خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ
١٩
يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٠
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

قد مثّل الله تعالى حال المنافقين والكافرين بهذين التمثيلين باعتبار فساد القوّتين.
أما التمثيل الأول، فهو باعتبار فساد قوّتهم العلميّة التي من شأنها مشاهدة أنوار الحقائق، وأما هذا التمثيل، فهو باعتبار بطلان قوّتهم العمليّة التي من شأنها سلوك طريق الحقّ بها.
فقوله: { كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } إمّا عطف على: الذي استوقد أي كمثَل ذوي صيّبِ، بقرينة قوله { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ } أو عطف على المثَل، أي مثَلهم وحالهم كصيّب، فلا بدَ من تقدير ضمير يعود إليه.
وكلمة "أو" في الأصل، للتساوي في الشكّ، ثم اتّسع فيها فاستعمل للتساوي من غير شكٍّ، مثْل جالِس الحسَن أو ابن سيرين، ومنه قوله تعالى:
{ { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [الإنسان:24]. والمراد منع الخلوّ دون منع الجمع، فالمعنى: أن قصة المنافقين مشبّهة بهاتين القصّتين، وأنّهما سواء في صحّة التشبيه بهما باعتبار الجهتين، وأنت مخيّر في التمثيل بهما جميعاً، أو بأيّهما شئت، وكان الممثّل له في التمثيل الأول، حال المنافقين المنتسبين بأهل العلم لحفظ ظواهر الأقوال، المغترّين بإبداء الشبهات، وهم الذين إذا جاءتهم البيّنات يفرحون بما عندهم من العلْم. وفي هذا التمثيل حال المنافقين الذين هم من أهل النسْك وأهل التقليد من غير بصيرة تامّة وإياهما عُني في قوله صلّى الله عليه وآله: "قصم ظهرْي رجُلان عالِمٌ متهتّك وجاهلٌ متنسّك" .
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: قطَع ظهري رجُلان من الدنيا: رجلٌ عليمُ اللّسان فاسقٌ، ورجلٌ جاهلُ القلْب ناسكٌ، هذا يصدّ بلسانه عن فسقه، وهذا بنسْكه عن جهْلِه، فاتّقوا الفاسق من العلماءِ والجاهلَ من المتعبّدين، أولئك فتنة كل مفتون..."
فوجه المماثلة هٰهنا؛ أن المراد من المطَر هو الإيمان، أو القرآن لكونه منشأ الحياة المعنويّة والأرزاق الأخرويّة. والظلمات هي الشبهات والمتشابهات التي يخفى وجهها على الجهّال والأرذال ويضلّون في إدراكها، كما قال:
{ { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } [البقرة:26].
والرعْد والبرْق والصواعق، هي التكاليف الشاقّة، بعضها من باب الأعمال وبعضها من باب الاعتقادات، كفعل الصلاة وال صيام والحجّ، وترك الرياسات، والمجاهدة مع الآباء والأمّهات، وترك الأديان القديمة، والاعتقاد بحقّية هذا الدين والانقياد له.
فكما أن الإنسان يبالغ في الإحتراز عن المطر الصيّب، الذي هو أشدّ الأشياء نفعاً بسبب هذه الأمور المقارنة، فكذا المنافق الجاهل، يحترز عن الإيمان أو القرآن بسبب هذه الأمور، زعماً منه أن الغرض منها ايلامه وتخويفه وتشديد الأمر عليه، بحيث تكاد توجب هلاكه، ولم يعلم أن فيها شفاءً لما في الصدور، وتنويراً للقلوب، وإحياءً للنفوس المريضة بداء الجهالة، ورحمةً للذين آمنوا، وهدى للعالمين.
والمراد من قوله: { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } أنّ الجاهل المنافق كثيراً ما يتصامَم عن ذكر الآيات والحجَج والبيّنات، حذراً عن سماع ما يوجب فساد عاقبتهم، ويظهر عليهم مآل ما هم عليه من النفاق والفسْقِ ولا يعلم السفيه الأحمق أن التصامم والتعامي لا يدفع الداهية والموت، كما أنّ الصاعقة لو أتت إلى شخصٍ لا يمكن له دفعها بجعل إصبعيه في أذنيه.
وقوله: { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ }: إشارةً إلى أنّ لمعات القرآن أو الإيمان، وأنواره الباهرة، تكاد تخطف أبصار بصائر الناظرين فيه، حتى كأنهم لضعف بصائرهم عن احتمال شوارقها ولوامعها، كالمبهوتين المتحيّرين.
