خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٢٨
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

لما ذكَر الله سبحانه دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد، أراد أن يشير إلى أن الفاعل والغاية معاً في وجود الإنسان هو ذاته تعالى، فقوله: { كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } إشارة إلى بداية أحوال الإنسان، { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } إشارة إلى نهاية حاله وعاقبة أمره.
و "كَيْفَ" في الأصل، سؤال عن الكيفيّة والحال، كما يتّضح ذلك في الجواب، فإنّك إذا سألت أحداً: "كيف رأيت زيداً؟" فيقول: مسروراً، أو مهموماً، وما أشبههما من الأحوال، فـ "كَيفَ" سؤال عن الحال، فيجاب عنه بكل ما يليق من الأحوال، كما أن "كَمْ" سؤال عن المقدار والعدد، و "مَا" سؤال عن تمام الماهيّة، و "أيٍّ" عن المميّز الذاتي أو العرضي، و "مَنْ" عن حقيقة الشخصيّة إن كان من العقلاء، و "أيْنَ" و "مَتىٰ" عن نسبة زمانه ومكانه - وهذه الاستفهاميّات -.
"كَيْفَ" قد يجيء للتوبيخ والإنكار، فكيف هٰهنا مثل "الهَمزة" في قوله: "أَتكْفُرُونَ بِاللهِ"، والفرق بينهما بأن الهمزة إنكار لأصل الفعل، وكيف؛ إنكار للحال التي يقع عليها الفعل، لكن حال الشيء تابعة لأصله وذاته، فإذا امتنعت امتنع، واذا جاز جازت، فيكون إنكار حال الكفر التابع لأصله الرديف لذاته على سبيل الكناية أبلغ وأقوى، لأنّه بيان للشيء ببرهانه. فإنّك إذا نفيت كلّ صفة يوجد عليها "زيد"، فقد نفيت وجود زيدٍ بوجه برهانيّ، فيكون آكد وأقوى من انكار وجوده لا بيِّنة، وذلك لأن وجود الشيء بلا صفة من الصفات، وحال من الحالات، ممتنع.
فثَبت ممّا ذكر أن: "كيفَ تكفُرون" أبلغ في إنكار الكفر من: "أتكفُرون"، وأوفق بما بعده، وتقديره "أمتعلّقين بحجّة وملابسين ببرهان تكفرون بالله؟" فيكون { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } وما بعده منصوب الموضع على الحال، والعامل فيه "تكفُرون" أي: تكفرون عالِمين بهذا البرهان، فيكون من قبيل وضع الحدّ موضع المحدود، ووضع الشيء مكان عنوانه واسمه.
وبهذا يندفع ما أورد عليه، من أن الحال يجب أن يكون وجوده مع وجود ما يقيّد به، وهٰهنا ليس كذلك، فإنّ الكفر حاضرٌ لهم، وكونهم أمواتاً ماضٍ ولا يجدي نفعاً.
الجواب عنه: بأنّ الواو الحاليّة لم تدخل على "كُنتُم أمواتاً" فقط، بل على جملة الكلام إلى قوله: "تُرجَعُون"، أي: كيف تكفرون وقصّتكم وحالكم هذه أنكم [كنتم] كذا وستصيرون كذا. لأن بعض القصّة والحال ماضٍ، وبعضها مستقبل، وكلاهما لا يصحّ وقوعهما حالاً، إذ المركّب من الفائت المنقضي والغائب المنتظر، لا يكون موجوداً حاضراً، نعَم، العلْم بهذه القصّة موجود حاضر، فكأنّه قيل: كيفَ تكفرون وأنتم عالِمون بتمام هذه القصّة من بدوّها إلى غايتها.
فقد رجع إلى التوجيه الذي سبق ذكره، من أنّكم كيف تكفرون ملابسين بما يبرهن به على إثبات المبدء والمعاد. أي: ما أعجب كفركم في جميع أحوالكم مع علمكم بحالكم ومآلكم.
لا يقال: علمهم بما سبق من كونهم أمواتاً فأحياهم ثم أماتهم، لم يتّصل بما لحقهم من الإحياء الثاني والرجوع؟
لأنّا نقول: ضَرْب من العلم بهما حاصلٌ بكلِّ أحدٍ وإن عاندوا وجحَدوا، ومع قطع النظر عن ذلك، تمكّنهم من العلْم بهما بحسب ما نصَب الله لهم من الدلائل الموصلة إليه، وكثرة شهادات المخبرين من الأنبياء والأولياء عليهم السلام عنهما، يجري مجرى علْمهم في إزاحة العذر، سيّما وفي الآية تنبيهٌ على ما يدلّ على صحّتهما وهما أمران:
أحدهما: إن الله لمّا قدِر أن أحياهم أولاً، قدِر أن يحييهم ثانياً، فإنّ إبداء الخلْق ليس بأهون من إعادته ثانياً.
وثانيهما: إنه لو لم يكن للإنسان بقاءٌ أخرويٌ، لكان وجود العقل فيه، والقدرة على استخراج العلوم الحقيقية بالأنظار، والتمكّن من كسب المعاني العقلية المتعقلة بمعرفة الله وذاته وصفاته بالأفكار، عبثاً وهباءً، والحكيم لا يفعل العبَث، وغاية المعرفة والعلم يمتنع أن يكون في هذا العالَم، لأنّ كلّما يوجد في هذا العالَم، يكون من قبيل المحسوسات، والمحسوس - بما هو محسوسٌ - لا يكون غايةً للمعقول، لأنّ الغاية أبداً تكون أشرف من ذي الغاية.
فصل
[تحقيق في الموت والحياة]
قيل: إنّ الخطاب كان إمّا مع الذين كفروا، لمّا وصفهم الله بالكفر وسوء المقال وخبْث الفعال، خاطبهم على طريقة الالتفات، ووبّخهم على كفرهم مع علمهم بحالهم المقتضية خلاف ذلك.
وإمّا مع الطائفتين جميعاً، فإنّه لما بيَّن دلائل التوحيد والنبوّة، ووعدهم على الايمان وأوعد على الكفر، أكّد ذلك بأن عدّد عليهم النعم العامّة والخاصّة، واستقبح صدور الكفر منهم، واستبعد عنهم مع تلك النعم العظيمة، فإنّ جلالة النعمة تقتضي زيادة الشكر، وبازائها عظم العقوبة على عصيان المنعِم، فمن هذا الموضع إلى قوله:
{ { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [البقرة:40] في شرح النعم التي عمّت جميع المكلّفين، وفي ضمنها ما يختصّ بالخواصّ.
