خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
١٤
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

هذا هو النوع الرابع من أنواع الأفعال والأقوال القبيحة للمنافقين المذكورة في هذه الآيات، ولهم أنواع كثيرةٌ من القبائح مذكورة في مواضع من القرآن.
منها: ما ذكره بقوله:
{ { وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [الزمر:45]. وبقوله: { { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِٱلَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا } [الحج:72].
ومنها ما وصفهم الله به في قوله:
{ { وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } [البقرة:206].
ومنها: تقليدهم للآباء والمشايخ وإن كانوا على الباطل، كما وصَفهم الله في مواضع بمثل قوله:
{ { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } [لقمان:21].
ومنها: اتّباعهم للهوى:
{ { وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } [الكهف:28]. الآية.
ومنها: انكارهم واستكبارهم عن طلب الحق وقبوله:
{ { فَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } [النحل:22].
ومنها: غمزهم للمؤمنين:
{ { وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } [المطففين:30].
ومنها: الهمزة واللمز:
{ { ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } [الهمزة:1].
ومنها: تَنابزهم بالألقاب:
{ { وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ } [الحجرات:11].
ومنها: تفاخرهم بالأنساب:
{ { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات:13].
ومنها: تزكيتهم أنفسهم:
{ { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } [النساء:49].
ومنها: افتراؤهم على الله:
{ { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ } [الأنعام:93].
ومنها: كتمانهم ما أنزل الله:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا } [البقرة:159] الى قوله: { { وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ } [البقرة:159].
ومنها: أكلهم أموال اليتامىٰ ظلماً:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً } [النساء:10]. الآية.
ومنها: أكلهم الأموال بالباطل من جهة التشبّث بالدين:
{ { إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ } [التوبة:34].
ومنها: غرورهم بالدين:
{ { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [آل عمران:24].
ومنها:
{ { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } [آل عمران:120].
ومنها:
{ { وَٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـآءَ ٱلنَّاسِ } [النساء:38].
ومنها:
{ { ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } [النساء:139].
ومنها:
{ { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } [الأنفال:35].
ومنها:
{ { ٱشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ } [التوبة:9].
ومنها:
{ { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [التوبة:109].
ومنها: إنهم يجعلون لله ما يكرهون من الصفات التشبيهية، والانفعالات، كالغضب والانتقام على النحو الذي تخيّلوه.
ومنها: سعيهم في تحصيل العلوم الظاهريّة طلباً للدنيا والاشتهار، وانكارهم للعلوم الخفيّة الإلٰهية:
{ { ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً } [الكهف:104 - 105].
ومنها: مجادلتهم في الله من غير معرفة وبصيرة:
{ { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } [الحج:3 - 4].
ومنها: انهم زُيّن لهم سوءُ عملهم:
{ { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَاءَهُمْ } [محمد:14].
ومنها: ارتدادهم عن الهدى بحسب سرّهم:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ } [محمد:25] الى قوله: { { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } [محمد:26].
ومنها: استنكافهم عن صحبة الصلحاء:
{ { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } [المنافقون:8].
ومنها: كثرة يمينهم وحلْفهم في إثبات الدواعي والدعاوي:
{ { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } [القلم:10]. الآيات. قال تعالى: { { وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } [البقرة:224]. وقيل: إيمان المرء يُعرف من أَيْمانِه.
ومنها: تولّيهم عن ذكر الله الى الدنيا:
{ فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَٰوةَ ٱلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ } [النجم:29 - 30].
ومنها: الاستدارج من الله لهم:
{ { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [القلم:44 - 45].
ومنها: إعراضهم عن الآيات والحكمة، ونسيانهم ذكر الله:
{ { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } [طه:124 - 126]. وقوله: { { فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ } [المجادلة:19]. وقوله: { { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة:67].
ومنها: انهم يضحكون من طور أهل العلم والورع، وينسبونهم الى الضلال، قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ } [المطففين:29 - 32]. إلى غير ذلك من أقوالهم القبيحة، وأطوارهم النكيرة، وآرائهم المردية، وأهوائهم الشيطانية التي يطول الكلامُ بذكرها، بل هي خارجة عن الضبط.