والمراد من قوله: { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ } أنّه متى ظهَر لهم، أو نقل إليهم شيءٌ من خوارق العادات والكرامات، أو متى حصل لهم شيء من المنافع كحصول الغنائم، أو التوقير والتقديم في المجالس، أو تولية الأمور كضبط الأموال وحفظ الأمانات، وسعاية الزكوات والحسبة والشهادة وغيرها، فإنّهم يرغبون في الدين ويجهدون في العمل. وإذا أظلمَ عليهم، أى متى لم يجدوا شيئاً من الكرامات أو من المنافع، فحينئذ يقفون عن العمل، ويكرهون الإيمان، ولا يرغبون فيه. هذا ما ظهَر في معنى الآية.
ويقرب منه ما قيل: شبّه الايمان والقرآن وسائر ما أوتي الإنسان من المعارف التي هي سبب الحياة الأبديّة بالصيّب الذي به حياة الأرض، وما ارتكبت بها من الشبَه المبطِلة، واعترضت دونها من الاعتراضات المشكلة لأهل البدَع بالظلُمات، وما فيها من الوعْد والوعيد بالرعد، وما فيها من الآيات الباهِرة بالبرْق، وتصاممهم عمّا يسمعون من الوعيد بحال من يهوّله الرعْد فيخاف صواعقه فيسدّ أُذُنه عنها، مع أنّه لا خلاص لهم منها، وهو معنى قوله: { وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكافِرِينَ }. واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه أو رفد تطمح إليه أبصارهم بمشيهم في مطرَح ضوءِ البرق كلّما أضاء لهم، وتوقّفهم في الأمر حين تعرض لهم شبهةً أو تعنّ لهم مصيبةٌ بتوقّفهم إذا أظلم عليهم، وأشير بقوله: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } إلى أنّه سبحانه جَعَلَ لَهم السْمعَ والأبصار ليتوسّلوا بهما إلى الهدى والفلاح ويتسبّبوا بهما إلى تحصيل السمع المعنوي والبصيرة الباطنية، لدفع الشبهات وإزالة الظلمات في طريق الهداية، وسلوك الآخرة، طلباً للحياة الباقية، وتقرّباً إلى الله معطي الخيرات الأبديّة، ثمّ إنّهم صرَفوها إلى الحظوظ العاجِلة، وسدّوها عن الفوايد الآجلة، وهذه المدركات مع مداركها، أمورٌ ذاهبة زائلة، ولو شاء الله لجعلهم عادمين للسمْع والأبصار كما هم عليه في القيامة يوم لا نور إلا نور المعرفة والإيمان.
فصل
[التشبيه هنا مركب، أم مفرّق]
قد يقال: وقع في التمثيلين تشبيه أشياء بأشياء؛ فأين ذكر المشبّهات فيهما؟ وما المشتبه بالصيّب، والظلمات، والرعد، والبرق، والصواعق هٰهنا؟ وهلاّ صرّح بها، كما في قوله:
{ { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ وَلاَ ٱلظُّلُمَاتُ وَلاَ ٱلنُّورُ وَلاَ ٱلظِّلُّ وَلاَ ٱلْحَرُورُ } [فاطر: 19 - 21]. وكقول امرؤ القيس:

كأنّ قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها العنّاب والحشَف البالي

فيجاب: بأنّه يجوز كون المشبه في المفردات مطويّاً ذكره على سنن الإستعارة من قوله تعالى: { وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } [فاطر:12].
ولعلماء البيان في هذا الموضع قولان:
أحدهما: ما سلَكنا سبيلَه وأوضحنا طريقه، وهو تشبيه مفرّق معناه أن يكون الممثّل مركّباً من أمور، والممثّل له أيضاً كذلك، ويكون كل واحد من آحاد أحدهما شبيهاً بما يوازنه من الآخر، من غير اشتراط أن يكون جميع أعداد المركّب للمشبّه مذكوراً صريحاً، كما علمت من التطبيق الذي مرّ ذكره.
والثاني: ما اختاره صاحب الكشاف قائلاً: إنّ الصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطّونه إن التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركّبة، دون المفرّقة لا يتكلّف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به، وهو القول الفحْل والمذهب الجَزل، أراد به أن يشبه كيفيّة منتزعة من مجموع أمور تضامّت أجزاؤه وتلاصقت حتّى صارت شيئاً واحداً بأخرى مثلها، كما في قوله تعالى:
{ { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [الجمعة:5] مثّل حال اليهود في حملهم بما معهم من التوراة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة، فأمّا أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيّرة شيئاً واحداً، فلا، فكذلك لمّا وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم، وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة، شبّهت حيرتهم وشدّة الأمر عليهم، بما يكابد مَنْ طفيت ناره بعد ايقادها في ظُلمة الليلِ وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق.