لا يقال: كيف يعدّ الإماتة من النعم المقتضية للشكر؟
لأنّا نقول: لمّا كانت وصلة إلى الحياة الأبديّة كانت نعمة عظيمة. وأمّا مع المؤمنين خاصّة لتقرير المنّة عليهم، وتبعيد الكفر عنهم على معنى: كيف يتصوّر منكم الكفر وكنتم جهّالاً فأحياكم الله بما أفادكم من نور الإيمان واليقين؟ على طباق قوله:
{ أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً } [الأنعام:122]. ثمّ يميتكم الموت المعروف، ثمّ يحييكم الحياة الحقيقيّة، ثمّ إليه ترجعون [فيثيبكم] بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطرَ على قلب بشر.
واعلم أنّهم ذكروا وجوهاً في الموت والحياة المذكورتين في هذه الآية مرّتين.
فعَن قتادة: إنّهم كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم - يعني: نُطَفاً - ثم أحياهم الله في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بدَّ منها، ثمّ أحياهم بعد الموت في الآخرة.
وعن ابن عباس وابن مسعود: إنّ معناه لم تكونوا شيئاً فخلَقكم، ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم يوم القيامة.
وقيل: معناه { كُنْتُمْ أَمْوَاتاً } يعني خاملي الذكر { فَأَحْيَاكُمْ } بالظهور { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند تقضّي آجالكم { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } للبعث. والعرب تسمي كل أمر خاملٍ "ميّتاً" وكلّ مشهور "حيّاً". قال:

فأحييت من ذكري وما كان خاملاً ولكنّ بعض الذكر أنبه من بعض

والوجه الرابع: إنّ معناه: كنتم نطَفاً في أصلاب آبائكم وبطون أمّهاتكم - والنطفة موات - فأخرجكم إلى دار الدنيا { فَأَحْيَاكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } [في الدنيا { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } في القبر للمسائلة { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي يبعثكم يوم الحشر للحساب والمجازاة على الأعمال.
وسمّي رجوعاً إليه، لأنّه رجوع إلى حيث لا يتولّى الحكم فيه أحد غير الله، كما يقال: "رجَع القوم إلى الأمير" أي أَمْرُ القوم إلى حكمه.
فهذه هي الوجوه التي ذكرها علماء التفسير، وسيأتيك كشف بعض ما فيها.
والوجه في كون العطف الأول بـ "الفاء" والثواني بـ "ثمّ"، لأنّ الأول متّصل بما عطف عليه غير متراخٍ عنه بخلاف الأعقاب.
وتقديم نعمة الحياة في الذكر على سائر النعَم المذكورة، لتقدّمها طبعاً، ولكونها ما يتمكّن به الإنسان من الانتفاع والالتذاذ بغيرها.
ثمّ إنّ الإتّفاق، مع أنّه قد وقع على أنّ المراد من قوله: { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } إمّا التراب - كما في خلق آدم أبي البشر -، وإمّا النُطَف - كما في خلْق أولاده ما خَلا عيسى عليه السلام - ولكن اختلفوا في أن اطلاق اسم الميِّت على الجماد حقيقةٌ أو مجازٌ؟ والأكثرون على أنّه مجاز، لأنّه شبّه الموات بالميّت، لأن الموت عدم الحياة عمّا من شأنه أن يقبل الحياة بما فيه من اللحمية والرطوبة، والحمل على الحقيقة أولىٰ، كما دلّ عليه ظاهر هذه الآية وغيرها، إذ لا داعي للعدول عن الحقيقة، وأمّا القوة المأخوذة في أعدام المَلَكات، فهي قد تكون بحسب الجنس، كما في عمى العقرب، فجنس الجماد والنبات - وهو الجسم الطبيعي - فيه قوّة قبول الحياة.
واعلم إن الحياة في المشهور عند الجمهور، حقيقة في القوّة الحساسة أو ما يقتضيها، وبها سمّي الحيوان "حيواناً"، وتطلق على القوّة النامية مجازاً، لأنّها من طلائعها ومقدّماتها، وعلى ما يختصّ بالإنسان من الفضائل كالعقل والعلم والايمان من حيث إنه غايتها وكمالها.
والموت بإزائها يطلق على ما يقابلها في كلّ مرتبة؛ قال تعالى:
{ { قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } [الجاثية:26]. وقال: { { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [الحديد:17]. وقال: { { أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [الأنعام:122]. وإذا وُصف بها الباري سبحانه، أريد بها صحّة اتّصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوّة فينا، أو معنى قائم بذاته يقتضي ذلك.
هذا ما ذُكر - والحق أن الحياة ليست مما تخصّ حقيقتها للقوّة الحسّاسة التي في هذه الحيوانات أو مبدئها فقط - كما توهّم -، بل لكلّ شيء حياة تخصّه بها يسبّح الله ويمجّده، وبإزائها موت، هو عدم تلك الحياة عنه كما قال تعالى:
{ { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء:44]. وذلك لأنّ لكلّ شيء وجوداً يخصّه، به ينفعل عمّا فوقه ويفعل فيما دونه، وهذا الانفعال والفعل في هذه الحيوانات، هو الإحساس والتحريك، وفي الإنسان هما التعقّل والرويّة، وفي النباتات، هما التغذّي والتوليد؛ وهكذا القياس فيما علا وما سفل، حتى يرجع في إحدى الحاشيتين الفِعْلُ إلى الانفعال كما في الهيولى، وفي الأخرى بالعكس، لأنّه محْض الوجود والفعليّة.
وأصل جميع الموجودات كلها هو الله، من اسمه "النور"، فهو نورٌ ما علا - وهو السماء - وما سفل - وهو الأرض -، فتأمّل في إضافة النور اليهما في قوله:
{ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [النور:35]. وجميع الأجسام عند أهل اكلشف شفّافة نوريّة، حتّى الأرض مع كثافتها، فإنّها مثل الزجاج الصافي، إذا خلصتْ وصَفَتْ من كدورة رمْلها تعود شفّافة، ومن هذا الباب، أكوان الجلي من الأحجار والنيران الكامنة فيها وفي الأشجار.
