خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ
٣١
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

وقرئ: "وَعُلِّمَ آدَمُ" - على البناء للمفعول.
اعلم أنّ الملائكة لمّا سألوا الله عن وجه الحكمة في جعل الإنسان خليفة في الأرض دونهم، وأجاب بوجه اجمالي؛ أراد أن يزيدهم بياناً وكشفاً، أخبر عن وجه الحكمة في ذلك تفصيلاً لِمّياً؛ فبيّن لهم جهة فضيلة الإنسان عليهم، وذلك بأن علمهم معرفة الأسماء - إما بخلق علم ضروريّ أو إلقاء في رُوعه، ولا يفتقر إلى سابقه اصطلاح - وإلا لتسلسَل.
هذا إذا كان المراد من الإسم ما غلب عليه العرف العام الطارئ من اللفظ الموضوع لمعنى - سواء كان مركّباً أو مفرداً، وسواء كان المركّب خبراً أو انشاء؛ والمفرد مخبراً عنه أو به أو رابطة بينهما، أو الاصطلاح النحوي من المفرد الدالّ على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة -، وأما إذا كان المراد منه باعتبار اشتقاقه من "السِمة" - ما يكون علامة للشيء ودليلاً يرفعه إلى الذهن، سواء كانت ألفاظاً، أو صفات أو أفعالاً، كما هو عند العرفاء -، فليس منحصراً فيما للوضع فيه مدخل، بل يشمله وغيره.
والظاهر أنّ المراد من تعليم الأسماء، ليس مجرّد تعليم الألفاظ الموضوعة بحسب دلالتها على المعاني كما في التعريفات اللفظية، بل إفادة العلم بحقائق الأشياء وماهيّاتها، وإن كان الأول أيضاً مستلزماً للعلم بمدلولاتها بوجه من الوجوه؛ وذلك لأنّ معرفتها من جهة اللغات ليست كمالاً يعتدّ به، إنّما الكمال الأتمّ في الحكمة والمعرفة.
فالمعنى: أنّه تعالى خلَق آدم عليه السلام من أجزاء مختلفة، وقوى متبائنة، مستعداً لإدراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات والمتخيّلات، لاشتماله على جميع النشئات الدنيويّة والمثاليّة والأُخرويّة، وألهمه معرفة ذوات الأشياء وحقائقها الكليّة والجزئيّة، وخواصّها وأسماءها، وأصول العلوم وقوانين الصناعات، وكيفيّة اتّخاذ الآلات، حتى صار في نفسه عالَماً تامّاً منفرداً منفصلاً عن العوالم كلّها، ذا هيئة جمعيّة ونظام وحداني مضاهياً للعوالم الثلاثة.
وآدم عليه السلام - على وزن أفْعَل - اسمٌ أعجميٌ كـ "آذَر" و "شالَخ"، واشتقاقه من "الأدمة" بمعنى السُمْرة. أو من الأدَمة - بالفتح - بمعنى الأُسوة. أو من أديم الأرض، لما روي عنه (صلى الله عليه وآله):
"إنّه تعالى قبضَ قبضةً من جميع الأرض - سهلها وحزنها - فخلق منها [آدم]، فلذلك يأتي بنوه أخيافاً" . ولو كان وزنه فاعلاً لانصرف.
وليس مشتقّاً من الأدم والأدمة بمعنى الالفة، كاشتقاق إدريس من الدرس، ويعقوب من العقب، وإبليس من الإبلاس.
إشارةٌ عرفانيّةٌ
[معنى الإسم والمقصود من تعليم الأسماء]
قد مرّ في المفاتيح الغيبيّة إنّ ذاته تعالى باعتبار صفة من الصفات أو تجلّ من التجلّيات سمّي بـ "الاسم" عند العرفاء، وهذه الأسماء الملفوظة هي أسماء الأسماء، وهي معان معقولة في غيب الوجود الحقّ، تتعيّن بها شؤونه وتجلّياته. وليست بموجودات عينيّة.
وقد تطلق الأسماء عندهم على الموجودات العينيّة، باعتبار كونها مظاهر لتلك الأسماء التي هي معان غيبيّة، وذلك لاتّحادهما في المفهوم - وإن اختلفا في الوجوب والإمكان -، مثلاً: للعلم حقيقة ذاتيّة هي كونه عين هويّة الحقّ الأول، وحقيقة أسمائيّة هي معنى عقليّ انتزاعيّ من شؤون الحقّ وتجلياته، وحقيقة إمكانيّة هي ذوات العقلاء؛ فكلّ واحد من العقول المجرّدة عندهم إسم عليمٌ من مراتب اسم الله "العليم"، وهكذا في جميع الأسماء.
فعلى هذا؛ حقائق العالم كلّها من أسماء الله تعالى، فتعليمه تعالى أسماء الأشياء لآدم، إراءته الأجناس التي خلَقها، وإلهامه إيّاه معرفة أحوالها وما يتعلّق بها من اللوازم والآثار.
فصل
قوله [تعالى] { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ }
وقرء عبدالله: "عَرضَهُنّ" وقرء أُبيّ: "ثُمَّ عَرَضَهَا".
وفي الكشّاف "أي: عرض المسمّيات. وإنّما ذَكَّر لأن في المسمّيات العقلاء فغلّبهم" - انتهى.
وقيل: الضمير للمسمّيات المدلول عليها ضِمناً، إذ التقدير أسماء المسمّيات، فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه، وعوّض عنه اللام، كقوله [تعالى]:
{ { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } [مريم:4]. لأنّ الغرض السؤال عن أسماءِ المعروضات، فلا يكون المعروض نفس الأسماءِ؛ سيّما إن أريد به الألفاظ. والمراد به ذوات الأشياء أو مدلولات الألفاظ، وتذكيره لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء.
[المثل النوريّة والأسماء الإلهيّة]
أقول: قد علمت بما سبق من مسلك العرفاءِ، الاستغناء عن مثل هذه التكلّفات في معنى الاسم، فلا حاجة إلى ما ذكروه.
وأما تذكير الجمع، فليس من باب التغليب والمجاز، بل على الحقيقة.
بيان ذلك: أن لكل حقيقة نوعيّة - كالإنسان والفرس والغنم والبقر والرطب الحنطة والشعير والياقوت واللَّعْل والفيروزج والأرض والماء والهواء - جوهراً عقليّاً نوريّاً عاقلاً لذاته، ومعقولاً لذاته، موجوداً في العالَم الأعلى الإلهي، حاضراً في علم الله والحضرة الإلهية. فهذه العقول المفارقة والصور المجرّدة العلميّة، هي بالحقيقة أسماء الله أو أسماء أسمائه، وهي موجودة أزلاً وأبداً، لأن ما عند الله باقٍ لا يزول؛ وليست من جملة العالَم لتتّصف بالحدوث والتجدّد، والزال والدثور. والبرهان على وجودها مذكور في كتبنا العقليّة.
وتقريره: أنّ الباري - جلّ ذكره - كما أنّه فاعل كلّ شيء - إمّا بوسط أو بغير وسط -، فهو غاية كلّ شيء، بوسط أو بغير وسط، لأنّه خيرٌ محض لا شرّية فيه أصلاً، وكلّ ما هو خير محض، يطلبه كل شيء طبعاً وإرادة، وهذا مركوز في جميع الجِبِلاّت والغرائز، فكلّ موجود سافل إذا تصوّر الوجود العالي، فلا محالة يطلبه ويشتاقه طبعاً جِبِلّياً أو اختيارياً اضطرارياً، وهذا الطلب والشوق، لو لم يكن له غاية حقيقية، لكان ارتكازه في الجِبِلّية عبثاً معطّلاً - ولا معطّل في الوجود، والله بريء عن فعل العبث -.
فلكلّ سافل إمكان الوصول إلى العالي، وهذا الإمكان إما ذاتي أو استعدادي، ففي الإبداعيّات، إذا وجد الإمكان الذاتي، حصل المقصود لعدم المانع والقاسر، وفي المكوّنات، إذا حصل الاستعداد وزال المانع فكذلك.
ثمّ المانع الغير الزائل، لا يكون إلاّ بحسب الأمر الأقلّي النادر، لأنّ الخارج عن الطبيعة النوعيّة للشيء، أو عن لوازمها الذاتية، يكون أمراً عارضاً إتفاقياً، والأسباب الإتفاقية لا تدوم - كما ثبَت في موضعه -، وكلامنا فيما تقتضيه طبيعة كل نوع بحسب ذاته، وقد ثبت أنّ ذلك إمّا لازم الوقوع، أو أكثري الوقوع؛ فالطبائع الكلّية كلّها من حيث ذواتها واصِلة إلى كمالاتها، وكذا كلّ طبيعة جزئيّة في حركاتها وتشوّقاتها إلى ما هو أعلى منها.
ثمّ الغاية في طبيعة جزئيّة أن كانت طبيعية جزئية أخرى، فلا بدّ بالآخرة أن تصل إلى طبيعة عقليّة - وإلاّ لتسلسل الأمر إلى غير نهاية -، والغاية في طبيعة عقليّة طبيعة عقليَّة فوقها، ولا بدّ في الكلّ أن تكون موصلة إلى غاية الغايات ومنتهى الخيرات، - وهو الباري جلّت أسمائه - دفعاً للدور والتسلسل.
فإذا تقرّر هذا فنقول: إنّ لكل طبيعة حسّية - سواء كانت فلكيّة أو عنصريّة - طبيعة أُخرى عقليّة في العالم الإلهي هي كمالها وغايتها وتأكّد وجودها، وهي الصور المفارقة الإلهيّة منها، لأنّها صور ما في علم الله، وحقائق ما عند الله الباقية ببقاء الله؛ وكأنّها هي التي سمّاها أفلاطون وشيعته بالمُثُل الإلٰهيّة.
وهي حقائق متأصّلة، نسبتها إلى هذه الصور الحسّيات الداثرات نسبة الأصل إلى المثال، والشخص إلى الظلّ؛ وإنّما هي أصول هذه الأشباح الكائنة المتجدّدة، لأنّها حقيقتها وفاعلها وغايتها وصورتها العقليّة المعقولة بالفعل لبارئها دائماً؛ وأمّا هذه فهي ناقصة غير خالية عن القوّة والإمكان، سائلة زائلة بحسب وجودها الكوني، لكنّها في وجودها الكوني التجدّدي، سالكة مشتاقة إليها، عائدة محشورة إلى ذلك العالَم.
