبدُ. فلم يبق مجال لهذا الاحتمال، وكان أبلغ في التوحيد، وأبعد عن احتمال الإشراك.
ومنها: أنّ المعبود متقدّم في الوجود والشرف على الممكن، وكان ينبغي أن يكون ذكره متقدّماً على ذكر غيره.
فائدة اخرى
[سر الالتفات من الغيبة الى الخطاب]
اعلم أن الدنيا لمّا كانت دار التعب والكلال، والسآمة والملال، فمن عادة فصحاء العرب التفنن في الكلام، والعدول من طرز إلى طرز، تنشيطاً للسامع، وتنبيهاً لذهنه عند العدول من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب الى التكلم، وبالعكس. وهذا أحسن من الجري على نسَق واحد، واللزوم لمسلك متكرر ومع ذلك، قد تختصّ مواقع الالتفات بزوائد فوائد من النكات، لا تحصل بدونه. وها هنا من هذا القبيل، إذ قد تقرّر في العلوم الإلهيّة، ان شدّة الإدراك، وتأكّد الصورة العلمية في الوضوح والانارة، وقوّة الشوق الى المدرَك ورسوخه، يوجبان حضور المعلوم، ولهذا قيل: المعرفة بذر المشاهدة والرؤية ثمرة اليقين.
فلما ذكر الله تعالى، وأُجرِيَت عليه صفات كمالية ونعوت إلهية من كونه حقيقاً بالحمد، ربّ العالمين، موجِداً للكلّ، منعِماً عليهم بالنعم كلّها، جليلها ودقيقها، دنيويّها وأخرويّها، محسوسها ومعقولها، مالكاً لامورهم يوم الجزاء واللقاء، تميّزت بها ذاته عن سائر الذوات، وتنوّر القلب بأنوار معرفة هذه الصفات، وفتحت البصيرة بكشف هذه الآيات، وتعلّق العلم بمعلوم معيّن حاضر حضوراً إشراقياً، فخوطب بالكلام: يا من هو بالحمد حقيق، وبهذه الصفات الكمالية يليق، نخصّك بالعبادة والاستعانة. ليكون الخطاب أدلّ على هذا الاختصاص، ولاستجلاب مزيد قرْب بعد قرب في هذا التذلّل والانكسار، وطلب معونة من قربه على قربه، لأنّ ذاته غير متناه في شدة الوجود وقوّة البهاء والعظمة، لا يمكن الاكتناه بنور وجوده، فكلّما كوشف للسالك، كان المستور منه بستر الجلال وسرادق الكبرياء أعظم بما لا نسبة بينهما، إذ المنال والمشهود هناك بقدر قوّة نظر الطالب ونور بصيرته، لا بحسب المطلوب نفسه، وكلما ازداد في القرب ازداد في الاشتياق، ويكون أحوج إلى طلب المعونة لزيادة المشاهدة وكسب الإشراق، فكان أول الكلام مبنيّاً على ما هو بداية أمر السالك من الأذكار والأفكار، والتأمّل في الأسماء والنظر في الآلاء والنعماء، طلباً للاستبصار، وتقرّباً الى مشاهدة نور الأنوار، واستدلالاً من صنائعه على أسمائه وصفاته، ومن أسمائه وصفاته على انوار جماله وأسرار جلاله ثمّ صار مؤدّياً إلى منتهى سيره وغاية سفره إلى الحقّ، وهو كونه ممّن يخوض لجّة الوصول، ويصير من أهل المشاهدة، فيراه عياناً، ويشاهده كفاحاً، ويشافهه شفاهاً، كما أشار إليه صاحب الإشارات، المرتقي بصفاء ضميره عن درجة أهل العبادات، الواصل الى مقامات العارفين ودرجات المكاشفين، كما يفصح عنه قوله: "وهناك" أي عند الخوض في لجّة الوصول والسفر في بحر الحقيقة بعد العبور على منازل العقول "درجات ليست أقل ممّا قبلها" بحسب كثرة العجائب، وفنون الغرائب، وتمادي الأسفار، وتباعُد المراحل، وتفاوت المنازل، لأن كل حقيقة من الحقائق الكونية، وكلّ صورة من الصور الكمالية الوجودية، التي هي ثابتة للموجود بما هو موجود في شيء من العوالِم، فهي هناك بالفعل على وجه أعلى وأشرف وأتمّ، من غير لزوم تكثّر، وتطرّق تغيّر في الحضرة الأحدية، فالذات الأحدية أرض كل الحقائق، وسماء أنوار الهويّات، يقع فيه سير المسافرين، ويدور عليه أنوار السائرين، من الله مشرقها، وإلى الله مغربها، إذ ما شأنه أن يعاين بحق اليقين وعينه، فكيف يمكن أن يدرك بعلم اليقين أو دونه؟
إلا انّ البيان قاصر عن وصفه، واللسان يكلّ عن نعته، ولهذا قال صاحب المقامات - اعتذاراً عن بيان أحوال هذا المشهد-: "آثرنا الاختصار فإنها لا يفهمها الحديث ولا تشرحها العبارة ولا يكشف عنها المقال غير الخيال، من أحبّ أن يتعرّفها فليتدرّج إلى أن يصير من أهل المشاهدة دون المشافهة، ومن الواصلين إلى العين دون السامعين للاثر" انتهى كلامه.