وقرئ: "إذا لاقوا". وقوله: { آمَنَّا } المراد به أخلصنا بالقلب، وما صدّرت به القصة كان بمعنى "أقررنا"، فلا تكرار. والدليل على ما ذكرنا أمران:
أحدهما: أنّ الإقرار باللسان كان معلوماً منهم فما احتاجوا الى بيانه، انما المشكوك فيه منهم هو الإخلاص بالقلب، فاحتاجوا الى إظهاره.
وثانيهما: أنّ قولهم للمؤمنين: { آمَنَّا } يجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يُظهرونه لشياطينهم، فادعاؤهم هناك كان تكذيباً قلبياً، فها هنا ينبغي أن يكون تصديقاً قلبياً.
وقيل: هذا بيان معاملتهم مع الطرفين، والذي ذكر في صدر القصّة، فلبيان مذهبهم وتمهيد كفرهم ونفاقهم، فليس بتكرير.
وقوله: { وَإِذَا خَلَوْاْ }، في الكشّاف: إنّه من "خَلَوتُ بفلان، وإليه": إذا انفردتَ معه، أو من "خَلا" بمعنى: مضى. و"خلاكَ ذم" أي: عداكَ ومضى عنك. ومنه "القرونُ الخَالِية". أو من "خَلوتُ به" اذا سخرت منه. وعدّي بـ "إلى" لتضمين معنى الانتهاء، والمراد أنهم انهوا السخريّة بالمؤمنين الى شياطينهم كما تقول: أحمدُ إليك فلاناً وأذمّه اليك.
فصل فيه إشراق
وأما: { شَيَاطِينِهِمْ }، فهم الذين ماثَلوا الشياطين في تمرّدهم وعصيانهم واستبدادهم بالرأي، وإنكارهم للحق، وإبرازهم الباطلَ بصورةِ الحق.
واعلم أنّ كل منافق فهو شيطانٌ بالحقيقة وبحسب الباطن، وإن كان ظاهره ظاهر الإنسان، إذ لا عبرة به، إنّما العبرة بالقلب وأحواله، وما حشر إليه في يوم الآخرة، ويكون حشْر المنافقين يوم القيام من قبورهم الى الشياطين، لغلبة صفة الشيطنة على قلوبهم، من المكْر والحيلة والخديعة، وسوء الاعتقاد، والإغواء للخلق، وحبّ الاستيلاء والتمرّد والتجبّر، وغير ذلك.
بيانه: أنّ في الإنسان قوّة علمية وقوّة عملية. والعلمية منقسمة الى عقلية ووهمية. والعملية منقسمة الى شهوية وغضبية، وسعادته منوطة بتكميل القوّة النظرية والبصيرة الباطنية بتكرير النظر الى حقائق الأشياء، والمطالعة للأمور الإلٰهية على وجه الحق والصواب، وبتسخير قواه الإدراكية والتحريكية وسياستها إياها لتصير مقهورة تحت أمرها ونهيها، ولا تكون متمرّدة عاصية، ولتلك القوى رؤوساً ثلاثة:
الوهم للادراكية، والشهوة والغضب للتحريكية، إذ كل منها متشعّبة الى فروع كثيرة، وخوادم هي جنودها، ففي الإنسان ما دام كونه الدنيوي أربع شوائب: العقل والوهم والشهوة والغضب.
والأول مَلَك بالقوّة. والثاني شيطان بالقوّة. والثالث بهيمة بالقوّة. والرابع سُبعٌ بالقوة.
وكل منها إذا قوي بتكرير أعمال وأفعال تُناسبه، يصير ذلك الشيء الذي كان هو هو بالقوّة، بالفعل، ويكون الحكم له في الإنسان ويحشر إليه.
فمن غلب عليه في الدنيا إدراك المعارف، والميل الى الطاعات، والتجرّد عن الوساوس والعادات، والتوحّش عن الدنيا والخلائق، يكون معاده الى عالَم الملكوت الربّاني صائراً مَلَكاً ربّانياً محشوراً اليه مع الملائكة المقرّبين، قال تعالى:
{ { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } [مريم:85].