وأمّا تلك الصور العقليّات، والمُثل النوريّات، والعلوم الإلهيات، فهي أبداً ملحقة بفاعلها وغايتها، ملاحِظة لجمال بارئها ومبدِعها، لم ترجع إلى ذواتها طرفة عين، إذ لا ذات لها منفكّة عن ذات مبدِعها، إذ الامكان هناك لا يفارق الفعليّة، والقصور لا يباين التمام، فهي أبداً مستهلكة الذوات في ذات حبيبها الأول، لا فرق بينها وبين حبيبها كما ورد في الخبر القدسي، ولا مجال لها في الأنانيّة والغيريّة.
وأما إبليس وجنوده، فليسوا منها ولا من حزبها، وإلاّ لما وقَع من هؤلاء الإباء والأنانيّة.
فإذا انكشف هذا، فقد وضح وتبيّن سرّ قوله تعالى: { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ } - بضمير جمع ذوي العقول -، فإنّ هذه الصور المفارقة - كما ثبَت - أسماء إلهيّة وعقلاءٌ ربّانيّة، وجودهم فوق وجود الملائكة السماويّة، وللإنسان الكامل الذي هو مظهر الأسماءِ كلّها، أن يتّصل بعد سلوكه إلى الله بقدم العبوديّة - لا الأنانيّة - وعبوره على المراتب والمنازل الأرضيّة والسماويّة، وأن يطّلع على تلك الحقائق، ويتخلّق بأخلاق خلاّق الخلائق - وذلك هو الفوز العظيم والمنّ الجسيم -.
وأما غير الإنسان الكامل - سواء كان مَلَكاً أو إنساناً أو حيواناً أو شيطاناً - فليس له إلاّ مقام واحد، ولا عبوديّة له إلاّ لاسم واحد هو مربوبه خاصّة لا يتعدّاه، لأنّه أبداً تحت تربية ذلك الاسم الواحد.
فصل
قوله: { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ }
أي: فنبّههم على قصورهم عن معرفة أسماء الموجودات، أي حقائقها، لأنّ حقيقة الشيءِ هي علامته ووجهه عند أهل الحقيقة. أو أسماء الحقّ أي: مظاهرها ومربوباتها، وإنّما قال ذلك، تبكيتاً لهم، واظهاراً لعجزهم عن أمر الخلافة والنيابة الإلهيّة، وليس أمراً تكوينيّاً، وإلاّ لكان مؤثّراً في صيرورتهم كذلك، ولا أمراً تكليفيّاً، وإلاّ لكان من التكليف بالمحال.
"الإنباء": إخبار فيه إعلام، ولذلك يجري مجرى كل واحد منهما، والمراد هٰهنا: كونوا بحيث توجد فيكم حقائق الإنباء وملكوت الأشياء، كما في الإنسان الكامل بحسب تطوّره في الأطوار، ومروره على كلّ العوالِم والنشئات، ومظهريّته لجميع الأسماء، إن كنتم صادقين في زعْمكم أنكم أحقّاءٌ بالخلافة، وأنّ استخلاف الإنسان لا يليق بالحكمة، وهو مصحوب لهاتين الصفتين: إفساد القوّة الشهويّة، وسفْك القوّة الغضبيّة.
وهذا الزعم، وإن لم يصرّحوا به، لكنّه لازم من مقالهم، والتصديق، كما يتطرّق إلى الكلام باعبتار منطوقه، [كذلك] قد يتطرّق إليه بعرض ما يلزم مدلوله من الأخبار، وبهذا الاعتبار يعتري الانشائيات.
إشارة نوريّة
قد ظهَر لك فيما مرّ ذكره مراراً، أن أسماء الله تعالى أصل حقائق الممكنات، وأن عالَم الأسماء الإلهيّة أصل هذا العالَم بجميع ما فيه من الصور الكونيّة السماويّة أو الأرضيّة، وأنّ هذه الصور الكونيّة، كعكوس وأظلال لحقائق تلك، حتى أن العرفاء الشامخين، والأولياء الكاملين، يشاهدون بأنوار بواطنهم عالَم الأسماء وترتيبها، وتقدّم بعضها على بعض وتسلّطه عليه، وتأخّر بعضها عن بعض وانقهاره له، ترتيباً سببيّاً ومسببيّاً، وكثرة جمعيّة لا تقدح في وحدة الذات.
فإن أردت كشفاً وايضاحاً لما قد سبق ذكره، فاسمَع أُنموذجاً من علم الأسماء واجعل بالك له، ولا تتوهّم الكثرة في ذات الله تعالى، ولا تعدّد القدماءِ، ولا الإجتماع الوجودي في عالم النسب المعقولة، فإنّ الذات الواجبيّة واحدة بالحقيقة، كثيرة بالأسماء.
قال لسان التحقيق في كشف هذا المقصد العميق: "إنّ الممكنات في حال عدمها الإمكاني سألت الأسماء الإلهيّة سؤال ذلّة وافتقار، وقالت لها: إنّ العدم قد أعمانا عن إدراك بعضنا بعضاً، وعن معرفة ما يجب لكم من الحقّ علينا، فلو أنّكم أظهرتم أعياننا وكسوتمونا حلّة الوجود، أنعمتم علينا بذلك، وقمنا بما ينبغي لكم من الإجلال والتعظيم، وأنتم أيضاً كانت السلطنة تصحّ لكم بظهورنا بالفعل، وأنتم [اليوم] علينا سلاطين بالقوّة والصلاحيّة؛ فهذا اليوم نطلبه هو في حقّكم أكثر ممّا في حقّنا.
فقالت الأسماء: إنّ هذا الذي ذكرته الممكنات صحيح، فاتّفقت بحضرة المسمّى ونظرت في حقائقها ومعانيها، فطلبتْ ظهور أحكامها حتّى تتميّز أعيانها بآثارها، فإنّ الخلاّق والمقدِّر والعالِم، والمصوِّر والمدبِّر، والمفصِّل والبارئ، والرّزاق والمحيي والمميت، وجميع الأسماء الإلهيّة نظَروا في ذواتهم، ولم يروا مخلوقاً ولا مقدوراً ولا معلوماً ولا مصوَّراً ولا مدبَّراً ولا مفصَّلاً ولا مرزوقاً. فقالوا: كيف العمل حتى تظهر هذه الأعيان التي تظهر أحكامنا فيها فيظهر سلطاننا؟ فجاءت الأسماء الإلهيّة التي تطلبها بعض حقائق العالَم بعد ظهور عينه إلى الإسم البارئ، فقالوا: عسى [أن] توجد أعيان هذه الأحكام لتظهر أحكامنا، إذ الحضرة التي نحن فيها لا تقبل تأثيرنا.
فقال الباري: ذلك راجعٌ إلى الإسم القادر، فإنّي تحت حيطته. فلمّا لجأوا إلى القادر قال: أنا تحت حيطة المُريد، فلا أوجد عيناً منكم إلاّ باختصاص، ولا يمكّنني الممكن من نفسه إلاّ أن يأتيه أمرُ الآمر من ربِّه، فإذا أمره بالتكوين وقال له: "كُنْ"، يمكّنني من نفسه، وتعلّقت بايجاده، فكوّنته من حينه، فالجأوا إلى الإسم المريد، عسى أنّه يرجّح ويخصّص جانب الوجود على جانب العدم، فحينئذ نجتمع أنا والآمر والمتكلّم ونوجدكم.
فالتجأوا إلى الإسم المُريد فقالوا له: إنّ الإسم القادر سألناه في ايجاد أعياننا، فأوقف أمر ذلك عليك، فما ترسم؟ فقال المريد. صدق القادر، ولكن ما عندي خبر ما حكم الإسم العالم فيكم - هل سبق علمه بايجادكم فاخصّص، أولم يسبق؟ - فأنا تحت حيطة الإسم العالِم، فسيروا إليه واذكروا [له] قضيّتكم.
فساروا إلى الإسم العالِم، وذكروا له ذلك، فقال العالم، قد سبَق علمي بايجادكم، ولكن الأدب أولى، فإن لنا حضرة مهيمنة علينا وهي الإسم الله، فلا بدّ من حضورنا عنده، فإنّها حضرة الجمع.
فاجتمعت الأسماء كلّها في حضرة الإسم الله، فقال: ما بالكم؟ فذكروا له الخبر، فقال: أنا إسم جامع لحقائقكم، وإنّي دليلٌ على مسمّى، وهو ذات مقدّسة له نعوت الكمال والتنزيه، فقِفُوا حتى ادخل على مدلولي.
[فدخل على مدلوله] فقال له ما قالته الممكنات وما تحاوَرت فيه الأسماء.
فقال: اخرج وقلْ لكلّ واحد من الأسماء يتعلّق بما تقتضيه حقيقته في الممكنات، فإنّي الواحد الأحد لنفسي، والممكنات إنّما تطلب مرتبتي وتطلبها مرتبتي، والأسماء الإلهيّة كلّها للمرتبة - لا لي -، إلاّ الواحد خاصّة. وهو اسم خصيص [بي] لا يشاركني في حقيقته من كلّ وجه أحدٌ، لا من الأسماء، ولا من المراتب، ولا من الممكنات.
فخرج الإسم "الله" ومعه الإسم "المتكلّم"، يترجم عنه للممكنات والأسماء فذكر لهم ما ذكره المسمّى، فتعلّق العالِم والمُريد والقادرُ، فظهر الممكن الأول من الممكنات بتخصيص المريد وحكم العالِم، فلمّا ظهرت الأعيان والآثار في الأكوان، وتسلّط بعضها على بعض، وقهر بعضها بعضاً، بحسب ما يستند إليه من الأسماء، فأدّى إلى منازعة وخصام، فقالوا: إنّا نخاف علينا أن يفسد علينا نظامنا، ونلحق بالعدم الذي كنّا أولاً فيه، فنبّهت الممكنات الأسماء بما ألقى إليها الإسم العليم والمدبِّر، وقالوا أنتم - أيُّها الأسماء -، لو كان حكمكم على ميزان معلوم وحدّ مرسوم بإمام ترجعون إليه يحفظ علينا وجودنا، ونحفظ عليكم تأثيراتكم فينا، لكان أصلح لنا ولكم، فالجأوا إلى الله عسى أن يقدّم من يحدّد لكم حدّاً تقفون عنده، وإلاّ هلكنا وتعطّلتم.