وهٰهنا دقيقة، وهي أن أجزاء الأرض تتحرك وتستحيل إلى النبات، والنبات في استكمالاته يتوجّه إلى غاية هي وجود اللبوب، وما من لُبٍّ إلاّ وله دُهنٌ فيه نور بالقوّة ولولا النورية التي في الأجسام الكثيفة، ما صحّ للمكاشف أن يكشف ما خلْف الجدران، ولا كان قيام الميّت في قبره، والتراب عليه لا يمنعه من كشف أحواله، وإن كان الله قد أخذ بأبصارنا عنه ويكشفه المكاشِفُ مِنّا.
وقد ورد في ذلك أخبار كثيرة، ومن خواصّ الهدهد المذكور في قصّة سليمان - على نبيّنا وآله وعليه السلام -، أنّ الأرض شفّافة في نظره، فيرى مواضع العيون تحتها.
أوَما سمعت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يدرِك ما خلْف حجاب ظهره، كما كان يدرك أمامه، ولم يحجبه كافّة عظم الرأس وما يحويه من العروق والعصَب والمخّ وما عليها.
والسرّ في سريان نور الحياة فيها وفي سائر الأجسام، أن أول موجود أوجده الله هو القعل، وهو نور إبداعي إلهي، وأوجد عنه النفس - وهي دون العقل في النوريّة - ومنه الطبيعة، ومنها الجسم؛ وهذه بسائط أجناس العالَم، وما زالت الأشياء تكشف حتى انتهت إلى الأركان والمواليد، ولمّا كان لكل موجود وجهٌ خاصّ إلى موجده - وهو الله -، كان سرَيان نور الحاية فيه، ولمّا كان له وجهٌ إلى سببه، كان فيه من الظلمة والكثافة والعدم والموت. فتأمل إن كنت عاقلاً، فلهذا كان الأمر كلّما نزل أظلم وأكثف، فأين منزلة الأرض من منزلة العقل.
ثم لا يخفى على المحقق، أنه قد ثبت في مقامه أنّ لكلّ نوع جسماني صورة مفارقة منه موجودة في عالم الملكوت الأعلى الربّاني، وفي علم الله، وهو اسم من أسمائه وهو مدبّر لهذا النوع ذو عناية [به]، وهو بالحقيقة لسانه عند الله بالتسبيح والتقديس، وهو سمعه وبصره، وبه حياته، فكلّ جسم حيّ عند التحقيق.
إشارةٌ وتنبيهٌ:
قال بعض المحقّقين من أهل الكشف في هذه الآية: "إنّه لمّا كان الموت سبباً لتفريق المجموع، فمعناها كنتم متفرّقين في كلّ جزء من عالَم الطبيعة فجمَعكم وأحياكم، ثم يُميتكم، أي يردّكم متفرقين، أرواحكم مفارقة لصور أجسادكم، ثمّ يحييكم الحياة الدنيا، ثمّ إليه ترجعون بعد مفارقة الدنيا، وإن الله سيذكّر عباده يوم القيامة بما شهدوا به على أنفسهم في أخذ الميثاق، فيقولون:
{ { رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } [غافر:11]. فطَلبوا من الله أن يمنّ عليهم بالرجوع إلى الدنيا ليعملوا ما يورثهم دار النعيم.
وحين قالوا هذا، لم يكن الأمد المقدّر لعذابهم قد انقضى، ولما قدّر أن يكونوا أهلاً للنار، وأنّه ليس لهم في علم الله دارٌ يعمرونها سوى النار، قال [تعالى]:
{ { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [الأنعام:28]. حتى يدخلوا النار باستحقاق المخالفة، إلى أن يظهر سبق الرحمة الغضب، فيمكثون في النار مخلّدين لا يخرجون منها أبداً على الحالة التي قد شاء الله أن يقيمهم عليها، وفيها يردّ الله الذريّة إلى أصلاب الآباء، إلى أن يخرجهم الله إلى الحياة الدنيا على تلك الفطرة، فكانت الأصلاب قبورهم إلى يوم يُبعثون من بطون أمّهاتهم، ومن ضلع آبائهم في الحياة الدنيا، ثمَّ يموت منهم من شاء أن يموت، ثمّ يبعث يوم القيامة كما وعد" - انتهى ما ذكره.
أقول: إنّ في كلامه أموراً تُخالف الظاهر ينبغي التنبيه عليها:
منها: أن كون أفراد البشر في صورة الذرّ عند عهْد الميثاق، عبارة عنده عن الأجزاء الصغيرة المتفرّقة في أطراف العالم، الحاضرة في علم الله أنّها ستصير أحياء بواسطة اقتران الأرواح الإنسانيّة بها.
ومنها: أن الحياة الثانية تكون في الدنيا أيضاً كما دلّ عليه قوله: { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }، وهذا ممّا يدل بظاهره على تناسخ الأرواح، إلاّ أن تُحمَل الحياة الأولى المشار إليها بقوله: "فَجمَعكُم وأحْيَاكُم" على الحياة الحيوانيّة التي تكون للجنين قبل تعلّق النفس الناطقة بالبدن، والموت الذي بإزائها، انتقال البدن من الحيوانيّة إلى الإنسانيّة، وهذا ليس بتناسخٍ مستحيل.
ومنها: أنّ الصوفيّة وإن كانوا قائلين ببطلان التناسخ، لكنّهم جوّزوا بروز بعض الأرواح في بعض الأشباح، بواسطة اتّصال روحه بذلك الروح، فعليه يحمل ما يشعر بالتناسخ في هذا الكلام، لئلاّ يقع من أحد سوء ظنٍّ بهذا الشيخ العظيم.
ومنها: إنّ ضلْع الآباء وبطون الأمّهات في كلامه، إشارة إلى جهتي الفاعليّة والقابليّة، بأنّ الضلْع الأيسر من الفاعل، إشارة إلى الجنبة السافلة التي بها يفعل فيما تحته، كما أنّ الضلْع الأيمن منه، هو الجنبة العالية التي بها ينفعل عما فوقه، وبطن الأمّ عبارة عن القوّة الاستعداديّة التي للقابل، لأنّ القوّة أمرٌ عدميٌّ منشأه صفة وجوديّة، فكأن القابل أمر ذو تجويف كبطن الأمّ، فضلْع الأب وبطن الأمّ استعارتان لطيفتان لذينك المعنيين.