ومن غلب عليه إدراك الوهميّات الباطلة، وإبداء الشبهات والأقيسة الفاسدة، والميل الى المكر والحيلة والخديعة، والسمعة والرياء، والاستهزاء والسخريّة للعباد، والشهرة في البلاد، والاستبداد بالرأي، والاتّباع للهوىٰ، ومخالفة أهل الحق، والإغواء للناس، فيكون معاده الى عالم الشياطين، صائراً شيطاناً مَريداً ملعوناً محشوراً مع الشياطين، كما قال تعالى:
{ { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ } [مريم:68].
ومن غلب عليه حبّ الشهوات؛ من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة، وغير ذلك من مشتهيات البطْن والفرْج، فمعاده الى عالَم البوار، وحشْره الى الحشرات كما قال:
{ { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ } [الأنعام:38] الى قوله: { { ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [الأنعام:38].
وكذا من غلبت عليه صفات السُّبُعية من التهجّم والايذاء، والعداوة والبغضاء، والظلم والوقاحة، وغير ذلك، فيحشر مع السباع والوحوش كما قال:
{ { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [التكوير:5].
فعُلم انّ حشر الخلائق إلى أحد هذه الأجناس الأربعة، التي لا يخلو عنها شيء من الجواهر الحيّة المدركة والمحرّكة.
فقد ثبت وتحقّق بهذا البيان والبرهان، أنّ اطلاق الشياطين على المنافقين، بالحقيقة واليقين، لا بالمجاز والتخمين، لأنّ مَدار نفاقهم على المكر وايهام الحق، وترويج الباطل، والتشبّه بأهل الإيمان والعلم، وادّعاء الصلاح، فقد صارت بواطنهم، بكثرة أعمالهم الشيطانية الوهمية، انقلبت الى حقيقة الشياطين بالفعل، وخرجت عن القوة والاستعداد لها ولغيرها، وتمنّي الرجوع منهم الى اصل الفطرة كما في قولهم:
{ { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً } [السجدة:12] تمنّي امر مستحيل الوقوع، فلأجل ذلك قال تعالى: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ }، إذ المراد بهم أكابر المنافقين، والراسخون في الكفْر والنفاق، وهؤلاء المتردّدون اليهم تارة والى المؤمنين أخرى من الأصاغر.
فصل
قوله: "إنّا مَعَكُمْ"، أي في الضمير وعقيدته، وقد خاطَبوا المؤمنين بالجملة الفعلية، وخاطبوا الشياطين بالجملة الإسمية المؤكدة "بإنّ" لأنهم قصَدوا بالأولى إحداث الإيمان، وبالثانية تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه، ولأن أنفسهم لا تساعدهم على أن يكون ما خاطَبوا به المؤمنين جديراً بكونه أقوى الكلامين؛ لركونهم الى أهل البطالة والشهوة؛ وكراهتهم بالطبع عن لقاء الله وأهله والقول الصادر عن الكراهة والنفاق. قلما تحصل معه المبالغة، فادّعوا عندهم حدوث الإيمان لإكمال تحقّقه، بخلاف ما صدر عنهم عند إخوانهم، لعلمهم أيضاً بأن ادّعاء الكمال في الإيمان، لا يروج على المؤمنين.
وأما كلامهم مع إخوانهم في إنكار الشريعة، فعلموا انّه مقبولٌ عندهم بأي وجه كان من التأكيد، فأكّدوا القول فيه.
قوله جلّ اسمه: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ
كأنه جواب عن سؤال الشياطين بأن قالوا إنّا معكُم: إن صحّ ذلك منكم، فما بالَكم تتردّدون الى المؤمنين وتُوافقونهم في الكلام، وتدّعون الإسلام؟
فأجابوا بأنّا مستهزئون بهم. أو تأكيد لما قبله؛ لأن المُستهزئ بالشيء مصرٌّ على خلافه. أو بدلٌ منه، لأن من حقّر شيئاً فقد عظّم نقيضه.
والاستهزاء: هو السخرية والاستخفاف يقال: هزأت واستهزأت بمعنى واحد، كأحببت واستجبت. وأصله الخفّة، من الهزء. وهو القتل السريع يقال هزأ فلان إذا مات على مكانه، وناقته تهزأته أي تسرع وتخف.