فقالوا: إن الإسم "المدبِّر" ينهي أمركم، فانتهوا إلى المدبِّر ما قالته الممكنات، فقال: أنا لها، فدخل وخرج بأمر الحقّ إلى الإسم "الربّ" وقال له: افعَل ما تقتضيه المصلحة في بقاء أعيان هذه الممكنات. فاتّخذ وزيرين يعينانه على ما أمره به الوزير الواحد الإسم المدبِّر، والآخر الإسم المفصِّل - قال [تعالى]:
{ { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } [الرعد:2]. الذي هو الإمام، فانظر ما أحكم كلام الله تعالى حيث جاء بلفظ مطابق للحال الذي ينبغي أن يكن الأمر عليه.
فجاء إسم الرب فرتّب لهم الحدود، ووضع لهم المراسم لإصلاح المملكة، وليبلوَهم أيُّهم أحسَن عملاً، وجعل الله ذلك قسمين: قسْم يسمّى سياسة حكميّة ألقاها في فطَر نفوس الأكابر من الناس، بحسب ما تدركه عقولهم وآراؤهم، فحدّوا حدوداً، ووضعوا نواميس رسميّة بحسب ما يقتضيه صلاح كلّ إقليم وكلّ زمان، وانحفظت بذلك أموال الناس ودماؤهم وأهلوهم وأرحامهم وأنسابهم، وسمّوها نواميس.
وقسْمٌ يسمّى شريعة إلهيّة، يجيء بها الوحي الإلهي إلى مَن اصطفاه الله وارْتضاه من خلقه، ولم يكن قبل هذا الوحي يعلم أحدٌ بأنّ الله فرَض على عباده أُموراً مقرّبة إلى الله، تورِث جنَّة وحريراً، وأُخرى مبعّدة منه، تورِث ناراً وزمهريراً، ولا علموا قبلهم أن ثمَّة آخرةً وبعثاً محسوساً بعد الموت في أجساد طبيعيّة، وداراً فيها أكْلٌ وشُربٌ ولباسٌ ونكاحٌ، وداراً فيها عذابٌ وآلامٌ.
ثمّ بعث الله رسولاً بعد رسول، ولم يخل الأرض عن خليفة هو مظهر الإسم الله، إذ به تنتظم أُمور الخلق بماله من الجمعية الإلهيّة والعدالة الحقيقيّة، التي يرجع بها إليه كلّ الخلائق في حوائجهم وانتظام أُمورهم ومعايشهم، كما في الإسم "الله" من المقام الجمعي الإلهي، الذي ترجع إليه الأسماء كلّها، فهذا سرّ الخلافة وتعليم الأسماء في الإنسان الكامل، وعدم استحقاق غيره لهما.
مثال ذلك في العالم الصغير الإنساني:
أَوَلاَ ترى أنّ كل قوّة من القوى، إذا تفرّدت بخاصّ فعلها، فهي محجوبة بنفسها عن غيرها، لا ترى أفضل من ذاتها - كالملائكة التي نازَعت في آدم -، كالعقل والوهم والخيال والحسّ، فإنّ كلاً منها يدّعي السلطنة على هذا العالَم الصغير الإنساني، ولا يذعن ولا ينقاد لغيره.
إذ العقل يدّعي أنّه محيط بالكلّيات، مدرك لجميع الحقائق والماهيّات على ما هي عليه بحسب القوّة النظريّة. وليس كذلك؛ ولهذا احتجب أرباب العقول عن الحقّ وصفاته، وسرّ المعاد، وحشر الأجساد، لتقليدهم عقولهم، وغاية عرفانهم، العلم الإجمالي بأنّ لهم موجِداً ربّاً منزّهاً عن الصفات الكونيّة، ولا يعلمون من الحقائق إلاّ لوازمها وخواصّها.
وأرباب التحقيق وأهل الطريق، علموا ذلك مجملاً، وشاهَدوا تجلّياته وظهوراته مفصّلاً، فاهتدوا بنوره، وسروا في الحقائق سريان تجلّيه فيها: وكشفوا عنها وخواصّها ولوازمها كشفاً لا تمازجه شبهة، وعلموا الحقائق علماً لا تطرء عليه ريبة، فهم عباد الرحمن الذين يمشون في أرض الحقائق هوناً، وأرباب النظر عبّاد عقولهم لا يقبلون إلاّ ما أعطته عقولهم.
وكذا الوهْم، يدّعي السلطنة ويكذب العقل في كلّ ما هو خارج عن طور إدراكه للمعاني الجزئيّة دون الكلّية، وكذا غيرهما من المدارك الجزئيّة، وكذا القوى التحريكيّة - كالشهوة والغضب عند هيجانهما وتغاليبهما -.
وأمّا القلب المنوّر بنور المحبّة والعشق، فهو الذي يدرك بحقيقته كلّ شيء بأمر ربّها لا يرى فيها عوجاً ولا أمتاً، وذلك لكون حقيقته متّصفة بجميع الكمالات، جامعة لحقائقها الموجودة قبل وجوده، حتّى كان يمرّ عند تنزّلاته عليها، فيتّصف بمعانيها طوراً بعد طور من أطوار الروحانيّات والسماويّات والعنصريّات. إلى أن يظهر في صورته النوعيّة الحسّية النازلة عليه من الحضرات الأسمائيّة، ما لا بدّ أن يمرّ على هذه الوسائط أيضاً، إلى أن يصل إليه ويكمله.
وذلك المرور لتهيئته استعداده بأطوار الملكات للكمالات اللائقة، ولاجتماع ما فصل من المقام الجمعيّ الإلهي من الحقائق والخصائص التفصيليّة الواقعة في مقام التفرقة الكونيّة، وللاشهاد والاطّلاع على ما أريد أن يكون خليفة عليه، ولهذا لا يجعل خليفة إلاّ عند انتهاء السفر الثالث، ولولا هذا المرور لما أمكن العروج للكمّل، إذ الخاتمة مضاهية للسابقة وبه تتمّ الحركة المعنويّة.
وما يقال: "إن علم الأولياء والأنبياء عليه السلام تَذَكُّري لا تَفَكُّري". وقوله (صلى الله عليه وآله):
"الحكمة ضالّة المؤمن" ، إشارة إلى هذا المعنى، لا إلى أنّه وجد في النشأة العنصريّة مرّة أخرى، ثمّ عرَض له النسيان بواسطة التعلّق بنطفة أخرى، ومرور الزمان عليه إلى أوان تذكّره - كما على رأي التناسخيّة - فهو مفسوخ الصحّة بالبرهان العرشي.
فصل
[لا شيء أفضل من العلم]
وهذه الآية من أدلّ الدلائل على فضيلة العلم، وعِظم شأن حامله، فإنّه تعالى ما أظهر كمال حكمته في خلقة آدم، وجعله خليفة في الأرض أولاً، ومسجوداً للملائكة في السماءِ، إلاّ بأن أظهر علمه بالأسماء، فلو كان شيء أشرف من العلم، لكان من الواجب اظهار فضله بذلك الشيء - لا بالعلم -.
فاعلم أنّه يدلّ على فضيلة العلم دلائل من العقل والكتاب والسنّة.
أمّا العقل: فاعلم أنّ العلم عبارة عن صورة الشيء المجرّدة عن مادّته، وكلّ صورة مجرّدة عن الموادّ فهي موجودة بوجود عقلي، وكلّ موجود عقلي، فهو إمّا معقول لذاته - فيكون عاقلاً وعقلاً لذاته -، فلا يصحبه شرٌّ وآفة وعدمٌ وزوال؛ لأنّ الشرور والآفات والأعدام، من لوازم الموادّ والأجسام والجسمانيات، فيكون كمالاً لذاته، وسعادة لنفسه، لا توجد مثل تلك السعادة فيما لم تكن صورته مجرّدة عن المادّة وعلائقها.
وإمّا أن يكون معقولاً لغيره، بأن يكون وجوده العقلي حاصلاً لذلك الغير، فيكون ذلك الغير من الموجودات المجرّدة عن الموادّ، لاستحالة أن تكون الصورة المجرّدة حاصلة لما ليس بمجرّد، إذ كلّ صورة ماديّة يصحبها مقدار خاصٌّ ووضع خاصّ وشكل خاصّ، وهيئات جسمانيّة مانعة عن احتمال كونها معقولاً كليّاً صادقاً على كثيرين، وقد علمت أنّ كلّ مجرّد عن الموادّ وعالَم الأضداد، فهو سعيد، غاية السعادة الممكنة في حقّه.
طريق آخر:
إنّ السعادة على ضربين: بدنيّة وعقليّة. والبدنيّة ما تدرك بالمشاعر الجسمانيّة كالسمع للمسموعات، والبصَر للمبصرات، والذوق للمذوقات، والخيال للمتخيّلات والعقليّة ما تدرك بالقوّة العاقلة، كادراك العقل للمفارقات كذات الباري وصفاته وأسمائه وملائكته العلويّة. والحكماء الإلٰهيّون والأولياء الربّانيّون، رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في اصابة اللذّات والخيرات البدنية الدنيويّة أو الأخرويّة بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك، وإن أعطوها على وجه الدوام والاستمرار - كما في الآخرة - ولا يستعظمونها في جنبة هذه السعادة التي هي إدراك الصور العقليّة المفارقة الذوات عن المحسوسات وما يليها.
وبيان ذلك بالتفصيل، أنّه يجب أن يعلم أنّ لكل قوة من قوى النفس الإنسانية لذّة وخيراً يخصّها، وأدى وشرّاً يخصّها. مثاله: أن لذّة الشهوة وخيرها أن تتأدّى إليها كيفية محسوسة ملائمة من المدركات الخمسة المشهورة، ولذّة الغضب الظفر بالإنتقام، ولذّة الوهم الرجاء، ولذّة الحافظة تذكّر الأمور الموافقة الماضية. وأذى كلّ واحدة منها ما يضادّه.
وتشترك كلها - نوعا من الشركة -، في أنّ الشعور بموافقتها وملائمتها هو الخير واللذّة الخاصّة بها، وموافق كل منها هو وجود الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل؛ والإنسان جامع لجميع هذه القوى والغرائز، فلكلّ قوة وغريزة منه لذّة وألَم بإزائها، ولذّتها في نيلها بمقتضى طبعها الذي خلقت له، وهي سعادتها، فإنّ هذه الغرائز ما ركزت في الإنسان عبثاً ولا هزلاً.
ثمّ إن هذه القوى، وإن اشتركت في هذه المعاني، إلاّ إنّ مراتبها في الحقيقة مختلفةٌ، ودرجاتها متفاوتةٌ. فالذي كماله أفضل وأتمّ، والذي كماله أكثر وأدوم، والذي كماله أوصل وأحصل له، والذي هو في نفسه أكمل فعلاً وأفضل، والذي هو في نفسه أشدّ إدراكاً: فاللذّة والسعادة اللتان له أبلَغ وأشدّ، وأوفر وآكد.