تذكرةٌ فيها تبصرةٌ
[خلْق الأعمال]
ذكَر صاحب التفسير الكبير من المعتزلة وجوهاً دالّة على أنّ الكفر من قبَل العباد، ولم يقدر على حلّها لصعوبتها، بل أجاب عنها بوجهين جدليّين.
أما الوجوه فأحدها: إنّه تعالى لو كان هو الخالق للكفر، لما جاز قوله: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ } موبِّخاً لهم، كما لا يجوز أن يقول: "كَيف تسودّون وتبيضّون وتسقمون وتصحّون؟" لأنّ الجميع من خلْقه.
وثانيها: إذا كان خلَقهم أولاً للشقاء والنار، وما أراد منهم إلاّ الكفر، فكيف يوبّخهم عليه؟
وثالثها: كيف يليق بالحكيم ايجاد الكفر فيمن يقول لهم: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } توبيخاً، ومنع الايمان عمن يقول في حقّهم:
{ { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ } [الإسراء:94]. { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [الإنشقاق:20]. وأنّى يصحّ أن يقول: { { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [المدّثر:49]. { { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } [يونس:34]. و { فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } [يونس:32]. وهو يخلق فيهم الإعراض والإفْك والصرْف، لأنّه ممّا يشبه السخريّة دون الحكمة أو الإلزام.
ورابعها: إن الله إذا قال للعبيد: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ } احتجاجاً عليهم، فلهم أن يقولوا: حصلت في حقّنا أسباب كثيرة موجبة للكفر، أوّلها قضاؤك النافذ الحتْم. وثانيها: قدَرك اللازم. وثالثها: إرادتك. ورابعها: خلْقك الكفر فينا، وخامسها: خلَقتَ فينا قدرة عليه. وسادسها: إرادة موجبة له. وسابعها: حركة متوجّهة إليه والايمان أيضاً يتوقف على نظائر هذه الأسباب السبعة - وهي كلّها مفقودة -، فقد حصَل لعدم الايمان أربعة عشر سبباً، كلّ منها مستقل بالمنع عن الايمان، فمع قيام هذه الأسباب الكثيرة، كيف يعقل أن يقال: كَيفَ تكفُرون؟
وخامسها: إنّه تعالى قال: كيفَ تكفُرون بالله الذي أنعَم عليكم هذه النِعم العظيمة مثل الحياة وما قبلها وما بعدها؟ وعلى قول الجبريّة لا نعمة له عليهم، لأن كلّ ما فعَله بهم، كان لاستدراجهم وسَوْقهم إلى النار جبراً وقهراً.
وهذا كمن قدّم إلى رجل صحفة فالوذج مسموم، فإنّ ظاهره وإن كان لذيذاً ويعدّ نعمة، لكن عند التحقيق، لا يعدّ نعمة لكونه مهلكاً، ومعلوم أن العذاب الدائم أشدّ ضرراً من ذلك السمّ، فلا يكون لله نعمة على الكافر، فكيف يقول لهم: كيفَ تكفرون بمن أنعم عليكم هذه النِعم العظيمة.
وأما الجوابين اللذين ذكرهما:
أحدهما: إن هذه الوجوه يرجع إلى التمسّك بالحسن والقبح، والثواب والعقاب، فنحن أيضاً نُقابلها بأن الله علم أنّه لا يكون، فلو وُجد لانقلَب علمُه جهلاً - وهو محالٌ، ومستلزم المحالِ محال الوقوع - مع أنّه قال: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ }.
وثانيهما: إن القدرة على الكفْر، إن كانت صالحة للإيمان، امتنع كونها مصدراً له إلاّ لمرجّح، وذلك المرجّح، إن كان من العبد، عاد السؤال، وإن كان من الله، امتنع حصول الكفر؛ وإذا حصل ذلك المرجّح وجب؛ وعلى هذا كيف يعقل قوله: { كَيْفَ تَكْفُرُون }؟
قال: "واعلم أن المعتزلي إذا طوّل في الكلام، وفرّع وجوهه على المدح والذمّ، فعليك بمقابلتها بهذين الوجهين، فإنّهما يهدما جميع كلماته، ويشوّشان كلّ شبهاته".
أقول: قد ظهر وتبيّن مراراً حالُ هذه المسئلة، وهي في غاية الوضوح والتنقيح والإنارة عند من جعله الله أهلاً لها، وجعل له نوراً يمشي به في الظلمات، وشرح صدره بنور الإسلام:
{ { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ } [الأنعام:125].
وهذا الفاضل متحيّر شاكّ في هذه المسئلة، ولم يتنقّح له بعدُ وجه صحتها، ولذلك قال في موضع: "إنّ القول باثبات الصانع الإله يلجيء إلى القول بالجبر، لأنّ الفاعليّة لو لم تتوقّف على الداعية، لزم وقوع الممكن من غير مرجّح - وهو نفي الصانع - [ولو توقّفت لزم الجبر]، واثبات الرسول يُلجيء إلى القول بالقدَر، لأنّه لو لم يقدر العبد على الفعل، فأيُّ فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتُب؟ أو نقول: لمّا رجعنا إلى الفطرة السليمة، وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجّح أحدهما على الآخر إلاّ لمرجّح - وهذا يقتضي الجبْر -، ونجد تفرقة ضرورية بين حركات الإنسان وسكَناته، وبين حركات الجمادات والحركات الاضطراريات، وهذا يقتضي مذهب الإعتزال، فلذلك بقيَت هذه المسئلة في حيِّز الأشكال" - انتهى.
ومَن كان هذا حاله في مثل هذه المسئلة التي هي إحدى قواعد الايمان، وعليها مبنى كثير من المقاصد التي يضرّ الجهل بها للإنسان، فمعلوم من حاله أنّه متحيّر في جلّ المقامات اليقينيّة - بل كلّها -، فما الفائدة له في تكثير التصانيف وتطويل المباحث والأقاويل، ونحن نعلم يقيناً أن الله لم يجعل طلب العلوم والمعارف مركوزاً في جِبِلّة الخلق إلاّ لغاية يترتّب عليها؛ هي تنوير القلوب بأنوار المعارف، وتنجية النفوس عن ظلمات الجهالات، وسياقها إلى دار القدس والكرامة، ولأجلها بعث الله الرسل وأنزل الكتب.