والبحث فيه من وجهين:
أحدهما: إن الهيئة الإنتزاعيّة الحاصلة من أمرين أو أمور، إذا كانت واحدة يجب أن تكون الأمور المنتزعة هي منها أيضاً متماثلة متشابهة من الوجه الذي به يصلح للانتزاع. لما تقرّر في العلوم العقليّة، أن المعنى الواحد، لا يمكن أن ينتزع من أشياء متخالفة الحقائق من جهة يخالفها، سواء كانت بسائط أو مركّبات، مثلاً: الهيئة الإنسانيّة المحسوسة المنتزعة من تركيب أجزاء الإنسان، لا يكمن أن تنتزع من تركيب أجزاء الفيل وغيره إلاّ على نحو ضعيف المشابهة لها.
وثانيهما: إنّ المواضع التي ذكرها من القرآن وغيره، وادّعى فيها تشبيه المركّب بالمركّب من دون تشبيه الأفراد، لا نسلّم أن الأمر فيها كما زعمه، بل لا تخلوا المواضع عن المشابهة بين الأفراد، ففي قوله تعالى:
{ مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ } [الجمعة:5] الآية، كما حصل تشبيه حال اليهود - وهو جهلهم بما في التوراة - بحال الحمار - وهو جهله بما حمل عليه، فكذلك قد حصلت المشابهة بين اليهود والحمار في الحمق والجهالة، فإن حقيقة الحماريّة وروحها هي الجهالة المفرطة، سواء كانت مقترنة مع شكل الحمار أو شكل الإنسان، وليس الإنسان إنساناً بشكله وصورة خِلْقته، بل بمعنى الإنسانيّة، وروح الناطقيّة التي هي عبارة عن إدراك المعارف.
وكذا بين التوراة وأسفار الحكمة، لاتحادهما فيما يؤدّي إلى التعليم والهداية من العلوم الحقيقية والمعارف اليقينيّة، وكذا وقع تشبيه حمل. الألفاظ والظواهر وعدم حمْل الأسرار والمعاني منهم، بحمْل أوقار الصحُف، وعدم الشعور بما فيها. ثم لا يخفى على ذوي النُهى، أن هذا القسم ألطَف وأحكَم وأبلَغ فيما هو المقصود من التمثيل وأدلّ على القدرة؛ فينبغي حمل الآيات عليه مهما أمكن، ونحن لا ننكر وجود القسم الثاني في القرآن وغيره.
فصل
[نظر في العلّة الفاعليّة]
فإن قيل: ما الفائدة في قوله: مِنَ ٱلسَّمَآءِ، مع أن الصيِّب لا يكون إلاّ من السماء؟
قلنا فيه فائدتان:
الأولى: ما مرّ من دلالة تعريف السماء وتنكير الصيّب على أنّه مطبق آخذ بآفاق السماء.
والثانية: إنّ من الناس من قصر نظره عن الأسباب العالية المنبعثة من قدرة الله وحكمته فقال: إنّ المطر إنّما يحصل من ارتفاع أبخِرةٍ رطبة من الأرض إلى الهواء، فتنعقد هناك من شدة البرودة الزمهريريّة، ثم تنزل مرّة أخرى على هيئة القطرات، فذاك هو المطر، ثم إنّ الله أبطَل ذلك المذهب هٰهنا بأن ذلك الصيِّب نزل من السماء.
وكذلك قوله تعالى:
{ { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً } [الفرقان:48]. { وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [النور:43]................................ لأنّ أسباب هذه الأمور منبعثة من عالَم السماء.
واعلم أنّ العلم بحقائق الموجودات بعضها فوق بعض، وكذا العلماء بحسبها، ذوو درجات متفاضلة متعالية، كما قال تعالى:
{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف:77]. وقال: { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [الأنعام:65].
مثاله: أنّ الطبيعي والحكيم قد يتشاركان في النظر في كثير من الأشياء؛ لكن الطبيعي يأخذ الأوسط في حجّته من الطبيعة السارية في الأجسام بأمر الله، والحكيم يأخذ العلة من العالم العلوي والمفارق المحْض، والعلّة الغائيّة التي هي الخير الأعلى والعلّة القصوى للوجود، فالطبيعي يُعطي بُرهاناً لِمّياً، ما دامت المادّة القابلة والطبيعة الفاعلة موجودتين، والحكيم يعطي البرهان اللِميّ مطلقاً.
وبالجملة، فإذا أعطي البرهان من الأسباب المقارنة، كان من العلْم الأسفَل، وإن أعطي من العلل المفارقة العالية، كان من العلْم الأعلى، والعلل المقارنة هي الهيولى والصورة، والعلل المفارقة هي الفاعل والغاية.
وأمّا العارف المتألّة، فنظره أدقّ وأبصر، وعلْمه أعلى وأشرف من جميع العلوم، حيث يقع نظره في معرفة كلّ الأشياء الى الحقّ الأول، ويأخذ علّة مقاصده ووسط براهينه من أسماء الله الحسنى وآياته الكبرى، وليس لغيرهم هذا الشأن، ولا برهانهم هذا البرهان، وأكثر الناس مقصور النظر؛ إمّا على عالم الشهادة كالظاهريين، أو على عالم الباطن كالباطنيين، وكلاهما ينظران بالعَين العوراء.