فإذا تقرّر هذا فنقول: وكذلك للإنسان غريزة تسمّى بالنور الإلهي في قوله:
{ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [الزمر:22]. وتسمّى بالقوّة العاقلة، والبصيرة الباطنة. وهي تدرك المعاني التي ليست متخيّلة ولا محسوسة، كادراكها حدوث العالَم وافتقاره إلى مدبّر حكيم موصوف بصفات الإلهيّة، فاعل للحقائق الأسمائيّة، وخلقت لأن تدرك حقائق الأشياء.
وكمالُها الخاصّ بها، الذي به سعادتها الأصليّة، التي هي فوق سعادة قواها وغرائزها الحسيّة والخياليّة والوهميّة، هو أن تصير في ذاتها عالَماً عقلياً موجوداً فيه صور الكلّ، والنظام المعقول في الكلّ، والخير الفائض في الكلّ، مبتدءة من مبدء الكلّ، وسالكةٌ إلى الجواهر الشريفة الروحانيّة المطلقة، ثمّ النفسانيّة المتعلّقة، ثمّ الأجسام العلويّة بقواها وهيئاتها، ثمّ كذلك حتّى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كلّه، فتنقلب عبداً مطيعاً لله، متقرّباً إليه، مشاهِداً لما هو الحسن المطلق، والخير المطلق، والجمال الحقّ المطلق، ومتّحدة به، ومنتقشة بمثاله وهيئته، ومنخرطة في سلكه وصائرة [إليه] وبذلك فليعمَل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ويفتخر المفتخرون، ويباهي المباهون، لأنّه إذا قيس هذا بالكمالات المعشوقة التي للقوى الأُخرى، ولمَن في طبقتها من الأشخاص، وجد هذا بالمرتبة التي يقبح معها أن يقال: "إنّه أفضل وأتمّ منها"؛ بل لا نسبة لها إليه بوجه من الوجوه تماماً، وفضيلة، وكثرة، وسائر ما يتمّ به الذاذ سائر المدركات واسعادها.
أمّا الدوام، فكيف يقاس دوام الأبدي بدوام المتغيّر الفاسد؟ وأمّا شدّة الوصول، فكيف يكون حال ما وصوله بملاقاة السطوح، بالقياس إلى ما هو سار في جوهر قابله حتى يكون كأنّه هو بلا انفصال؟ إذ العقل والعاقل والمعقول شيء واحد - كما هو عند التحقيق - أو قريب من الواحد كما عليه الجمهور.
وأما أن المدرك في نفسه أكمل، فأمرٌ لا يخفى. وأما أنّه أشدّ إدراكاً، فأمر أيضاً تعرفه بأدنى تذكّر منك لما مضى بيانه، فإنّ البصيرة الإنسانيّة أكثر عدد مدركات وأشد استقصاء للمدرك، وأشدّ تجريداً له عن الزوائد الغير الداخلة في معناه إلاّ بالعرض؛ ولها أيضاً الخوض في باطن المدرك وظاهره ولبّه وقشره.
بل كيف يقاس هذا الإدراك العلمي بذلك الإدراك الحسّي، أو تقاس هذه السعادة العقليّة بتلك اللذّة الحسّية والبهيمية والغضبيّة؟
بل لا يخفى أنّ في العلم والمعرفة لذّة لا تكافيها لذّة، ونحن في عالَمنا وبدننا هذين، ولانغمارنا في بعض الرذائل، لا نحسّ بتلك اللذّة ولا نحنُّ إليها؛ لكنّا لو خلَعنا ربقة الشهوة والغضب واخواتهما عن أعناقنا، نفضنا آثارها عن أذيالنا، وطالَعنا شيئاً من تلك اللذّة فحينئذ ربما تخيّلنا خيالاً طفيفاً ضعيفاً - وخصوصاً عند انحلال المشكلات، وإزالة الشبهات، واستيضاح المطلوبات النفسية - من تلك السعاة التي كلامنا فيها، ومع ذلك نجد منها لذة نستحقر بها سائر اللذات.
وممّا يوضح أن اللذّات العقليّة، والكمالات العلميّة، أعظم وأقوى، أنّ كلّ قوّة باطنة فبقدْر بطونها ألذّ كمالاً وأقوى بهجة من كلّ قوّة ظاهريّة، حتى أنّ العالَم بالشطرنج - على خسّته - لا يطيق السكوت عن التعليم، وينطلق لسانه بذكر ما يعلمه.
وأنت تعلم أنّك إذا تأمّلت عويصاً يهمّك، وعرضَت عليك شهوة وخُيّرت بين الظفرين، استخففت بالشهوة إن كنت عالي النفس كريم الهمّة، والأنفس العاميّة أيضاً فإنّها تترك الشهوات المعترضة، وتؤثر الغرامات والآلام الفادحة بسبب افتضاح أو خجل أو تعبير أو سوء مقالة، ولو خيّر الرجل بين لذّة الهريسة والدجاج المسمّنة واللوذينج، وبين لذّة الرياسة والحكومة وقهر الأعداء ونيل درجة الاستيلاء، فإن كان المخيَّر خسيس الهمّة، ميّت القلب، شديد البهيميّة، اختار الهريسة والحلاوة؛ وإن كان عالي الهمّة، كامل العقل، اختار الرياسة، وهان عليه الجوع والصبر عن ضرورة القوت أيّاماً كثيرة.
نعم؛ الناقص الذي لم تكمل معانيه الباطنيّة كالصبي، أو الذي ماتت قواه الباطنيّة كالمجنون والمعتوه، لا يبعد أن يؤثر لذّة المطعومات على لذّة الرياسة والكرامة.
وبهذا يتبيّن أنّ العلم بالله وأسمائه وملائكته وكتبه ورسله وتدبيره من منتهى عرشه إلى تخوم الأرضين، أقوى اللذّات والسعادات، وأعلى الابتهاجات على مَن جاوز نقصان الفطرة والصبا، وقصور الخليقة. وأنّ لذّة مطالعة جمال الحضرة الإلهية، والنظر إلى أسرار الأمور الربّانيّة، ألذّ من كلّ حكومة ورياسة، ومن كلّ شهوة وانتقام.
ولا يمكن فهم هذه اللذّة لغير الحكماء الراسخين؛ وغاية العبارة عنها أن يقال كما قال الله [تعالى]:
{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة:17]. "وانه أعد لهم ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر".
وهذا ممّا لا يعرفه الآن إلاّ من ذاقَ اللذّتين جميعاً - أي لذّة الرياسة - وهي فوق اللذّات الحيوانيّة، ولذّة المعرفة الإلهيّة. فإنّه لا محالة يؤثر التبتّل والتفرّد، والفكر والذكر، وينغمس في بحار المعرفة؛ ويترك الرياسة، ويستحقر الخلْق الذين يرأسهم، لعلمه بفناء رياسته وفناء من عليه رياسته؛ وكونه مشوباً بالكدورات التي لا يتصوّر الخلوّ عنها، وكونه مقطوعاً بالموت الذي لا بدّ من إثباته مهما أخذت زخرفها وازّيَّنت وظن أهلها أنَّهم قادرون عليها.
فتشغله لذّة معرفة الله تعالى، ومطالعة صفاته وأفعاله، ونظام مملكته من أعلى عليّين إلى أسفل سافلين، فإنّها خالية عن المتزاحمات والمكدّرات، متّسعة للمتواردين عليها لا تضيق عنهم بكثرتها، وإنّما عَرْضُها من حيث التقدير السماوات والأرضون.
وإذا خرج النظر عن المحدودات والمقدورات، فلا نهاية لعرْضها، فلا يزال العارف الربّاني بمطالعة معلوماته في جنّةٍ عرْضُها السموات والأرض؛ يرتع في رياضها ويقطف من ثمارها، وهو آمن من انقطاعها، إذ ثمار هذه الجنَّة غير مقطوعة ولا ممنوعة، ثمّ هي أبديّة سرمديّة لا يقطعها الموت، إذ الموت لا يهدم محلّ معرفة الله، لأنّ محلّها الروح الذي هو أمرٌ ربّاني وسرٌّ أسمائي ونورٌ إلهي، إنّما الموت يغيِّر أحوالها، ويقطع شواغلها وعوائقها، ويخلّيها ودارها ومنزلها ومعادها، وأمّا أن يعدمها فلا.
{ { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } [آل عمران:169 - 170] الآية.
ولا تظننّ أنّ هذا مخصوصٌ بالمقتول في المعركة، فإنّ للعارف بكلّ نَفَس درجةَ ألف شهيد، وفي الخبر:
"إنّ الشهيد يتمنّى في الآخرة أن يرد إلى الدنيا ليقتل مرّة أُخرى لعظم ما يراه من ثواب الشهادة، وإنّ الشهداء يتمنّون أن يكونوا علماء لما يرون من علوّ درجة العلماء" .
فإذاً جميع أقطار ملكوت السموات والأرض ميدان العارف، يتبوّء منها حيث يشاء، من غير حاجة إلى أن يتحرك اليها بجسمه وشخصه، فهو من ملاحظة جمال الملكوت في جنّةٍ عرضها السموات والأرض، وكلّ عارف فله مثلها من غير أن يضيق بعضهم على بعضٍ أصلاً، إلا أنهم يتفاوتون في سعة متنزّهاتهم بقدر تفاوتهم في اتّساع نظرهم وسعة معارفهم: { { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ ٱللَّهِ } [آل عمران:163].............................. ولا يدخل في الحصر تفاوت درجاتهم ومقاماتهم.
وقد ظهر أن لذة وهي باطنة أقوى في ذوي الكمال من لذات الحواسّ كلّها، وأن هذه اللذّة لا تكون لبهيمة ولا صبيّ ولا معتوه، وأنّ لذّة المحسوسات والشهوات تكون لذوي الكمال مع لذّة الرياسة، ولكن يؤثرون الرياسة.
فأمّا كون معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله وملكوت سمٰواته، وأسرار ملكه، أعظم لذّة من الرياسة، فهذا يختصّ بمعرفته من نال رتب المعرفة وذاقَها، ولا يمكن اثبات ذلك عند من لا قلب له، لأنّ القلب معدن هذه القوّة؛ كما أنّه لا يمكن إثبات رجحان لذة الوقاع على لذّة اللعب بالصولجان عند الصبيان، ولا رجحانه على لذّة شمّ البنفسج عند المزكوم، لأنّه فاقد الصفة التي تدرَك بها هذه اللذّات، ولكن من سلم من آفة العُنَّةِ، وسلمت حاسّة شمّه، أدرك التفاوت بين اللذّتين، وعند هذا لا ينبغي إلاّ أن يقال: "مَنْ ذاقَ عرفَ".