ونحن أيضاً قد آثرنا الاختصار في مقامٍ خرست فيه السُن الفصحاء، واتّبعنا قول سيّدنا ونبيّنا (عليه وآله الصلاة والدعاء): إذا بلغ الكلام إلى الله فامسكوا.
بصيرة
[سر تقدم اياك نعبد على اياك نستعين]
اعلم إن الانسان مركّب من جسد كالمركَب وروح كالراكب، وهو منذ خلَقه الله في سفر الآخرة، وغاية سفره لقاء الله، لهذا خُلق وعليه فُطر وجُبل، وهو المقصود من الروح، والمقصود من الجسد اكتساب المنافع واقتناء الخيرات والتخلّص عن الشرور والآفات. وهو المعني بالعبادة والخدمة.
فلا جرم كان أفضل أحوال الجسد أن يكون آتياً بالأعمال المقرّبة للروح إلى الله، تعظيماً للمعبود وخدمة له، وهو أول درجات السعادة للإنسان، وهو المراد بقوله تعالى: { إيّاك نَعبُدُ }.
وأفضل أحوال الروح أن يكون مرتبطاً بالحقّ، متعلقاً به، منقطعاً عن غيره، متجرّداً عن الدنيا وما فيها، فإذا واظَب على تحصيل هذه المرتبة، وداوَم على تجريد ذاته وتخليصها عن العلائق الماديّة والغواشي الدنيوية، فعند ذلك يظهر له شيء من أنوار القدس ولوامع الغيب، فإذا تنورت ذاته بنور المعرفة والعبادة، يعلم أنّ مبدء شوقه إلى عالم الملكوت، ومحرك ذاته لطلب التقرّب إليه تعالى، لم يكن ولا يكون إلا الله مقلّب القلوب ومحرّك النفوس، وأنّه بنفسه لا يستقل بالإتيان بهذه العبادات والتدرّج على هذه الدرجات، ولا يمكنه الإتيان بتحصيل شيءٍ من الكمالات العلمية والعمليّة إلا بتوفيق الله وعنايته وعصمته، وهو المراد من قوله تعالى: واياكَ نستَعينُ.
وفيه ايضاً حجّة لأهل التوحيد الأفعالي، قال بعض العرفاء الموحّدين: ولولا أنّ العبد ادّعى الاستطاعة في الأفعال والاستقلال بها، لما أنزل الله عليه تكليفاً قطّ، ولا شريعة، ولهذا جعل حظّ المؤمن من هذه الدعوى أن يقول: ايّاكَ نَستعينُ، وحظّ العفراء المكاشفين ممن وقع عنهم التبرّي من الأفعال الظاهرة وجودها منهم أن يقولوا: لاَ حَولَ وَلاَ قوَةَ الاَ بالله العليّ العَظيم، فهذا القول لا يصدر على وجه الصدق إلاّ عن اولئك الكاملين العارفين بها التوحيد الأفعالي، فهو لهم خاصّة دون غيرهم، فكم بين الحالين من التبرّي والدعوى. فالمدعي مطالَب بالبرهان على دعواه، والمتبري غير مطالَب بذلك. ولا تقل: إنّ التبري أيضاً دعوى، فإنّ التبري لا يبقي شيئاً، وعلى ذلك ينطلق إسم المتبري - انتهى كلامه.
وبالجملة فالمراد من قوله: ايّاكَ نَسْتَعين، طلَبُ الهداية لأقرب المناهج وأقوم الطرق إلى الله، كما وقع الافصاح عنه بعد هذه الآية بما يتلوها.