وفي الحديث:
"مَنْ أخلَصَ للهِ أربعينَ صباحاً ظهرتْ من قلبِه على لسانِه ينابيعُ الحكمة" . وقد سمّى الله نبيّه (صلى الله عليه وآله) نوراً وهادياً، وجعَل كتابه نوراً وهُدى في قوله: { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [المائدة:15 - 16]. وقال: { ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [المائدة:88]. فمن حاول العلم مدّة مديدة وصرف عمره في تحصيله، ثمّ لم يكن على بصيرة، ولم يأت بحاصل، ولم يرجع إلى طائل، فضلّ سعيُه في الحياة الدنيا وماله في العلم واليقين نصيب.
فذلك لأنّه لم يكن مخلِصاً لله في كسبه وتحصيله، طالباً لمرضاته في طلبه وسعيِه، بل كان سعيه لهوى النفس وحبّ الدنيا، وتحصيله لطلب الترفّع على الأقران، وبسط الاشتهار والصيت في البلدان، وكونه مشاراً إليه بالأنامل، معدوداً من الأكابر والأماثل.
هذه غاية قصودهم، وفيه صرف مجهودهم، ولذا وصَلوا إليها في الأكثر، وحرموا من جدوى العلْم، محجوبين يومئذ عن النعيم الأنور، محرومين من أشعّة أنوار الله يوم العرض الأكبر.
وأما اندفاع الشُبَه التي ذكرها من طريقة أهل الاعتزال، ففي غاية السهولة عند اللبيب المتفطّن بما مضى من المقال، أو العارف الواقف بأسرار الحقيقة بنور الأحوال، فإنّ تلك الشبه مقتضاها نسبة الكفر والمعاصي إلى إرادة العبد واختياره، وهي حقٌّ وصدق. كيف - ولو لم يكن للعبد إرادة وقدرة، لم يمكن توجيه الأمر والنهي والوعد والوعيد، ولا طلَب الخير والتحرّز عن الشر، ولا فائدة في الدعاء والعبادة والرياضة، وكسف العلوم والآداب، لكن كل ذلك عند التحقيق لا ينافي الجبر، بل الإنسان في عين اختياره مجبور، كما ورد في حديث الصادق (ع): "لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين أمرين".
وليس معناه - كما زعمه أكثر من نظر في هذا الحديث - أن للعبد حالة بين الجبر والتفويض خارجاً عن حقيقتهما، كما أنّ الفلك لا حارّ ولا بارد؛ ولا أن له حالة ممتزجة عنهما متوسّطة بين كمال كل من طرفي الجبر والتفويض، كالماء الفاتر الممترج من مائين منكسِري السَوْرَتَين، يقال له: "لا حارّ ولا بارد"، إذ ليس شيء منهما هو المقصود من هذا الحديث - لا ذاك ولا ذا - بل إن اختيار الإنسان عين اضطراره، وجبره عين تفويضه؛ فهو مضطرٌّ في عين الاختيار، ومختارٌ في عين الجبر، لأن لكلّ شيء صفة لازمة هي كماله الثاني، وهو صورة كماله الأ,ل الذي به قوام ذاته - كالحرارة للنار، والبرودة للماء واليبوسة للأرض، والرطوبة للهواء - وصفة الإنسان في هذا العالم - وما يجري مجراه من الحيوان، هو الاختيار لمالَه أن يفعل بهذا الاختيار بالنسبة إلى الإنسان.
فعلى هذا - فالجواب عمّا ذكروه أولاً بالمنع عن قولهم: "لِمَ تكفُرون؟" بمنزلة: "لِمَ تسودّون؟" وذلك لأنّ الكافر الأسود، ليس في اسوداده مختاراً في عين الإجبار كما في كفره، فإنّ كفره وقع باختياره، بخلاف سواده.
وعما ذكروه ثانياً: إنّ الله لم يرد من عباده أولاً وبالذات الكفر - بل ثانياً وبالعرض - كما قال:
{ { وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ } [الزمر:7]. وقوله: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } [البقرة:185].
فقد ثبَت بالحكمة إن الخير برضاه وقضاه جملةً وتفصيلاً، والشرّ بقضائه جملة وبقدره تفصيلاً، فالإرادة الأوليَّة الرضائيّة تؤدي إلى الخير الكلّي والنظام الأعلى بالقياس إلى العوالِم كلّها بحسب الأنواع، والإرادة الثانويّة القدريّة الجزئيّة تؤدّي إلى الخير والسعادة لطائفة بالقياس إلى عالَم، وإلى الشرّ لطائفة أُخرى بالقياس إلى عالَم آخر، كما في الحديث الإلهي:
"هؤلاء للجنّةِ ولا أُبالي، وهؤلاءِ للنارِ ولا أُبالي" وقوله تعالى: { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ } [هود:118 - 119].
وأمّا التوبيخ والتخويف والزجْر والايعاد وما يقابلها - من التحسين والنصيحة والتعظيم والبشارة والوعد وغير ذلك - فهي من جملة الأسباب القدريّة ومن المهيّجات للدواعي والأشواق، والبواعث على الأغراض والحركات كسائر الأمور القدريّة الواقعة تحت الأسباب القريبة التي للاختيار فيها مدخل - كما مرّ مراراً.
وأمّا عما ذكروه ثالثاً: فبأنّ هذه الأفعال - كالكفر والإفك والصَرْف والإعراض - لها وجهان: وجهٌ إلى الأسباب والدواعي الكلّية العالية، ووجهٌ إلى الدواعي والأسباب القريبة، كإرادة العبد وقدرته وشوقه وداعيته، سيّما قدرته التي يتساوى بالنسبة إليها الطرفان.