ولعمري إن طلاّب العلوم - وإن لم يشتغلوا بطلب معرفة العلوم الإلهيّة - فقد استنشقوا رائحة هذه اللذّة عند انكشاف المشكلات، وانحلال الشبهات التي قوي حرصهم على طلبها، فإنّها أيضاً معارفٌ وعلومٌ، وإن كانت معلوماتها غير شريفة شرف المعلومات الإلهيّة، فأمّا من طال فكره في معرفة الله سبحانه، وقد انكشف له من أسرار ملك الله - ولو الشيء اليسير -، فإنّه يصادف في قلبه - عند حصول الكشف - من الفرح ما يكاد يطير به ويتعجّب من نفسه في ثباته واحتماله لقوّة فرحه وسروه - وهذا ممّا لا يدرك إلاّ بالذوق -.
فهذا القدر ينبّهك على أن معرفة الله ألذّ الأشياء وأعظم السعادات، لا سعادة فوقها، وأن لا شقاوة ولا نقصان فوق شقاوة الجهل ونقصانه - سيّما إذا كان مشفوعاً بالاستكبار والافتخار -.
تنبيهاتٌ عقليّةٌ
واعلم أنّ كون العلم صفة شرف وكمال، وكون [الجهل] صفة نقصان، أمر معلومٌ للعقلاء بالضرورة، ومما يدل على فضيلة العلم، أنّه إذا سُئل الواحد منّا عن مسألة علميّة قد علمها، وقدر على الجواب الصواب فرح بذلك وابتهج به، وإن جهلها نكس رأسه حياء من ذلك، وهذا أمرٌ فطري.
وذلك يدل على أنّ اللذّة الحاصلة بالعلْم، أكمل اللذّات، والشقاوة الحاصلة بالجهل، أشنع أنواع الشقاء.
وأيضاً، لو قيل للرجل العالِم: "يا جاهِل"، فإنّه يتأذّى بذلك، وإن كان يعلم كذب ذلك. ولو قيل للرجل الجاهل: "يا عالِم"، فرح بذلك، مع علْمه بكذب ذلك.
وأيضاً، فالعلْم أينما وُجد، كان صاحبه معظّماً محترماً، حتّى أن الحيوان إذا رأى الإنسان، احتشمه بعض الإحتشام، وانزجر به بعض الانزجار، وإن كان ذلك الحيوان أقوى بكثير من الإنسان.
والعلماء إذا لم يعاندوا كانوا رؤساء بالطبع على من دونهم بالعلْم، وإنّ كثيراً ممّا كانوا يعاندون رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويريدون قتله، كانوا إذا وقع بصرهم عليه، ألقى الله في قلوبهم الرعب، فهابوه وانقادوا له - شعر -:

لو لم يكن فيه آياتٌ مبيّنة كانت بداهته تغنيك عن خبر

وما فضل الإنسان على سائر الحيوان إلاّ لاختصاصه بالمزيّة النورانيّة واللطيفة الربّانيّة، التي لأجلها صار مستعدّاً لإدراك حقائق الأشياء، والاشتغال بعبادة الله تعالى.
والجاهل، كأنّه في ظلمة شديدة إذا أخرج يده لم يكد يراها، والعالم كأنّه يطير في أقطار الملكوت، ويسبح في بحار المعقولات، فيطالع الموجود والمعدوم، والواجب والممكن والمحال. ثمّ يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرَض، والجوهر إلى البسيط والمركّب؛ ويبالغ في تقسيم كلّ منها إلى أنواعها، وأنواع أنواعها، وأجزائها، وأجزاء أجزائها، والجزء الذي به يشارك غيره، والجزء الذي به يمتاز عن غيره ويعرف أثر كل شيء ومؤثّره، ومعلوله وعلّته؛ ولازمه وملزومه، وكليّه وجزئيّه، فيصير كالنسخة الشريفة التي فيها صور المعلومات بتفاصيلها، وكالصحيفة المنشورة، وكالكتاب المبين الذي فيه آيات مبيّنات من أسرار الملكوت، وإنّ الجوهر العاقل منه في عالم الأرواح، كالشمس في عالم الأجسام، لكونه كاملاً ومكملاً، وواسطة بين الله وبين عباده.
توضيحٌ برهانيٌّ
[شرف العلم وتأثّر النفوس من العقل الفعّال]
لو أردت أن تسمع كلاماً في بيان أن نسبة الجوهر العاقل من الإنسان إذا خرج من القوّة إلى الفعل، كانت نسبته إلى المعاني العقليّة والمفهومات الكليّة في عالَم الأرواح، كنسبة هذه الشمس المحسوسة إلى الأنوار العرَضيَّة والأضواء الشمسيَّة في عالَم الأجسام - فاسمع:
إنّ الإنسان في أول نشأته يكون عقلاً بالقوّة، ومعقولاً بالقوة، وإن كان حيواناً محسوساً بالفعل، لكونه آخر المعاني الجسمانيّة وأول المعاني الروحانيّة، كبرزخ متوسّط بين العالَمين، وسور واقع بين الدارين
{ { لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } [الحديد:13].
فأول ما يحدث في قوّة نفسه الحسّاسة، رسوم المحسوسات من القوى الحاسّة التي هي روازن، ثم تجتمع المحسوسات المختلفة الأجناس، المدركة بأنواع الحواسّ الخمسة، ويحدث عن المحسوسات الحاصلة في القوّة الحاسّة الرئيسية، رسول المتخيّلات في قوّة نفسه المتخيّلة.
فتبقى هنالك محفوظة بعد غيبتها عن مباشرة الحواسّ لتجردها عن المادّة ضرباً من التجرّد، فيحكم فيها بالجمع والتفريق، والتركيب والتفصيل، فيفرد بعضها عن بعض، ويركّب بعضها إلى بعض، فيحلّل الأشخاص إلى الأنواع، والأنواع إلى الأجناس، والأجناس إلى أجناس الأجناس، وكذا يستخرج بالتحليل فصولها القريبة والبعيدة.
ثمّ تركّب الأجناس بالفصول، وتحصل الأنواع، وأنواع الأنواع، كلّ ذلك بحسب صورتها الجزئيّة المثاليّة.
ثمّ ينتبه بواسطة قوّة النفس الناطقة للعقليّات والكليّات، فترتسم في هذه القوة صوَر المعقولات التي هي في جواهرها عقولٌ بالفعل، ومعقولات بالفعل، وهي الأشياء البريئة من المادّة، ومنها صور المعقولات التي هي ليست بجواهرها معقولة بالفعل - مثل الحجارة والشجر والفرس -، وبالجملة ما هو جسم، أو صورة في جسم ذي مادّة، والمادّة نفسها، وكلّ شيء قوامه بها؛ فإنّ هذه ليست عقولاً بالفعل، ولا معقولات بالفعل، ولا القوّة النفسانية التي في الإنسان في أول حاله عقلٌ ولا معقول ولا عاقل بالفعل؛ وإنّما تصير عقلاً بالفعل إذا حصلت فيها المعقولات.
فهي محتاجة كالمعقولات بالقوّة إلى شيء آخر ينقلها من حدّ القوّة إلى أن يصيِّرها إلى الفعل، والفاعل [الذي] يجعلُها بالفعل، هو جوهرٌ عقليٌّ بالفعل دائماً، غير محتاج إلى شيء آخر يصيّرها بالفعل، وإلاّ لعاد الكلام ويتسلسل.
وذلك العقل يعطي العقلَ الهيولاني - الذي هو بالقوّة عقلٌ -، شيئاً مّا، بمنزلة الضوء الذي يعطيه الشمس البصر، لأنّ منزلته من العقل الهيولاني منزلة الشمس من البصَر، وإن البصر هو قوّة وهيئة ما في مادة، وهو من قبل أن يبصر مبصِرة ومريئة بالقوّة، وليس في جوهرها كفاية في أن تصير مبصِرة بالفعل، وإذا أعطت الشمس ايّاها ضوءاً تقبله، وأعطت الألوان ضوءاً تقبله بها، فيصير البصر بالضوء الذي استفاده من الشمس مبصِراً بالفعل، وتصير الألوان بذلك الضوء مبصَرةً مرئيَّة بالفعل - بعد أن كانت مبصَرة مرئيَّة بالقوّة -.
كذلك هذا العقل الذي يفيد العقل الهيولاني شيئاً ما يرسمه فيه، منزلة ذلك الشيء منه منزلة الضوء من البصَر، وكما أن البصَر يبصر الضوءَ نفسه متّصلاً به، ويدرك الشمس التي هي سبب الضوء فيه متّصلاً بها كأنّه هي، ويبصر بالفعل الأشياء التي كانت مبصرة بالقوّة متّصلاً بها؛ فكذلك العقل الهيولاني، إذا استفادت العقل بالفعل وصارت مصوّرة بها، منوّرة بنور ربها، يعقل نفس ذلك النور العقلي، وبه يعقل العقل بالفعل، الذي به تصير الأشياء المعقولة بالقوّة بالفعل متّصلة به صائرة إيّاه.
فنسبته إلى المعقولات، نسبة الشمس إلى المبصَرات؛ وفعْله في عقلنا المنفعِل، فعل الشمس في القوّة الباصرة، فلذلك سمّي عند الأوائل من الحكماء بالعقل الفعّال، وحصوله للإنسان، هو السعادة التي بها يصير الإنسان من الكمال الوجودي إلى حيث تكون منزلته منزلة الملائكة المقرَّبين، الذين هم الصفّ الأعلى من الملكوت.
وذلك أن يصير في جملة الأشياء البريئة عن الموادّ والأجسام، وعن إضافاتها وتعلّقاتها الإنفعاليّة، في سعادة لا انقطاع، لها ولا تجدّد يعتريها، ومثل هذه النفس الصائرة عقلاً بالفعل، كانت مَلَكاً بالقوّة، فصارت مَلَكاً بالفعل، وإليه أُشير في قوله تعالى:
{ { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ } [النحل:2]. وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } [المجادلة:22].
وكما أنّ البدن بلا روح، ميّت فاسدٌ، فكذلك الروح بلا علم، هالكٌ معذَّب، ونظيره قوله تعالى:
{ { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى:52]. فالعلم روح الروح، ونور النور، ولبّ اللبّ.