مثال ذلك الْعلم بمنشأ الرعْد والبرْق.
فالرعْد، هو الصوت الذي يسمع من السحاب، كأنّ أجرام السحاب تصطدم وتضطرب وترتعد إذا جذبها الريح، فتصوّت عند ذلك من الارتعاد، والبرق: الذي يلمع من السحاب، من بَرَقَ الشيء بريقاً. واللفظان مصدران في الأصل، ولذلك لم يجمعا.
وقيل: "الرعْد هو ملك موكّل بالسحاب يسبّح" روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد، وهو المرويّ عن أئمتنا عليهم السلام.
وقيل: "إن الرعد صوت ملك يزجر السحاب". روي: "إنّه يزعق كما يزعق الراعي بغنمه".
وقيل: "البرق مخاريق الملائكة من حديد، تضرب به السحاب فتنقدح عنه النار" وهو المرويّ عن علي عليه السلام.
وقيل: "سوط من نور يزجر به الملك السحاب" عن ابن عباس.
وقيل: "هو مصع ملك" عن مجاهد. والمصاع. المجالدة بالسيوف وغيرها.
وقيل: إنّه نار تنقدح من اصطكاك الأجرام. والكلّ صحيح حسب مراتب المشاهدة لمراتب العوالِم.
فإذا سمعت أيّها العاقل الطبيعي، أن ملَكاً يسوق السحاب بالزجر والصوت زجره يسمع زجل الرعود، وإذا سجت به خفيفة السحاب التمعت صواعق البروق، وأنت تحكم بعقلك أنه اصطكاك الأجرام من الحرارة الدخانيّة والبرودة البخاريّة الواقعة فوقها، فالذي أدركته بعقلك قضيّة صحيحة، لو لم تنكر ما فوقها، ولكن حرمت القضيّة الأخرى، أنّه ملك يسوق السحاب ولم تكد تراها لأنّه يدرك بنور البصيرة، وأنت في ظلمة الغشاوة وبك زمانة الجهالة، لا سبيل لك إلى سلوك عالَم النور.
وقسْ عليه سائر التأثيرات العلويّة في الأمور السفليّة، كالزلازل والهدّات وغيرها، فأمّا ما ورد في باب الخسوف والكسوف، أنّه من تخويف الله عباده، وإظهار قدرته، مع ما ثبَت بالهندسة لك أنّ خسوف القمر لحجب نور الشمس عن جرمه لحيلولة الأرض، وأنّ كسوف الشمس يكون بحجاب جرْم القمر نورها عن الأبصار، فأهل الإيمان لا يُنكرون ما دلّت عليه البراهين الهندسيّة، ولكن الجاحدين لأنوار الشريعة، ينكرون أحكام الغيب ولم يتفكّروا في قوله تعالى:
{ { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } [البقرة:3]. وقوله: { { وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [هود:123] وقوله: { { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } [الأنعام:73]. { { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } [النساء:46].
فما بالك أيها الأعور، هلاّ نظرت بالعينين وأثبتَّ العالَمين، فالله أظهر الملك والشهادة لقضيّة اسمه الظاهر، والغيب والملكوت لقضيّة اسمه الباطن، فلو كنت أدركت العالَمين، لجمعت بين الفلَك والملك، وأثبتَّ المعقول والمنقول. على أنّ في نظر العارف المحقِّق، الفلَك ملكٌ متمثّل، والمنقول معقول ينتقل إلى عالَمك الذي أنت فيه، والشرع عقلٌ ظاهر، والعقل شرعٌ باطن، فالجسماني للفلك والروحاني للملك، فمن حكم بأنّ الفلك له إرادة وقدرَة فلمْ يدر أنّ الإرادة والقدرة للملك الموكّل به، وصورة الفلك من عالم التقدير والتسخير، لا من عالم الحكمة والتدبير، وهكذا الكواكب وما يضاف إليها من التأثيرات والتدبيرات، هو من الملائكة الموكّلين بعالَم السماء، وهي في ذواتها مَوات.
فصل
قوله: { فِيهِ ظُلُمَاتٌ }، إنْ أريد بالصيِّب المطر، فظلماته تكاثفه أي تتابعه وظلُمة غمامه مضمومة إليهما ظُلمة الليل. وإن أريد به السحاب، فظلمته سحمته وتطبيقه إذا كان اسحم مطبقاً.
وارتفاعها بالظرف - وفاقاً - لاعتماده على موصوف، وكون الصيِّب - بمعنى المطر - مكاناً للرعد والبرق، لأنّهما في أعلاه وأسفله. ولأنّ التعلّق بين المطَر والسحاب قوي كالتداخل، جاز إجراء أحدهما مجرى الآخر فيما هو من باب الوضع.