فالسؤال بكَيفَ، ولِمَ وأيْنَ وأنَّى، وبسائر الكلمات الإستفهامية عمَّن لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في السماء والأرض، ولا يخرج عن قدرته وسلطانه شيء من عالَمي المُلك والملَكوت، إنّما يكون بالقياس إلى الأسباب القريبة المكتنفة بفعل العبْد، وبالنظر إلى العلوم الحادثة الزمانيّة المتجدّدة حسب تجدّد، الأحوال والآجال، والأمكنة والأوضاع؛ وأما بالقياس إلى ذات الله القيّوم، وعلمه المحيط بالكلّ، فلا كيْفَ ولا أيْنَ ولا متىٰ ولا وضْعَ ولا لِمَّية، لأنّ هناك اضمحلّت الكثرات، وطاحت الأيون والإشارات، وهلكت الأوضاع والكيفيّات، فيصير الكلّ كَلا شيء، والأمكنة تتضاءل من قهره كنقطة واحدة، والازمنة تنزوي بعضها إلى بعض من سطوته وهيبته، فتصير كآن واحد.
وأما عن الرابع: فبمثل ما وقع الجواب عن شُبه إبليس المذكورة عنه، المنسوبة إليه في شرح الأناجيل الأربعة، فإنّه قد ذكر هناك: "قد أوحى اللهُ إلى ملائكته عليهم السلام قولوا له: إنّك غير صادق فيما تقول: ولا مخلِص، إذ لو صدقت أنّي إله العالمين، ما تحكمت علي بلِمَ".
فهٰهنا أيضاً نقول: لو علِم - هذا المفروض كافراً - أن علْم الله وإرادته وقدرته ومشيئته وقضاءه وقدَره وخلقه، هي جاريةُ في هذا العالَم، حاكمة على كلّ شيء، وأن الله تعالى لا رادّ لحكمه، ولا مهرَب من قضائه وحكومته، ولا مُنجي من سطوته ولا ملجأ من سلطانه، فلم يكن هذا المفروض كافراً كافراً، بل مؤمناً حقّاً، فإن من علِم كيفيّة جريان إرادة الله وقضائه في عالَمنا هذا بوجْه عقليّ برهانيّ، فلم يكن ممَّن ينسب الكفر والمعاصي والشرور - من حيث هي شرورٌ وأعدام ونقائص وقوى وملكات - إلاّ إلى الأسباب القريبة الجسمانيّة، والاستعدادات الرديئة الظلمانيّة.
لأنّ من أساء علمه، أو أخطأ في اعتقاده، فإنّما ظلَم نفسَه بظُلمة جوهره وسوء استعداده، وكان أهلاً للشقاوة في معاده - كما سبق -، لكن يعلم بقوّة ايمانه أن سلسلة الأسباب لا بدّ وأن تعود إلى الأمور الإلهيّة القضائية، كما قال تعالى:
{ { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [يس:7]. وقوله: { وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود:119].
فالكفر والمعاصي منسوبة إلى العبد، لا بمعنى خلْق الأفعال، وهي منسوبة إليه تعالى، لا بمعنى الالجاء والقسر - بل كما عرفت مراراً -.
وأما عن الخامس: فإنّ الوارد من الله على الخلْق كلّهم، أمر واحد وفيض [فارد]، والإختلاف إنَّما يكون بحسب القوابل والمستعدّات، وإن النازل كلّه نورٌ ورحمةٌ، ولكن ينقلب في حقّ بعضهم ظلْمة وآفَة ومحْنة، مثل قوله:
{ { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [الرعد:17]. وقوله: { { يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد:4].
وكلّ ما فعَله الله أولاً بأهل الايمان، فعلَه بأهل الكفر، من نعْمة الخلْق والإحياء والعقل والتكليف والهداية والدعوة بالآيات، وإرادة طريقي الخير والشر، والنفع والضرّ وغير ذلك، فصار الكلّ سبباً لقُرب هؤلاء، ومنشأ لبُعد هؤلاء - ولا يزالون مختلفين - فما صنَعه تعالى بهما لقُرب هؤلاء، ومنشأً لبُعد هؤلاء - ولا يزالون مختلفين - فما صنَعه تعالى بهما جميعاً في الدنيا، هو معدودٌ من نعَم الله التي أعطاها لعباده - وإن انقلب بعضها في حقّ البعض ناراً محرقة وسموماً مهلكة -، لحرقة في قلوبهم -، وتغيّظاً وزفيراً في صدورهم، ولهذا صحّ قوله تعالى فيهم: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ }، وتعذّبون بالنار وقد أنعَم الله عليكم بمثل هذه النعَم العظيمة التي أنعَمها على المتّقين، وقد صارت وقايةً لهم من عذاب الجحيم وألم الحميم.
وأما الجوابان اللذان ذكرهما من قِبَل الأشاعرة، فإنّهما وإن حصل بهما الإلزام للمعتزلة، لكن لا يفي بدفع الإشكال، وحلّ عقدة الإعضال عنهم أنفسهم، لأنّ الذي ذكره أولاً، من أن علمه تعالى اقتضى وجود المعلوم على وجهه، أو أنّ خلاف مقتضاه محال، هو خلاف مذهب الأشاعرة، إذ لا ايجاب ولا عِلّية عندهم، بل يجوز منه تعالى على أصولهم ويصحّ أن يفعل خلاف ما كان قرّره وعَلِمه أولاً.
وكذا الذي ذكره ثانياً، فإنّ القدرة والإرادة - سواء كانتا من الله أو من العبد - غير متوقّفتين عندهم على علّة موجبة وداعية مقتضية لأحد طرفي المقدور، بحيث يمتنع مقابلها ويستحيل خلافها.
فالوجوه الخمسة المذكورة كلّها واردٌ عليهم، والجواب بإنكار الحسْن والقبْح العقليّين - مع ما فيه ممّا يستلزم سدّ جميع أبواب البراهين، وما يبتنى عليه من أصول العقائد الحقّة -، وكذا الجواب بقوله تعالى:
{ { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [الأنبياء:23]. غير منجحٍ لهم، لأنّ معناه لو كان المراد منه نفي اللِميَّة عن أفعاله كما فهموه، وإن كانت واقعة منه تعالى في هذا العالَم، بعد مراتب كثيرة ووسائط عديدة، وأسباب جعلها الله مبادى مرتبطة بها، وذلك لأنّه لو كان المراد ما ذكروه، لم يصحّ منه تعالى أن يقول: { لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } [آل عمران:70] { { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [الصف:2]. { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ } [البقرة:91]. وغير ذلك ممّا فيه سؤال بـ "لِمَ" عمّا هو عندهم من أفعال الله، والتالي باطلٌ، فكذا المقدَّم.