ثمّ إنّ الذي يدركه العالِم ويشاهده من التصوّرات الكلّية، من خواصّها أن تكون بالله آمنة من التغير والفناء، لا يتطرّق إليها الزوال والفساد، لكونها غير متغيّرة في أنفسها، ولا واقعة في عالَم التجدّد - إلاّ بالعرض -، فإذا كانت صفات العالم غير متغيّرة، فذاته أَوْلىٰ باستحالة الدثور والفساد، وإنّما يجوز له الفناء إلى البقاء الذي يستهلك فيه كلّ شيء، ويعود إليه حياة كلّ حيٍّ، ويبطل في نوره كلّ ظلٍّ وفيء.
وأيضاً فالأنبياء - صلوات الله عليهم - ما بُعثوا إلاّ للدعوة إلى الحقّ ومعرفته، قال الله تعالى:
{ { ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ } [النحل:125] الآية. وقال: { { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي } [يوسف:108].
ثمّ انظر وخذ من أول الأنبياء عليهم السلام، فإنّه تعالى لما قال:
{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة:30] فلمّا قالت الملائكة: { { أَتَجْعَلُ فِيهَا } [البقرة:30]، قال تعالى: { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة:30]، فأجابهم بكونه عالماً؛ فلم يجعل سائر الصفات جواباً لهم وموجِباً لسكوتهم؛ وذلك يدلّ على أن سائر الصفات - كالقدرة وأمثالها -، وإن كانت بأسرها في نهاية الشرف، إلاّ أن صفة العلم أشرف من غيره.
ثمّ إنّه تعالى لما أظهَر علمه، جعل مسجوداً للملائكة، وخليفة للعالم السفلي، وذلك يدلّ على أن تلك المنقبة إنّما استحقّها آدم عليه السلام بالعلم.
ثمّ إنّ الملائكة افتخرتْ بالتسبيح والتقديس، فأظهر الله تعالى علْم آدم بالأسماء، في مقابلة تسبيحهم وتقديسهم، مع أن التسبيح والتقديس أيضاً من بركات العلم، وإلاّ لكان إمّا نفاقاً - والنفاق من أخسّ المراتب لقوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ } [النساء:145]. - أو تقليداً - وهو مذمومٌ لا يوجب الافتخار -.
فثبَت أن فضيلة آدم عليهم، إنّما كانت بعلمه بسائر الأشياء الكليّة والجزئيّة التي لم يكن من شأنهم الإحاطة بها جميعاً، لانحصارهم في مقام واحد معلوم.
ثمّ انظر إلى إبراهيم - على نبيّنا وآله عليه والسلام -، كيف اشتغل في أول أمره بطلب العلم، منتقلاً بفكره من ملاحظة أحوال السماويّات، والانتقال من بعضها إلى بعض، حتى انتقل من الأنوار الكوكبيّة الحسيّة إلى النفسيّة القمريّة، ومنها إلى الأضواء العقليّة الشمسيّة، إلى أن وصل بالدليل الباهر والبرهان النيّر الزاهر إلى المقصود الأصلي، والدين الحنيفي، وأعرض عن الشرك لقوله:
{ { وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [الأنعام:79].
ثمّ إنه (ع) بعد الفراغ من معرفة المبدء، اشتغل بمعرفة المعاد، كما قال تعالى:
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } [البقرة:260].
ثم لمّا فرَغ من العلم، اشتغل بالمحاجّة والتعليم: تارةً مع أبيه:
{ { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [مريم:42]. وتارةً مع قومه: { مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيۤ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [الأنبياء:52]. وأُخرى مع ملك زمانه: { { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ } [البقرة:258] الآية. وقوله: { { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ } [الأنبياء:67]. وتارة كان مع الله فانياً عمّا سواه: { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء:77].
ثمّ انظر إلى أحوال موسى علسه السلام مع فرعون، ووجوه دلائله وحججه عليه، وقد مرّ أنّ طريقته طريقة الخليل في المقامات العلميّة.
ثمّ انظر إلى عيسى عليه السلام في قوله:
{ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } [البقرة:260]، وكان مقصوده العلْم بأحوال المعاد، بعد أن حصَل له العلم بأحوال المبدء.
ثمّ انظر إلى نبيّنا (صلى الله عليه وآله)، كيف منّ الله عليه بالعلم مرّة بعد أخرى في قوله:
{ وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [الضحى:7]. وقوله: { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ } [الشورى:52]. وقوله: { { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ } [هود:49]. وقوله: { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [النساء:113]. وهو - صلوات الله عليه - كان أبداً يقول: "رَبِّ أرِني الأشياء كما هي".
فلو لم يظهر للإنسان بهذه الأمور التي ذكرناها شرف العلْم وفضله، لاستحال أن يظهر له شيء بشيء أصلاً - وستأتيك زيادةٌ في الاستبصار -.
فصل
في الشواهد القرآنيّة على أن رتبة العلم ومنزلة العلماء كانت عظيمة عند الأنبياء - سلام الله عليهم أجمعين -
أما محمد (صلى الله عليه وآله)، فقد قال الله تأديباً وتعظيماً له:
{ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [طه:114]. وفيه أدلّ دليلٍ على عظيم رتبة العلْم ونفاسته، وعلوّ منزلته وكرامته، وفرط محبّة الله إيّاه، حيث أمر حبيبه (صلى الله عليه وآله) بالازدياد منه خاصّة دون غيره. وقال تعالى امتناناً عليه وتكريماً له: { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [النساء:113].
وأمّا كليم الله: فقد قال بعض المفسّرين: "لو اكتفى أحدٌ من العلم وساغَ له القنوع منه، لاكتفى موسى عليه السلام ولم يقل للخضر عليه السلام:
{ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } [الكهف:66].
وأمّا داود: فلمّا ذكر من حاله مع أحوال الأنبياء عليهم السلام، قدّم العلم أول الأقوال، حيث قال:
{ { دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ } [الأنبياء:78] إلى قوله: { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } [الأنبياء:79]. ثمّ إنّه ذكر بعد ذلك ما يتعلّق بأحوال [الدنيا]، فدل على أن شرف العلم أشرف.
وأمّا سليمان عليه السلام: فكان له من ملك الدنيا ما كان، حتى أنّه قال:
{ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } [ص:35]. ثمّ إنّه لم يفتخر بالمملكة، وافتخر بالعلم حين قال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } [النمل:16]. فافتخر بكونه عالِماً بمنطِق الطيْر، فإذا حسُن من سليمان الافتخار بذلك، فبأن يحسن بالمؤمن أن يفتخر بمعرفة ربّ العالمين وصفاته وأسمائه، وكيفيّة أفعاله وملكوت سماواته، وكتبه ورسله، والايمان بيوم القيامة وحشْر الخلائق إليه، ومعاد الكلّ ورجوع الجميع إليه، كان أحسن.
ولأنّه قدّم ذلك على قوله:
{ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } [النمل: 16].
وقال بعضهم: الهدهد - مع انّه في نهاية الضعف، ومع انّه كان في موقف المعاتبة - قال
{ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } [النمل:22]. فلولا أنّ العلم أشرف الأشياء، وإلاّ فمن أيْن لمِثله أن يتكلّم في مجلس سليمان بمثل هذا الكلام؟! وما ذاك إلاّ ببركة العلْم.
وأيضاً، فإن سائر كتب الله المنزَلة على الأنبياء عليهم السلام ناطقة بفضل العلم.
أمّا التوراة فقال تعالى لموسى عليه السلام: (عظِّم الحكمة، فإنّي لا أجعل الحكمة في قلب عبدٍ إلا وأردت أن أغفر له، فتعلّمها، ثم اعمِل بها، ثم ابذلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة).
وأمّا الزبور، فقال تعالى: (قُلْ لأحبار بني اسرائيل ورهبانهم: حادِثوا من الناس الأتقياء، فإن لم تجدوا فيهم تقيّاً فحادِثوا العلماء، وإن لم تجدوا عالِماً فحادِثوا العقلاء، فإنّ التُقي والعلم والعقل ثلاث مراتب، ما جعلت واحدة منهنّ في أحد من خلْقي وأنا أريد هلاكه).
قال بعض العلماء: إنّما قدّم الله التُقى على العلم، لأنّ التُقىٰ لا يوجد بدون العلم، كما بيِّن في المفاتيح الغيبيّة من أنّ الخشية لا تحصل إلاّ مع العلم، والموصوف بالأمرين أشرف من الموصوف بأحدهما، ولهذا السرّ أيضاً قدّم العالِم على العاقِل، لأنّ العالِم لا بدّ وأن يكون عاقلاً - دون العكس -، والعقل كالبذر، والعلم كالشجرة، والتقى كالثمرة.
وأمّا الإنجيل: فقد قال تعالى في السورة السابعة عشرة: "ويلٌ لمن سمع بالعلم فلم يطلبه! كيف يُحشر مع الجهّال إلى النار! اطلبوا العلْم وتعلّموه، فإنّ العلم إنْ لم يسعدكم لم يشقكم، وإن لم يرفعكم لم يضَعكم، وإن لم يُغنكم لم يفقركم، وإن لم ينفعكم لم يضركم، ولا تقولوا: نخاف أن نعلم ولا نعمل. ولكن قولوا: نرجوا أن نعلم فنعمَل. فالعلم يشفع لصاحبه، وحقّ على الله أن لا يخزيه، إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة: يا معشر العلماء، ما ظنَّكم بربِّكم؟ فيقولون: ظنّنا بربّنا أن يغفر ويرحَمَنا.
فيقول: إنّي قد فعلت، إنّي أستودعتكم حكمتي لا لشرٍّ أردته بكم بل لخير أردته بكم، فادخلوا في صالح عبادي إلى جنّتي برحمتي.
وقال مقاتل بن سليمان: وجدت في الإنجيل أن الله تعالى قال لعيسى عليه السلام: عظِّم العلماء واعرف فضلهم، فإنّي فضَّلتهم على جميع خَلْقي إلاّ النبيّين والمرسلين، كفضل الشمس على الكواكب، وفضْل الآخرة على الدنيا، وكفضلي على كلِّ شيء.
قيل: "إنّ الله علَّم سبعة نفر سبعة أشياء:
أ - علَّم آدم عليه السلام أسماء الأشياء لقوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا }.
ب - علَّم الخضر عليه السلام علم الفراسة:
{ { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } [الكهف:65].
ج - علَّم يوسف عليه السلام علم التعبير:
{ { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } [يوسف:101].