بصيرة اخرى
[الإشارة إلى السفر الثالث من الأسفار الأربعة]
الضميران المستكنّان في هذين الفعلين، إما للنبي (صلّى الله عليه وآله) وأمته أو للإمام وحاضري صلاة الجماعة معه. أو للقاري ومن معه من الحفظة أو له ولسائر الموحدين. أدرج عبادته في تضاعيف عباداتهم، وخلَط حاجتَه بحاجاتهم، لعلها تُقبل ببركاتها وتجاب إليها؛ كادراج البائع غيرَ الرائج في جملة الرائج في بيع الصفقة، ومن ها هنا يُعلم سرّ شريعة الجماعات.
ولتقديم ضمير المعبود والمستعان به وجوه أخرى غير ما ذكر، كالتعظيم، وتقديم ما هو مقدم في الوجود، وللاشارة إلى أن نظر العابد والتفاته ينبغي أن يكون مقصوراً على ذات المعبود أولاً وبالذات، ثم إلى العبادة، لأنها وسيلة ووصلة بينه وبين الحق، فمن كان غرضه من المعرفة والعبادة نفسه أو نفس شيء منهما، فهو ليس من الموحدين ولا من العابدين، لأنه يعبد غير الله، وهذه حال المتبجح بزينة ذاته، وإن كان بمعرفة الحق، وأما من عبَد الله وغاب عن ذاته وعن عبادته، فهو مستغرق في العبودية لله بما هي عبودية له، وانتساب إليه، نسبة الفقر والحاجة التي هي من أشرف النِسَب. فإن قُصارى مجهود العابدين تصحيح هذه النسبة ومَن كانت هذه حالته في العبادة فهو من الواصلين لا محالة. اذ ملاحظة النسبة بما هي نسبة عين ملاحظة المنسوب إليه، فهو بالحقيقة مستغرق في ملاحظة جناب القدس وغائب عن ما سواه، حتى أنه لا يلاحظ نفسه، ولا حالاً من أحوال نفسه إلا من حيث إنها ملاحظة له ومفتقرة إليه. ولهذا رجّح قول حبيب الله:
{ { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } [التوبة:40]. على قول كليمه: { { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء:62].
وبالجملة، أشرف منازل السالكين مقامُ الفقر ومنزل العبودية. والسبب العقلي فيه: ان جميع الموجودات قابلة للرحمة الإلهية، والكمال الوجودي بحسب فطرتها الإمكانية، وإنما المانع منها عن قبول الفيض الأتمّ والجود الأشمل، هو تقيّده بقيد خاص وتصوره بصورة وجوديّة مخصوصة تضاد قيداً آخر وصورة وجودية أخرى، فبقدر تخلّصه عن قيده الجزئي، وانخلاعه عن صورته المخصوصة، يستحقّ لكمال أتمّ وأعمّ، وصورة جوديّة اشمل وأكمل، فإذا تجرّد عن كل ما سوى الله، وغابَ عن كل اسم ورسم وحلية وصفة وحول وقوة، كان الله له بدلاً عن جميع ذلك، فصار الحقّ حولَه وقوّتَه وسمعَه وبصرَه ويدَه ورِجْله وجميع قواه وجوارحَه - كما ورد في الحديث القدسي - من غير تغير وتكثّر في ذاته وصفاته تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
ولهذا أمثلة كثيرة:
منها: أن الهيولى الأولى للاجسام، لمّا كانت في ذاتها عارية عن كلّ صورة حسّية وصفة جسمانيّة، قبلتها كلّها، بخلاف الموادّ الثانوية لها، فإنّها من حيث استعدادها الخاصّ لا تقبل إلا صورة واحدة، فكذلك النفس الإنسانيّة التي هي هيولى العقليّات، من شأنها أن تقبل سائر الصور العقلية والكمالات الملكوتية والأخلاق الحسَنة كلّها، إلاّ انّ تقيّدها ببعض الصفات، واحتجابها بحجب بعض الملكات يمنعها عن الاتّصال بما فوقها.
ومنها: أنّ العناصر إذا امتزجت وتفاعلَت وانفعَل كل منها عن صاحبه، انكسرت كيفيّاتها، وكادتْ تخلَع عنها صوَرها المتضادّة الجزئية، فعند انكسارها وشدّة افتقارها إلى ما يحفظها عن الفساد، فاض عليها المبدأ الجواد بصورة كماليّة جامعة لكمالات تلك الصوَر المتعددة بوحدتها الجمعيّة، وقس عليها حال النفوس المتعدّدة عند اجتماعها في بيوت العبادة ومجالس العلم والذكْر، وتركها شواغلها الدنيويّة، كيف تُفاض عليها بركة الهيئة الجمعيّة، وتنكشف عليها صورة المسالة العلميّة التي هي أشرف من تلك الشواغل.