وقيل: ضمير { فيه } راجع إلى "السَّمَاءِ"، لأنّ المراد بها السحاب وهو مذكر.
وإنّما لم يقل: "رُعود وبُروق"، كما قيل: { ظُلُمَات } لأنّ أنواعاً متخالفة من الظلمة قد اجتمعت، فاحتيجت إلى صيغة الجمع بخلاف صاحبيها.
وإنّما جاءت الثلاثة منكّرات، لأن المراد ضروب خاصّة منها، كأنه قيل: "ظلُمات داجيةٌ ورعد قاصفٌ وبرق خاطفٌ".
والضمير في: { يَجْعَلُونَ } لأصحاب الصيّب، والمرجع وإن كان محذوفاً لفظاً لكنّه باقٍ معنى، فيجوز أن يعوّل عليه. والجملة استيناف كأنّها وقعتْ في جواب منْ قال: "فَكيْفَ حالُهم مع مثْل هذه الشدّة والهول؟".
وإنّما ذكر: "الأصابع" موضع "الأنامل" للمبالغة، أو لأنّ المراد بعضها، وقوله: { مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ } متعلّق بـ "يَجْعَلُونَ" أي: من أجلها.
والصاعقة: قصفةُ رعد شديد معها جوهرُ ناريُ قويُّ الناريّة، لا تمرّ بشيءٍ إلاّ أتت عليه، بقي بحاله إن كان متخلخلاً لطيفاً، وأذابته أو دكّته بسرعة إن كان متكاثفاً صلْباً. وهي مع قوّتها سريعة الخمود والجمود، و "التاء" فيها للمبالغة كالراوية، أو مصدريّة كالعاقبة.
وقوله: { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } نصب على العلّة. والموت: زوال الحياة وعدمها عما فيه قوّة قبولها. وقيل: صفة تضادّ الحياة، تمسّكاً بقوله:
{ { خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } [الملك:2].
ودُفِعَ: بأنّ "الخلْق" هٰهنا بمعنى التقدير، والأعدام مقدرة وإن لم تكن مجعولة.
ومعنى إحاطته تعالى بالكافرين: شمول قدرته عليهم وإحاطة أمره ونقمته بهم لقوله:
{ { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [العنكبوت:54].
وقيل: المعنى إنّهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط، لا يخلصهم الخداع والحيَل. والجملة اعتراضيةٌ لا محلَّ لها من الإعراب.
و "الخطْف": الأخذ بسرعة. وقرء مجاهد: "يخطِف" - بكسر الطاء - والفتح أفصح؛ وعن ابن مسعود والحسن: "يَخَطّف" - بفتح الياء والخاء - على أنّه "يَخْتَطف" فأدغمت التاء في الطاء بعد نقل حركتها إلى ما قبلها. وعنه "يخطف" - بكسر الخاء - لالتقاء الساكنين واتّباع الياء لها.
وعن زيد بن علي عليه السلام: "يخطف" من خطف. وعن أبَيّ: "يتخطَف" من قوله:
{ { وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت:67].
وقوله: { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ } استيناف ثالث، كأنّه جواب لمن يقول: "كيف يصنعون في حالتي ظهور البرق وخفائه"؟ فأجيب بذلك.
و { أَضَآءَ } إمّا متعدٍّ، والمفعول محذوف. بمعنى: "كلّما نوّر لهم ممشى أخذوه"، أو لازم بمعنى: "كلّما لمع لهم مشوا في مطرح نوره"، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة "كلّما ضاء". وكذلك { أَظلَم } فإنّه جاء متعدّياً إلى مفعول من "ظِلْم الليل"، ويشهد له قراءة "أظلِم" على البناء للمفعول.
وإنّما قال مع الإضاءة "كلّما"، ومع الإظلام "إذا"، لكونهم حرّاصاً على المشي. فكلّما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك الوقوف، ولو شاء الله في قصف الرعد فأصمّهم وفي ضوء البرق فأعماهم.
ومفعول { شَآءَ } محذوف لدلالة الجواب عليه، ولقد تكاثَر حذفه في "شَاءَ" و "أرَاد" حتّى لا يكاد يذكر إلاّ في الشيء المستغرب كقوله: "وَلو شئتُ أن أبكي دماً لبكيتُه".
تنبيه:
قال في التفسير الكبير: "إنّ المشهور أنّ كلمة "لَو" تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، ومنهم من أنكر ذلك، وزعم أنّها لا تفيد إلاّ الربط، واحتجّ بالآية والخبر.
أمّا الآية:
{ { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [الأنفال:23]. فلو أفادت ذلك لزم التناقض، لأن قوله: { { لَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً } [الأنفال:23] مقتضاه أنه ما علِم فيهم خيراً، وقوله: { { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [الأنفال:23] مفاده أنّه تعالى ما أسمعهم، وهم [ما] توَلّوا، لكن [عدم] التولّي خير، فيلزم أن يكون قد علم الله فيهم خيراً؛ وما علِم فيهم خيراً.