د - علَّم داود عليه السلام صنعة الدرْع:
{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ } [الأنبياء:80].
هـ - علَّم سليمان عليه السلام منطق الطير:
{ وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ } [النمل:16].
و - علَّم عيسى عليه السلام علم التوراة:
{ وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } [آل عمران:48].
ز - علَّم سيّدنا محمّداً (صلى الله عليه وآله) علم الشرع والتوحيد:
{ { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [النساء:113]. { { وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [الجمعة:2]. { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } [الرحمن:1 - 2].
فعلم آدم، كان سبباً في حصول السجدة والتحيّة، وعلْم الخضر، كان سبباً لأن وجد تلميذاً مثل موسى ويوشع عليهما السلام، وعلم يوسف عليه السلام، كان سبباً لوجدان الأهل والمملكة، وعلم داود عليه السلام، كان سبباً لوجدان الرياسة والدرجة، وعلم سليمان عليه السلام، [كان سبباً] لوجدان بلقيس وتسخير الجنّ، وعلم عيسى عليه السلام، لزوال التهمة عن أمّه، وعلم محمد - صلوات الله عليه وآله - كان سبباً لحصول الشفاعة".
قال بعض العلماء: مَن عَلِم أسماء المخلوقات وجد التحيّة من الملائكة، فمَن عرف ذات الخالِق وصفاته وحقائق أفعاله أما يجد تحيّة الملائكة؟ بل تحيّة الربّ؟
{ { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [يس:58].
والخضر عليه السلام وجد بعلم الفراسة صحبة موسى عليه السلام، فأمُّة الحبيب - صلوات الله وسلامه عليه -، كيف لا يجدون بعلم الحقيقة صحبة محمد (صلى الله عليه وآله):
{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم } [النساء:69].
ويوسف عليه السلام بتأويل الرؤيا نجى من حبس الدنيا، فمن كان عالِماً بتأويل كتاب الله، كيف لا ينجو من حبس الشبهات:
{ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [البقرة:142].
وأيضاً: فإنّ يوسف عليه السلام ذكر منّة الله على نفسه حيث قال:
{ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } [يوسف:101]. فأنتَ يا عالِم، أما تذكر منّته على نفسك حيث علّمك تفسير كتابه، فأيّ نعمة أجلّ مما أعطاك الله حيث جعلك مفسّراً لكلامه المجيد، وسميّاً لنفسه، ووارثاً لنبيّه، وداعياً لخلقه وعباده، وسراجاً لأهل بلاده، وقائداً للخلق إلى جنّته وثوابه، ورادعاً لهم عن ناره وعقابه، كما جاء في الحديث: "العلماءُ ورثةُ الأنبياء" "العلماء سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة" - الحديث -.
وأيضاً؛ فإنّ الله تعالى سمّى العلم في كتابه الكريم بالأسماء الشريفة: فمنها الحياة:
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [الأنعام:122]، وثانيها الروح: { { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى:52]. وثالثها النور: { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [المائدة:15].
فصل
في الشواهد النبويّة من الأحاديث والأخبار على شرف العلم
فمن طريقة أصحابنا - رضوان الله عليهم - وجوهٌ:
عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ الله تعالى يقول:
"تذاكرُ العلْمِ بينَ عبادي مما تُحيى عليه القلوبُ الميتةُ إذا هم انتهَوا [فيه] إلى أمْري" .
وعن أبي الجارود قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: رحم الله عبداً أحٰيى العلم. - قال -: قلت: وما إحياؤه؟ قال أن يذاكر به أهل الدين وأهلَ الورعِ.
وعن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
"لا خيْر في العيشِ إلاّ لرجلين، عالمٌ مطاعٌ ومستمعٌ واعٍ" .
وعن أبي جعفر عليه السلام إنّه قال........................: "عالِمٌ ينتفع بعلمِه أفضَل من سبعينَ ألف عابِد"
وعن أبي عبدالله عليه السلام: "طلَبُ العلم فريضةٌ. ألا وإنّ الله يحبُّ بغاةَ العلم".
وعن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "إنّ الناس آلوا بعدَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى ثلاثة: آلوا إلى عالم لى هُدى من الله قد أغناه الله بما علم عن علم غيره. وجاهلٍ مدّعٍ للعلم لا علم له معجب بما عنده قد فتنته الدنيا وفتن غيرَه. ومتعلّمٍ من عالِمٍ على سبيل هدى من الله ونجاة. ثمّ هلكَ مَن ادّعى وخاب مَن افترى".
وعن أبي عبدالله عليه السلام، قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "إنّ من حقّ العالِم أن لا تُكثِرَ عليه السؤال، ولا تأخذَ بثوبِه، وإذا دخلتَ عليه وعنده قومٌ فسلِّم عليهم جميعاً، وخصّه بالتحيّة دونهم، واجلس بين يدَيه، ولا تجلس خلفَه، ولا تغمز بعينك، ولا تشِر بيدِك، ولا تكثِر من القول "قالَ فلانٌ، وقالَ فلانٌ" خلافاً لقوله، ولا تضجر بطول صحبته؛ فإنّما مثل العالِم مثَل النخلةِ، تنتظرها [حتى] يسقط عليكَ منها شيء. والعالِم أعظمُ أجراً من الصائمِ القائمِ الغازي في سبيل الله".
وعن الفضل بن أبي قرّة، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
"قال الحواريّون لعيسى عليه السلام: يا روح الله - مَن نُجالِس؟ قال: مَن يُذكّركم الله رؤيتُه، ويزيدُ في علمِكم منطقُه، ويرغّبكم في الآخِرة عملُه" .
منصور بن حازم، عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة" .
إلى غير ذلك من أحاديثهم عليهم السلام في فضيلة العلم، وقد ذكرنا شطراً منها في المفاتيح، واختصرنا هٰهنا على هذا القدر، فمن أراد المزيد فليراجع إلى كتب الكافي وغيره في هذا الباب.
وأما من طريقة غيرهم فوجوه:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
"يقول الله تعالى للعلماء: إنّي لم أضع علمي فيكُم وأنا أريد أن أعذّبكم، ادخلوا الجنّة على ما كان فيكم" .
قال ابن عباس: "خطَبَنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطبةً بليغةً قبل وفاته - وهي آخر خطبة بالمدينة خطبها -، فقال: مَنْ تعلَّم العلْم، وتواضَع في العلم، وعلّمه عباد الله - يريدُ ما عندَ الله - لم يكن في الجنّةِ أفضلُ ثواباً ولا أعظمُ منزلةً منه، ولم يكن في الجنّة منزلة ولا درجة رفيعة نفيسة، إلاّ كان فيها له أوفرُ النصيب وأشرف المنازل" .
وعنه (صلى الله عليه وآله): "إذا كان يوم القيامة، حفّت منابر من ذهب عليها قباب من فضّة مفضّضة بالدرّ والياقوت والزمرّد، خلالها السندس والاستبرق، ثمّ ينادي منادي الرحمٰن: أيْن من حمَل إلى أمّة محمد (صلى الله عليه وآله) علْماً يريد به وجه الله؟ اجلسوا على هذه المنابر لا خوف عليكم حتى تدخلوا الجنّة" .
وعن عيسى بن مريم عليهما السلام: "إنّ في أمّة محمد (صلى الله عليه وآله) علماء حكماء، كأنّهم في الفقه أنبياء، يَرضون من الله باليسير من الزرقِ، ويَرضى الله منهم باليسير من العمل، ويدخلون الجنّة بلا إله إلا الله".
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
"من اغبرّت له قدمان في طلب العلم، حرّم الله جسده على النار، واستغفر له ملكاه، وإن مات في طلبه مات شهيداً، وكان قبره روضة من رياض الجنة، ويوسَّع له في قبره مدَّ بصره، وينوّر على جيرانه؛ أربعين قبراً عن يمينه وأربعين عن يساره وأربعين من خلفه، وأربعين من أمامه. ونوم العالم عبادةٌ، ومذاكرته تسبيحٌ، ونفسُهُ صدقةٌ، وكلُّ قطرةٍ نزلت من عينَيه تُطفئُ بحراً من جهنم" .
فمن أهان العالَم فقد أهان العلْمَ، ومن أهان العلم فقد أهان النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن أهانَ النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقد أهانَ جبرئيل عليه السلام، ومن أهان جبرئيل عليه السلام فقد أهانَ الله تعالى، ومن أهان الله تعالى أهانَه يوم القيامة.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
"ألا أخبركم بأجود الأجواد؟ قالوا: نِعمْ - يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: الله تعالى أجودُ الأجواد، وأنا أجود ولد آدم، وأجودهم من بعدي رجلٌ عالمٌ ينشر علمه، فيُبْعَث يوم القيامة أمّة واحدة، ورجلٌ جاهَد في سبيل الله حتّى يُقتل" .
فصل
في ألفاظ دالّة على العلوم الحقيقية واشتبهت على الناس بغيرها
اعلم أنّه قد التبست العلوم الحقيقية المحمودة الشرعية بغيرها من جهة تحريف الأسامي المحمودة عن وضعها الأول، وتبديلها ونقلها بسبب الأغراض الفاسدة إلى معاني غير ما أراد بها الصدر الأول والسلف الصالح، وهي خمسة ألفاظ - كما ذكره صاحب إحياء العلوم وفصّل القول في كيفيّة تحريفاتها - الفقه والعلم، والتوحيد والتذكر، والحكمة - ونحن أيضاً نقتفي كلامه في هذا الفصل مع اختصار وتلخيص:
فـاللفظ الأول: الفِقْهُ: فقد تصرّفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل، إذ قد خصّصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوي، والوقوف على دقائق عللها، واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلّقة بها؛ فمن كان أشدّ تعمّقاً فيها وأكثر اشتغالاً بها فهو الأفقَه.
وهذا ضربٌ من التحريف. فلقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقاً على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفس، ومفسدات الأعمال، وقوّة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدّة التطلّع إلى نعيم الأبرار، واستيلاء الخوف على القلب، كما يدلّك عليه:
{ { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ } [التوبة:122].
وما به الإنذار والتخويف هو هذا العلم، دون تفريعات الطلاق واللعان والعتاق والسَلَم والإجارة، فذلك لا يحصل به إنذار وتخويف، بل التجرّد له على الدوام يقسي القلب، وينزع الخشية منه كما يشاهد من المتجرّدين له. وقال تعالى:
{ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } [الأعراف:179]. وأراد به معاني الآيات - دون الفتاوى -.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" لا يفقَهُ الرجُل كلّ الفِقْه، حتى يمقت الناس في ذات الله، وحتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرةً" .