ومنها: أنّ الجسم الملوّن الكثيف، إذا زال بالتصقيل لونُ سطحه وضوؤه، قَبِل بعد ذلك لون كل ما يقابله وضوءَه وما ذلك إلاّ لأنّ الجسم الصقيل لا لون له ولا ضوء له بالفعل، مع أنّه من شأنه أن يكون ذا لون وضوء لكونه كثيفاً.
ومنها: أنّ الجسم المشف من شأنه قبول الألوان كلّها، وإذا اتّصف بلون خاصّ يمتنع عليه قبول غيره، يماثله أو يضادّه، وأما أنّ الملوّن بغير السواد، يقبل لون السواد، فلأنّ غير السواد من الألوان بالقياس إلى السواد كاللاّلون بالقياس إلى اللون، وها هنا موضعُ تأمل.
ومنها: أنّ كلاً من مواضع الشعور الخمسة خالية عن الكيفيّات المحسوسة بتلك الآلة، فإنّ آلة البصر - وهي الجليديّة - شفّافة، وآلة الطعْم - وهي الرطوبة اللعابيّة - عديمة الطعم، وآلة الشمّ عديمة الرائحة، وآلة السمْع عديمة الصوت، وكذلك حكم آلة اللَمسَ، فإنّها وإن لم تكن خالية عن أوائل الكيفيات إلاّ انّها متوسّطة بينها، وقد تقرّر إنّ التوسط بين الأضداد بمنزلة الخلوّ عنها، أو لا ترى أنّك تقول للماء الفاتِر: لا حار ولا بارد؟.
ولأجل خلوّ مادة كل من هذه القوى الحسّاسة عن جميع أفراد الصوَر التي هي واقعة تحت جنس محسوساتها، صارت قابلة للجميع من غير تأبٍّ وتعصٍّ عن قبول شيء منها، ما لم يعرض لها فساد أو مرض.
ثمّ إنّ مادّة كلّ منها، وإن لم تكن مقيّدة بصورة الكيفية التي يقع الإحساس بها من تلك الحاسّة، ولكنّها مقيّدة بصوَر وكيفيات أخر من أجناس سائر المحسوسات، ولهذا اقتصر إدراكها على ما يخصّها ولا يتجاوز عنه إلى المحسوسات الأربع الباقية، ولخلوص القوّة المتخيّلة عن هذه الكيفيّات المحسوسة كلّها، أدركت الجميع وأحضرتها، لأنّ جوهر النفس الخياليّة غير مبصَرة ولا مسموعة ولا مشمومة ولا مذوقة ولا ملموسة، ولها قوّة قبول هذه الأشياء كلّها، فلا جَرَم تقبلها كلّها.
ومنها: أنّ ملكة العدالة النفسانية - التي هي عبارة عن توسّط النفس الإنسانيّة في الشهوة بين الفجور والخمود، وفي الغضب بين الجُبن والتهوّر، وفي القوّة الإدراكيّة بين الجَربزة والبلاهة - لمّا كانت بمنزلة كون النفس خالية عن الإتّصاف بهذه الصفات الستّة، التي كلّ منها هيئة نفسانيّة شاغلة إيّاها إذا كانت راسخةً عن طلب الحقّ وسلوك الآخرة، صارت بسببها مستعدّة للكمال العلمي، لأنّها عند انكسار هذه القُوى وانقهارها عن طلب مشتهياتها ومقتضياتها، تخلص عن انقيادها وطاعتها، فتقع لها بقوّة عقلها الهيولاني، هيئة استعلائيّة عليها، وقوّة نوريّة استعداديّة لطاعةِ الحقِّ وانقياده، وقبولِ أنوار المعارف الإلهيّة وأسرارِ المقاصدِ الربوبيّة، فيصير عقلُه المنفعل علاّمةً بالحق، مطيعاً لله تعالى.
فإذا علِمتَ حال هذه الأمثلة، فقسْ عليها حالَ السالك العارِف بالله عند عدم التفاته بما سواه، وعند كونه غير مشغول السرّ بغير الله، وغير متبجح بزينة ذاته من حيث هي ذاته، وإن كانت بصورة المعرفة وهيئة العبوديّة، بل مع غيبته عن ذاته، وغيبته عن غيبة ذاته، وفنائه عن فنائه، وحينئذ يكون باقياً ببقاء الله فوق ما كان باقياً بابقاء الله، كما كان قبل الوصول، وهذا هو مقام الفناء في التوحيد والمحو، وإليه الإشارة بقوله: { إيَّاك نَعبُدُ }.