وأما الخبر: فقوله (صلى الله عليه وآله):
"نعمَ العبد صُهيب، لو لم يخَف الله لم يعصه" فعلى مقتضى قولهم يلزم أنّه خاف الله وعصاه، وذلك متناقض.
فعلمنا أن كلمة "لو" لا تفيد ألاّ الربط" - انتهى كلامه.
وفائدة هذه الشرطية على المذهب المشهور، إبداء المانع لذهاب سمْعهم وأبصارهم الظاهريتين مع قيام ما يقتضيه، والتنبيه على أن تأثير الأسباب في مسبّباتها مشروط بمشيّة الله تعالى وإن كان وجودها مرتبطاً بأسبابها منوطاً بآجالها وأوقاتها والكلّ واقع بقدرته. وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } كالتصريح به، والتقرير له، وفائدتها على المذهب الأخير، الإخبار عن ذهاب الحاسّتين عنهم في الحقيقة، مع أنّ الناس يزعمون أنّهما موجودتان لهم، فهم صمٌّ وعميٌ في الحقيقة.
وعند أهل الكشف، مع وجود الآلتين فيهم كأنّهم أموات لا يشعرون عند الله وعند أوليائه، كما قال:
{ { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ } [النمل:80]، مع أنّهم يحسّون ويتحرّكون كالأحياء، وهذا من عجائب قدرة الله تعالى في خَلْق الآدمي.
فصل
اعلم إنّ الشيئية وإن كانت بحسب المفهوم أعمّ من الوجود، إلاّ إنّها تساوق الوجود بحسب التحقّق، وجماعة ممّن جعلها أعمّ تحقّقاً منه، خرجوا إلى خيالات عجيبة فقالوا: المعدوم الممكن شيء، وهو ثابت، لكونه محكوماً عليه بأحكام صادقة توجب تمييزه عن غيره، وليس بموجود فيكون ثابتاً، وسلّموا أنّ المحال منفيٌّ، وأنّه لا واسطة بين النفي والإثبات، وربما أثبتوا واسطة بين الموجود والمعدوم ممّا سمّوه حالاً، وبناء هوساتهم على الغفلة عن عالَم الغيب وما فيه من الأمور الذهنيّة الغائبة عنهم، ولم يعلموا أنّ التفرقة بين المعدومين عن الأعيان، باعتبار ما أضيف إلى المتصوّر الموجود في الذهن من مفهوميهما، فإنّ ما ليس له وجودٌ لا في الذهن ولا في العين، فالتصديق عليه تحكّمٌ وهذيان، والإخبار عنه ممتنع.
ومما يفتضحون به أن يقال لهم: إذا كان الممكن معدوماً، فوجوده هل هو ثابت أو منفيُ، فإنّه باعترافهم لا يخرج الشيء عن النفي والإثبات، فإن كان منفيّاً - وكل منفي عندهم ممتنع - فالوجود الممكن يصير ممتنعاً، هذا خُلْف، وإن كان ثابتاً، وكلّ صفة ثابتة للشيء يجوز أن يوصف بها الشيء، فالمعدوم يصحّ أن يوصف في حال عدمه بالوجود، فيلزم التناقض، وهو محال.
ثمّ من العجب أن الوجود عندهم يفيده الفاعل، وهو ليس بموجود ولا معدوم، فلا يفيد الفاعل وجود الوجود - مع أنّ الكلام يعود إليه - ولا يفيد ثباته، فإنه كان ثابتاً بامكانه في نفسه، فما أفاد الفاعل للماهيات شيئاً فهؤلاء عطّلوا العالم عن الصانع.
ومنهم من استدلّ بهذه الآية على أنّ المعدوم شيء، قال: لأنّه تعالى أثبت القدرة على الشيء، والموجود لا قدرة عليه، لاستحالة ايجاد الموجود وتحصيل الحاصل، فالذي عليه القدرة معدومٌ، وهو شيء، فالمعدوم شيء.
والجواب: بالحلّ والنقض. أمّا الأول؛ فلأنّ ايجاد الموجود بنفس هذا الايجاد، وكذا تحصيل الحاصل بنفس هذا التحصيل، غير مستحيل، بل هو واقع، لأنّ الإيجاد هو الاستتباع في الوجود، والممكن يفتقر في بقائه إلى العلّة، كما يفتقر في حدوثه.
وأمّا الثاني؛ فلأنّه لو صحَّ هذا الكلام، لزم أنّ ما لا يقدر الله عليه أن لا يكون شيئاً، فالموجود لمّا لم يقدر الله عليه، وجَب أن لا يكون شيئاً، وهو شيءٌ عندهم.