وسئل الحسن البصري عن مسئلة فأجاب، فقال له السائل: "إن الفقهاء يخالفونك"، فقال الحسن: "ثكلتك أمك - وهل رأيتَ فقيهاً بعينك؟! إنّما الفقيه؛ الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بذنبه، المداوم [على] عبادة ربّه، الورع الكافّ عن أعراض الناس، العفيفُ عن أموالهم، الناصحُ لجماعتهم"، ولم يقل في جميع ذلك "الحافظُ لفروعِ الفتاوى".
اللفظ الثاني: العلْم: وقد كان مطلقاً على العلم بالله وبآياته وأفعاله في عباده وخلقه، وقد تصرّفوا فيه بالتخصيص حتى حوّلوه وشهروه في الأكثر لمن يشتغل بالمناظرة مع الخصوم في المسائل الخلافيّة وغيرها، فيعدّ من فحول العلماء، فيقال: "هو العالِم بالحقيقة، وهو الفحل فيه"، مع عَريه عن العلوم الحقيقية كلّها، وجهله بحقائق علْم القرآن وأسرار الآيات وتأويل الأحاديث، وصار ذلك شيئاً مهلِكاً لخلقٍ كثيرٍ من الطلبة.
اللفظ الثالث: التوحيد: وقد جُعل الآن عبارة عن صناعة الكلام، ومعرفة طرق المجادلة وفنون البحث، وكيفيّة مناقضات الخصوم، والقدرة على تكثير الأسئلة وإثارة الشبهات والإلزامات، حتّى لقّبت طوائف منهم بأهل العدل والتوحيد، وعلماء ذلك، مع أنّ جميع ما هو خاصّية هذه الصناعة، لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأول، بل كان يشتدّ النكير منهم على من يفتح أبواب الجدل والمماراة، وكان التوحيد عندهم عبارة عن معنى آخر لا يفهمه أكثر المتكلّمين، وهو أن يرى الأمور كلها من الله رؤيةً يقطع التفاته عن الوسائط والأسباب.
وهذا مقام شريف، إحدى ثمراته التوكّل والرضا والتسليم بحكم الله، وأن يعبده عبادة يفرده بها فلا يعبده غيره، ويخرج من هذا التوحيد أتباع الهوى، فكلّ متّبع هواه فقد اتّخذ معبوده هواه، قال الله تعالى:
{ { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية:23]. وقال (صلى الله عليه وآله): "أبغضُ إلهٍ عُبِد في الأرضِ عندَ اللهِ هو الهَوىٰ" .
وعلى التحقيق، من تأمّل عرف أن عابدَ الصنمِ ليس يعبد الصنمَ، إنّما يعبد هواه، إذ نفسه مائلةٌ إلى دين آبائه فيعبد ذلك الميل.
وبالجملة، فقد كان التوحيد عندهم عبارة عن ذلك المقام، وهو من مقامات الصدّيقين، فانظر إلى ماذا حُوَّل؟ وبأيّ قشر قنع الإنسان؟ وكيف اتّخذ هواه معتصماً في التمدّح والتفاخر بما اسمه محمودٌ، مع الإفلاس عن المعنى الذي يستحقّ به الحمد الحقيقي؟
اللفظ الرابع: الذكر والتذكير: وقد قال الله تعالى:
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الذاريات:55]. وقد ورد في مجالس الذكر أخبار كثيرة كقوله (صلى الله عليه وآله): "إنّ للهِ ملائكة سيّاحين في الهواء سوى ملائكة الخلْق، إذا رأوا مجالس الذكْر ينادي بعضهم بعضاً: هلمّوا إلى بغيتِكم. فيأتوهم ويحفّون بهم، ويستمعون. ألا - فاذكروا الله وذكّروا بأنفسكم" .
فنُقل ذلك إلى ما ترى أكثر الوعّاظ يواظبون عليه في هذا الزمان، وهو القصص والأشعار، والشطح، والطامات.
واللفظ الخامس: الحكمة: فإنّ اسم "الحكيم" صار يطلق على الطبيب والشاعر والمنجّم، حتى على الذي يدحرج القرعة على أكفّ السوادية في شوارع الطرق؛ والحكمة هي التي أثنى الله عليها فقال:
{ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [البقرة:269]. وقال (صلى الله عليه وآله): "كلمةٌ من الحكمةِ يتعلَّمها الرجُل خيرٌ له من الدنيا [وما فيها]" .
فانظر ما الذي كانت "الحكمة" عبارةً عنه، وإلى ماذا نُقل؟! وقسْ به بقيَّة الألفاظ، واحترِز به عن الاغترار بتلبيسات علماء السوء، فإنّ شرّهم على الدين أعظم من شرّ الشياطين، إذ الشياطين بوساطتهم تتذرّع إلى انتزاع الدين من قلوب الخلق، ولهذا "لمّا سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن شرّ الخلق أبى وقال: اللهم غفراً. حتى كرّر وقال: شرّهم علماء السوء" .
فقد عرفت العلم المحمود والمذموم، ومثار الإلتباس، وإليك الخيرَة في أن تنظر لنفسك فتقتدي بالسلَف، أو تتدلّى بحبل الغرور، وتتشبَّه بالخلَف، فكلّ ما ارتضاه السلَف من العلم فقد اندرَس، وما أكبّ عليه الجمهور فأكثره مبتدع، وقد صحّ قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء. فقيل: من الغرباء؟ فقال: الذين يصلحون ما أفسدَ الناسُ مِن سنّتي، والذين يحيون ما أماتوه من سنّتي" . وفي خبر آخر: "هم المتمسّكون بما أنتم عليه اليوم" . وفي حديث آخر: "الغُرباء ناسٌ قليلٌ صالحون، بين ناسٍ كثير" .
وقد صارت تلك العلوم غريبة بحيث يمقت ذكر اسمها، ولذلك قال: "إذا رأيتَ العالِمَ كثير الأصدقاء فاعلم أنه مخلّط، لأنّه إن نطق بالحق أبغضوه".
فصل
في العلم المحمود والعلم المذموم
قال صاحب الإحياء: "إنّ العلم بهذا الإعتبار ثلاثة أقسام: قسمٌ مذمومٌ قليله وكثيره، وقسمٌ محمودٌ كلّه، وكلّما كان أكثر فهو أفضل، وقسمٌ يحمد بقدر الحاجة ولا يحمد الفاضل عليه والاستقصاء فيه؛ وهو مثل أحوال البدن: فمنه ما يحمد قليله وكثيره كالصحة والجمال، ومنه ما يقابله كالقبح وسوء الخلق، ومنه ما يحمد الاقتصاد فيه كبذل المال، فإنّ التبذير فيه لا يحمد؛ وكالشجاعة، فإنّ التهور لا يحمد فيها وإن كان من جنس الشجاعة.
فكذلك العلم، فالقسم المذموم كلّه ما لا فائدة فيه في دين أو دنيا، كعلم السحر والطلسمات والنجوم، فبعضه لا فائدة فيه، وصرف العمر فيه اضاعة أنفس ما يملكه الإنسان، واضاعة النفائس مذمومٌ.
وأما القسم الممدوح إلى أقصى غاية الاستقصاء، هو العلم بالله وبصفاته وأفعاله، وجريان سنّته في خلقه، وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا. فإنّ هذا العلم علمٌ مطلوب لذاته، والتوسّل به إلى سعادة الآخرة، وبذل المقدور فيه إلى غاية الجهد، قصور عن حدّ الواجب، فإنّه البحر الذي لا يُدْرَكُ غوره، وإنّما يحوم الحائمون على سواحله وأطرافه بقدر ما يسّر لهم، وما خاض أطرافه إلا الأنبياء والأولياء الراسخون في العلم - على اختلاف درجاتهم - بحسب اختلاف قوّتهم، وتفاوت تقدير الله في حقّهم.
وهذا هو العلم المكنون الذي لا يسطر في الكتب، ويعين على التنبّه له التعلّم ومشاهدة أحوال علماء الآخرة في أول الأمر، وتعين عليه في الآخرة المجاهد[ة] والرياضة، وتصفية القلب وتفريغه عن علائق الدنيا، والتشبّه بأنبياء الله عليهم السلام وأوليائه، - رضي الله عنهم - ليتّضح لكلّ ساع بقدر رزقه - لا بقدر جهده -، لكن لا غناء فيه عن الاجتهاد، فالمجاهدة مفتاح الهداية.
وأما العلوم التي لا يحمد منها إلاّ مقدار مخصوص، فهي التي أوردت في فروض الكفايات، فكن أحد رَجُلَين: إما مشغولاً بنفسك، وإمّا متفرغاً إلى غيرك بعد الفراغ من نفسك، وإيّاك أن تشتغل بما تُصلح به غيرك قبل إصلاح نفسك، فإن كنت المشغول بنفسك، فلا تشتغل إلاّ بالعلم الذي هو فرض عينك.
وإنّما الأهمّ الذي أهمَله الكلّ؛ علم صفات القلب، وما يحمد منها وما يذمّ، والاشتغال بمداواته، وإهمال ذلك مع الاشتغال بالأعمال الظاهرة، يضاهي الاشتغال بطلاء ظاهر البدن عند التأذّي بالجرَب والدماميل، والتهاون باخراج المادة بالفصد والإسهال، وحشويّة العلماء يشيرون بالأعمال الظاهرة، كما يشير الطرقيّة من الأطبّاء بطلاء ظاهر البدن، وعلماء الآخرة لا يشيرون إلاّ بتطهير الباطن، وقطع موادّ الشر بإفساد منابتها وقطع مغارسها، وهي في القلب.
وإنّما فرغ الأكثرون إلى الأعمال الظاهرة عن تطهير القلوب، لسهولة أعمال الجوارح، واستصعاب أعمال القلوب؛ فإن كنت مريداً للآخرة وطالباً للنجاة، فاشتغل بعلم العلل الباطنة وعلاجها، ثمّ ينجزّ بك ذلك إلى المقامات المحمودة، فلا تشتغل بالفروض الكفايات - لا سيَّما وفي الخلق من قام به -، فإنّ مهلك نفسه في طلَب صلاح غيره سفيه، فما أشدّ حماقةً من دخلت الأفاعي والعقارب داخل ثيابه، وهمّت بقتله، وهو يطلب مذبّة يدفع بها الذباب عن غيره ممّن لا يغنيه ولا ينجيه بما يلاقيه من تلك الأفاعي والحيّات والعقارب اذ هممن بقلته؟!" -