فإذا بقي في هذا المحو ولم يرجع إلى الصحو، كان مستغرقاً في الحقِّ محجوباً بالحقّ عن الخلق، كما كان قبل ذلك محجوباً بالخلق عن الحقّ، لضيق وعائه الوجودي وامتناع قبوله التجلّي الذاتي الشهودي فكذلك الموجود في مقام هذا التجلّى والشهود احتجب التفصيل عن شهوده واضمحلّت الكثرة في وجوده، ما زاغ بصرُه عن مشاهدة جمالِه وسَبَحاتِ نور جلاله، لاستغراقه في بحر التوحيد، فلا ينظر إلى ما سواه ولا يستعين إلاّ إيّاه، فيقول عند ذلك: إيّاكَ نَستَعينُ. أي في مشاهدة آلائكَ بمشاهدة ذاتِكَ وصفاتِك فحينئذ يرجع من الحقّ بالحقّ إلى الخلق، وهذا هو السفر الثالث من الأسفار الأربعة الواقعة من الكاملين المكملين.
فإذا رجع بالوجود الحقّاني الموهوب إلى حالة الصَحْو بعد المَحْو، وانشرَح صدرُه ووسع الحقَّ والخَلْقَ، صار منتصباً في مقام الاستقامة كما أمر الله به الرسول - صلّى الله عليه وآله - في قوله:
{ { فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ } [هود:112]، متوسّطا في صراط الحقّ بين التشبيه والتعطيل، ناظراً بعين الجمع إلى التفصيل، وإليه الإشارة بقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }.
وذلك هو الفوز العظيم، والمنُّ الجسيم، فقوله: ايَّاكَ نَعْبُدُ، إشارة إلى مقام السلوك إلى الله والتقرّب إليه بالعبوديّة التامّة له، وهي مرتبة الولاية المشارُ إليها في قوله: لا يزالُ يتقرّبُ العبدُ إليَّ النوافِل حتّى أحْببتُه. وقوله: وَايَّاكَ نَستَعينُ، إشارة إلى مقام الصحْو بعد المحْو، وهي مرتبة النبوة، المشار إليها في قوله تعالى: فإِذَا أحبَبتُه كُنْتُ سمعَه وبصرَه ويدَه ورِجْلَه - الحديث.
بصيرة
[سر تقديم العبادة على الاستعانة]
قيل: قدّمت العبادة على الاستعانة، لتتوافق رؤوس الآي. وقيل: إنّ العبادة وسيلة لطلب الحاجة، وتقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة وأسرع للقبول.
وأقول: لمّا علمتَ أنّ أشرف مراتب الإنسان - بما هو إنسان - وأجلُّ مقاماته، تحصيل نسبة الإمكان والافتقار إليه سبحانه بالعبادة والعبوديّة، ولهذا قدّم ذكر العبوديّة على ذكر الرسالة في قولك: أشهدُ أنّ محمداً عبدُه ورسوله، وذلك لأن الأولى عبارة عن نسبة العبد إليه تعالى، والثانية عبارة عن نسبته إلى الخلق، فالأولى تكون أقدم من الثانية بالشرف، وإن كان الرسول أفضل من الوليّ، لكونه جامعاً للمنزلتين جميعاً، فكذلك الكلام ها هنا، فإنّ العبادة لكونها وسيلة إلى الحقّ، أشرفُ من الاستعانة لكونها وسيلةً إلى الخلق.
واعلم أنّ في تقديم العبوديّة على الرسالة في التشهّد وجهاً آخر، وهو: أن لكلّ من الولاية والنبوّة حدوثاً وبقاءً، فالولاية أقدم حدوثاً وأدوم بقاءً من الرسالة، فناسب التقدم الوضعي للتقديم الزماني.
وجه آخر
قيل: لما نسبَ المتكلمُ العبادة إلى نفسه، كأنّه أوهَم ذلك تبجحاً بزينة ذاته من جهة نسبةِ العبادة، واعتداداً منه بما يصدر عنه، فعقّبه بقوله: إيَّاكَ نَستَعينُ، ليدل على أن العبادة أيضاً مما لا يتمّ ولا يستتبّ إلاّ بمعونة منه وتوفيق. وقيل: الواو للحال.