واحتجّ جهم بهذه الآية على أن الله تعالى ليس بشيء. قال: "لأنّها تدلّ على أن كل شيء مقدور لله تعالى، و "الله" ليس بمقدور له، فوجب أن لا يكون شيئاً" واحتجّ أيضاً بقوله:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11]. قال: "لو كان شيئاً لكان مثلَ نفسِه، فكان يكذب قوله، فوجب أن لا يكون شيئاً لئلا يتناقض كلامه.
والجواب: إنّ هذه اطلاقات عرفيّة، وتجوّزات لا يجوز التعويل عليها في أصول الإيمان والاعتقاد، فبطَل ما صنعوه وتخيّلوه.
وهو كما استدلّ بعض الأشاعرة على أنّ الشيء يختصّ بالموجود، لأنّه في الأصل مصدر "شَاء" أطلق تارة بمعنى "شاء" - اسم الفاعل - وحينئذ يتناول الباري تعالى، كما قال:
{ { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ ٱللَّهِ } [الأنعام:19]. وتارةً بمعنى مشيء - اسم مفعول - أي مشيء وجوده، وما شاء الله وجوده فهو موجود في الجملة، وعليه يحمل قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة:20] { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [الزمر:62]. فهما على عمومهما بلا مثنوية.
فصل
القدْرة هي التمكين من ايجاد الشيء. وقيل: صفة تقتضي التمكين. وقيل صفة تؤثر وفق الإرادة فخرج ما لا تأثير له من الصفات، وإن توقّف تأثير القدرة عليها كالعلم في بعض القادرين، وما يؤثر لكن لا على وفق الإرادة كالطبائع المسخّرة العنصرية مثل صورة النار في إحراقها.
وقيل: قدرة الحيوان، كيفيّة نفسانيّة بها يتمكّن من الفعل والترك، وهي في الحقيقة قوّة إمكانية نسبتها إلى الطرفين سواء، وقدرة الله، كون ذاته تعالى من غير اعتبار الإرادة أو انضمامها بحيث يصح عنه صدور الفعل وعدمه، والمشهور عن الحكماء، أنّ الله قادر على كلّ شيء، بمعنى إنْ شاءَ فعَل وإنْ لم يشأ لم يفعلْ، سواء شاء ففعَل، أو لم يشأ فلم يفعلْ، إذ ليس صدق الشرطيّة متعلّقاً بصدق طرفيها.
والإرادة صفة ترجّح تعلّق القدرة بأحد طرفي المقدور، وهي تنبعث عن الداعي، فقيل إنّها شوق متأكّد، وقيل إنّها مغايرة للشوق، لأنّها هي الإجماع وتصميمُ العزم، إذ قد يشتهي الإنسان ما لا يريده، كالمحرّمات الشهويّة عند المؤمن العفيف، وقد يريد ما لا يشتهيه، كالأدوية البشعة النافعة. وربما يفرق بينهما، بأنّ الإرادة ميلٌ اختياريٌ، والشوق ميل طبيعيٌّ ولهذا يعاقَب المكلّف بإرادته المعاصي، ولا يعاقب بإشتهائها، وفي كون الإرادة من الأفعال الإختياريّة نظرٌ. وإلاّ لأدّى إلى التسلسل، لاحتياجه إلى إرادة أخرى، هكذا قيل، وللكلام عليه مجال ليس هٰهنا موضعه.
واعلم أنّ الداعي على فعْل الباري عند المحقّقين، ليس بأمر زائد على ذاته وقدرته، كالإرادة، لأنّه عندهم عبارة عن كون ذاته عالِماً بالنظام الأعلى للعالَم، والأشاعرة لم يقولوا بالداعي، لتجويزهم ترجيح المختار أحد مقدوريه بالإرادة من غير مرجّح، وتخصيص أحد المتساويين من غير مخصّص، والمعتزلة، وكذا أصحابنا الإماميّة، قائلون بالداعي، لشهادة عقولهم باستحالة الترجيح بلا مرجّح مع استلزامه للترجيح بلا مرجّح إذا نقل الكلام في تحقّق الإرادة وعدمها، وذلك بديهيُّ الإمتناع عند كافّة العقلاء، لكن المعتزلة قالوا بزيادة الداعي على ذاته تعالى وعلى علْمه، فمنهم من يقول - موافقاً لبعض أصحابنا - إنّه مصلحةٌ راجعةٌ إلى شخص شخص من أشخاص الموجودات، ومنهم من يقول: إنّه ذات الوقت، ومنهم من يقول بامتناع وجود العالَم في غير ذلك الوقت، إذ لا وقت قبله، وهذا المقام مما لم تثبت فيه قدمٌ راسخ إلاّ لمن نوّر الله بصيرته، فإنّه من مزالّ أقدام الأقوام.