فقد عُلم أنّ الذي لا تجري فيه اللميَّة، ولا يجوز عنه السؤال، هو الفعل المطلق له تعالى، أو الفعل الواقع منه تعالى بغير توسّط، أو الأفعال المتأخّرة لكن من وجهها الخاصّ الذي يكون به إليه تعالى، فإن لكلّ ممكن وجهاً خاصّاً إليه تعالى، به يكون قابلاً لفيض أصل الوجود ولوازمه.
فصل
إن ذكر الإماتتين والإحيائين في هذه الآية، وعدم ذكر غيرهما، لا يدلّ على نفي ما سواهما، فانفسخ ما احتجّ به قوم على نفي عذاب القبر وسؤاله.
وأيضاً - لأحد أن يحمل قوله: { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ }، على الحياة التي تكون في القبر، لأنها ليست بدائمة، وقوله: { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } على الحياة الدائمة الأخرويّة، فتكون الآية دليلاً على إثبات الحياة في القبر.
وقال الحسن: المراد من الآية حال العامّة، وأمّا بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرّات وأحياهم كذلك، كما في قوله:
{ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } [البقرة:259]. وكقوله: { فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } [البقرة:243]. وكقوله في قصّة بني إسرائيل: { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } [البقرة:56] وكقوله: { فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ } [البقرة:73].......................................... وكقوله في قصّة أيّوب عليه السلام: { { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } [الأنبياء:84].
فصل
تمسّكت المجسّمة بقوله تعالى: { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } على المكانيّة؛ وَرُدَّ بأن المراد رجوعهم إلى حُكمه.
والردّ كالمردود ضعيفٌ، والحقّ أنّ أشخاص الإنسان يرجعون إلى الله رجوعاً جبليّاً بحركة ذاتية إنيّة، لا رجوعاً مكانيّاً عرَضيّة أينيّة، وهذا ما حقّقه المحقّقون القائلون بأنّ للانسان من مبدء نشوءه إلى غاية كماله انقلابات في ذاته، وتطورات في جوهره، فكان تراباً، ثمَّ نطفة، ثمَّ صورة لحميّة وعظميّة، ثمَّ صورة حيوانيَّة، ثمَّ صورة إنسانيّة، ثمّ صورة ملكيّة، ثم صورة مفارقة، ثمَّ ما شاء الله.
فصل
إعلم أنّ في هذه الآية إشارات وتنبيهات إلى أسرار عقليّة:
أحدها: إن في إسناد الإماتات والإحياءات إلى الله، إشارة لطيفة إلى أنّ هذه التحوّلات والانتقالات، أمورٌ طبيعية صادرة بتسخير الله تعالى جوهراً شأنُهُ هذه التقليبات والتحريكات؛ لا أنّها أمور اتّفاقيّة صادرة بأسباب اتّفاقيّة، أو أن المؤثّر في الحياة والموت طبائع الأفلاك والكواكب أو الأمزجة والأركان، - كما هو قول أهل الطباع والدهريّة - على ما حَكى الله عنهم بقوله:
{ { مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } [الجاثية:24]. وَلا أنّ الإنسان من بدْو ولادته إلى أوان موته، على جوهر واحد وهويَّة واحدة، من غير تحوّل وارتحال - كما زعمَه الناس -.
وثانيها: إن الآية دالة على أن الموت طبيعي لكل أحد، وان معناه ومنشأه ليس كما فهمه الأطباء والطبيعيون، من أنه أمر يعرض أولاً للبدن من جهة نفوذ قوته الطبيعية، وزوال حرارته الغريزية، ثم بواسطته ينقطع تعلق النفس عنه، وما ذكروه ليس بمعتمد عليه ولا هو بحق.
بل الحقّ أن الموت الطبيعي عبارة عن تمام توجّه النفس من هذه النشأة إلى عالَم الآخرة بالذات، وإعراضها عن البدن، فيطرأ عليه الهلاك لأجل ذلك الإعراض بالعرَض، فزوال الحرارة، وبطلان قوّة الحسّ والحركة عن البدن، مسبّب عن توجّه النفس حركة جِبِلّية إلى ما عند الله، لا أن الأمر بالعكس - كما هو المشهور -.
قال بعض المحقّقين من أهل الكشف والعرفان: اعلم أنّ القوى التي في الإنسان وفي كلّ حيوان من قوى الحسّ والحركة وغيرها - كالخيال والحفظ والمصوّرة كلها المنسوبة إلى سائر الأجسام علواً وسفلاً - إنّما هي للروح، تكون بوجوده وإعطائه الحياة لذلك الجسم، وينعدم فيه ما ينعدم بتولّيه عن ذلك الجسم من ذلك الوجه الذي يكون عنه تلك القوة الخاصّة - فافهم.
فإذا أعرَض الروح عن الجسم بالكلّية، زال بزواله جميع القوى والحياة، وهو المعبّر عنه بالموت، كظلام الليل بمغيب الشمس.
وأمّا النوم، فليس بإعراض كلّي، وإنّما هو حجب أبخرة تحول بين القوى وبين مدركاته الحسيّة مع وجود الحياة في النائم، كالشمس إذا حالَت السحُب بينها وبين موضع خاصّ من الأرض، يكون الضوء موجوداً كالحياة، وإن لم يقع إدراك الشمس لذلك الموضع، فكما أن الشمس إذا فارقت هذا الموضع من الأرض وجاء الليل بَدلاً منه ظهَر في موضع آخر بنوره أضاء به ذلك الموضع، كذلك الروح إذا أعرض عن هذا الجسم الذي كان حياته به تجلّى على صورة من الصور الذي هو البرزخ، وهو بالصاد جمع "صُورَة"، فحييت به تلك الصورة في البرزخ، كما قال النبي (صلى الله عليه وآله) في نسْمة المؤمن:
"إنّه طير أخضرٌ" فذلك الطير كالجسم هيهنا حُييت بهذا الروح الذي كان يحيى به هذا الجسم، وكما تطلع الشمس في اليوم الثاني علينا فتستنير الموجودات بنورها، كذلك الروح تطلع في اليوم الآخر على هذه الأجسام الميتة فتحيى بها، فذلك هو البعث والنشر.
وثالثها: إنّها دالّة على صحّة البعث، مع التنبيه العقلي على صحّته ووجوبه جميعاً.
أما الصحّة والإمكان، فإنّ من قدِر على الإحياء أولاً قدِر عليه ثانياً.
وأمّا الوجوب والحقيّة، فإنّ من الناس من حمل المَوتة الأولى على مادّة البدن، كالعناصر والأغذية والأخلاط والنطَف والمضغَة - مخلَّقة وغير مخلَّقة -. وحمَل الحياة الأولى على الأرواح الحيوانيّة التي بها السمْع والبصَر، كما في قوله:
{ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [الإنسان:2]. ويقع فيها الاشتراك بين الإنسان وسائر الحيوان. وحمَل الموتة الثانية على حامل القوّة الحيوانيّة الذي يعرض له الموت لا محالة عند تقضّي الآجال، لكونه دائم الاستحالة والدُثور في الأحوال. وحمَل الحياة الثانية على الروح الإنساني القابل للبقاء الأُخروي، المشار إليه بقوله: { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [المؤمنون:14].
فعلى هذا، قد انكشف أنّ للإنسان استحالات من حالة إلى أُخرى، وأنّ في ذاته جوهراً سالكاً بحسب الفطرة التي فطره الله عليها، منتقلاً من صورة إلى صورة، ولكلّ صورة تصوّر بها غاية حقيقية انتقل إليها من تلك الصورة.
وقد ثبَت في العلوم الإلهيّة، أن للأشياء الجوهريّة الفطريّة غايات يُتوجّه إليها، وتلك الغايات يجب أن تكون من جنس ذويها وأشرف منها.
فلا بدّ أن تكون للروح الإنساني غاية يُتوجّه إليها بحسب ما أودع الله في جِبِلّتها، ويجب أن تكون غايتها من جنسها وأشرف منها كما مرّ.
وهي لا تتحقّق إلا في نشأة أُخرى. وذلك لأنّ النفس الإنسانيّة آخر درجات هذا العالَم الشهادي الحسّي، وأول درجات العالَم الغيبي الأُخروي، فكأنّها برزخ جامع بين العالَمين، حجابٌ حاجزٌ بين الدارين، وبابٌ في سور مضروب به بين النشأتين، فتمامها وغايتها لا بدّ وأن تحصل لها من الارتحال من هذه النشأة إلى أخرى، فلها انسياق جِبِلّيٌّ من الدنيا إلى العقبى.
وإلى هذا الانسياق أشار بقوله:
{ { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق:21]. أي سائق يسوقها إلى محشرها، وشاهدٌ يشهد عليها بعملها، وفي الآخرة درجات متفاضلات، ومنازل متفاوتات لمن هو أهلها.
ورابعها: إنّها دالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنّه قال: { فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } فبيَّن أنّه لا بدّ من الموت، ثمّ أنّه لا يترك على هذا الموت بل لا بدّ من الرجوع إليه.
أما إنّه لا بد من الموت، فقد أشار إليها في كثير من الآيات التي ذكر فيها بدايات خلْقة الإنسان.
وفي كلام أمير المؤمنين وإمام الموحّدين - عليه السلام منّا ومن الملائكة أجمعين -: "أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم، والمبلية لأجسادِكم، وإنّما مثَلكُم ومثَلها كسَفْرٍ سلَكوا سبيلاً، فكأنّهم قد قطعوه، وأمّوا عَلَماً فكأنّهم قد بلغوه، وما عسى أن يكون بقاء من له يومٌ لا يعدوه، وطالب حثيث من الموت يحدوه ومزعج في الدنيا حتى يفارقها رغماً، فلا تنافسوا فإنّ عزّها إلى انقطاع، ونعيمها إلى زوال، وبؤسها إلى نفاد، وكلّ مدة فيها إلى انتهاء، وكل حيٍّ فيها إلى فناء".
وأما أنّه لا بدّ من الرجوع إلى الله تعالى، فلأنّه يأمر بأن ينفخ في الصور:
{ { فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } [الزمر:68]، ثمّ ينفخ { فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [الزمر:68]. { { يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [المعارج:43]. ثمّ يعرضون على الله كما قال: { { وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَّاً } [الكهف:48]. فيقومون خاشعين كما قال: { { وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ } [طه:108].
فقد ظهر وتبيَّن أنّ للإنسان بعد أطوار الدنيا ومقاماتها مقامين أُخرويين، أحدهما عند الموت، والآخر عند الرجوع.
أمّا المقام الأول، فحال الإنسان فيه كما قال يحيى بن معاذ الرازي: "يمر أقاربي بحذاء قبري كأن أقاربي لا يعرفوني. وكأنّي بنفسي وقد أضجعوها في حفرتها، وانصرف المشيِّعون عن تشييعها، وبكى الغريب عليها لغربتها، وناداها من شفير القبر ذو مودّتها، ورحِمَتها الأعادي عند جزعتها، ولم يخفَ على الناظرين عجز حيلتها، فما حيلتي ولا رجائي - إلهي - إلاّ أن تقول: ملائكتي انظروا إلى فريد قد نأى عنه الأقربون، ووحيد قد جفاه المحبّون، أصبح مني قريباً وفي اللحد غريباً، وكان لي في الدنيا داعياً ومجيباً، ولإحساني إليه عند وصوله إلى هذا البيت راجياً، فاحسِن إليَّ يا قديم الإحسان، وحقِّق رجائي فيك يا واسع الغفران.
وأما المقام الآخر، فكما قال بعضهم: "إلهنا - إذا قمنا من ثرى الأجداث مغبرّةً رؤوسنا من شدّة الخوف شاحبة وجوهنا، من هول القيامة، مطرقة رؤوسنا، وجائعة لطول القيامة بطوننا، وبادية لأهل الموقف سؤآتنا، وموقرة من ثقل الأوزار ظهورنا، وبقينا متحيّرين في أمورنا، نادمين على ذنوبنا، فلا تُضَعِّف المصائب علينا بإعراضك عنّا، ووسِّع رحمتك ورضوانك وغفرانك [لنا] - يا عظيم الرحمة، ويا واسع المغفرة.