واشتقاق "القُدْرَةِ" من "القَدْر"، لأنّ القادر يوقع الفعل على مقدار قوّته، أو مقدار ما تقتضيه مشيّته.
واستدلّ بهذه الآية على أنّ مقدور العبد مقدور الله تعالى؛ لأنّ مقدور العبد شيءٌ، وكلّ شيءٍ مقدور له تعالى - خلافاً لأبي هاشم وأبي علي -، وعلى أن المحدث حال حدوثه مقدورٌ. لأن المحدَث حال حدوثه "شيء"، وكل شيء مقدور - خلافاً للمعتزلة - فإنّهم قائلون: بأن الاستطاعة قبل الفعل محال.
واستدلّ من قال بتقدّمها على الفعل بوجهين:
أحدهما: أنّه لو تحقّق قبل الفعل، لكان تكليف الكافر بالإيمان تكليف العاجز، وهو غير واقع بالإتّفاق، كما قال تعالى:
{ { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة:286].
وثانيهما: أنّ القدرة يلزمها كونها محتاجاً إليها في الفعل، ومع الفعل لا يبقى الاحتياج، وقد مرّ وجه اندفاعه، لأنّ الحصول لا ينافي الحاجة إلى العلّة.
وأجيب عن الأول: بأنّ تكليف الكافر بايقاع الإيمان في ثاني الحال، أعني وقت حصول الاستطاعة، وهي مع الفعل.
ويرد عليه أنّه لو استمرّ على الكفر، لم تتحقّق القدرة أصلاً بناء على أنّها مع الفعل، والتالي باطلٌ بالاتفاق.
تتمةٌ:
من كان المؤثّر في وجود الأشياء ليس عنده إلاّ الباري تعالى كالمحقّقين من الحكماء، حيث يجعلون غيره من الأسباب من قبيل الشروط والمعدّات والروابط والمقدّمات. وكذا الأشاعرة القائلون بنفي العلّية والمعلوليّة والتقدّم والتأخّر بين الأشياء، فالآية باقية على عمومها لجميع الممكنات، سواء كانت موجودة بالفعل أو معدومة.
وأمّا المعتزلة، فمنهم من عمّمها وقال إنّ قدرته على ثلاثة أوجه: على المعدومات بأن أوجدها، وعلى الموجودات بأن يفنيها؛ وعلى مقدور غيره بأن يقدر عليه ويمنع منه.
ومنهم من خصّصها في مقدوراته دون مقدور غيره، لاستحالة كون مقدور واحد بين قادرين، لأنّه يؤدي إلى أن يكون الشيء الواحد موجوداً ومعدوماً وهو تناقض محالٌ، وتخصيص العامّ جائز في الجملة، وواجبٌ بدليل العقل، لأن قوله:
{ { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة:284]، يقتضي أن يكون قادراً على نفسه، ثمّ خصّ بدليل العقل، وذلك لا يوجب الكذْب على الله والطعن في القرآن، لأنّ لفظ الكلّ، كما انّه مستعمل في المجموع، فقد يستعمل في الأكثر، وذلك مجاز مشهور في اللغة، لم يكن استعمال اللفظ كذباً.
وهٰهنا تحقيق آخر، وهو أن الشيئية معناها غير الوجود، فإنّ كلّ ممكن موجود فللعقل أن يحلّله إلى وجود هو له في غيره، وإلى مهيّة هي له في نفسه؛ فالشيئيّة غير الوجود، إلاّ أنَّها لا تنفكّ عن الوجود كما مرّ، خلافاً للمعتزلة، أمّا الباري جلّ ذكره، فإذ لا مٰهيَّة له سوى الوجود البَحْت، فلا شيئية له غير شيئيّة الوجود.
فإذا تقرّر هذا فنقول: نسبة الباري جلّ ذكره إلى المٰهيّات كلّها بالقدرة، وإلى الوجودات بالإيجاد والإضافة بالفعل، لأنّ معنى القدرة؛ صحّة الفعل والترك، والمٰهيَّة في نفسها قابلةٌ للوجود والعدم على التساوي دائماً، سواء كان حين الوجود أو قبله أو بعده، فالمقدوريّة ثابتةٌ لها دائماً.
وأمّا الوجودات، فحقيقتها أنّها موجودة بالفعل بايجاد الله، وليست هي في أنفسها جائزة العدم، لأنّها عين جهات رحمته وَجُودِه، وامكاناتها عبارة عن كونها مفتقرة الذوات إليه تعالى، مجعولة بجعله وابداعه، والضرورة الوجوديّة الثابتة لها ضرورات ذاتية ما دامت الذات، وليست ضرورة أزليّة، والفرق بين الوجوبين ثابتٌ عند أهل الميزان المستقيم، فالله على كلّ شيء قدير، فاعلم هذا فإنه من العلوم الشريفة المحرّمة على غير أهلها.