خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
٣٢
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

لمّا علموا قصورَهم عن معرفة الأسماء وحقائق ما هي خارجة عن مقامهم ونشأتهم، اعترفوا بالعجز، وأقرّوا بالقصور.
[علوم الملائكة، وفضل الإنسان عليهم]
واعلم أن العلوم بعضها فطريّة، وبعضها كسبيّة، وبعضها موهبيّة. والعلوم الفطريّة؛ كعلم الشيء بذاته، وصفاته اللازمة لذاته، وبأفعاله الناشئة عن ذاته، وبفاعله من الجهة التي هي وجهه الخاصّ إليه، وبه. والعلمان الآخران لا يخلو كل منهما من سعي العبد في تحصيله واجتهاده في ابتغاء ذلك، سواء كان بالفكر، كما في طريقة النظّار، أو بالتصفية للباطن والتطهير له عن الشوائب العاديّة، كما في طريقة أولي الأبصار.
وعلوم الملائكة من قبيل القسم الأول، لعدم إمكان التغيّر والاستحالة من طورٍ إلى طور فيهم، ولا لها كمال منتظَر، ولا تجدّد أحوال ولا تهيّؤ واستعداد من جانب القابل المتبدّل، ولا حيثيّة كماليّة إلاّ ما حصلت لهم من جهة المبدِع الفاعل؛ وإليه الإشارة بقوله [تعالى]: { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ }.
والمقصود أنّ علوم الملائكة منحصرة فيما يكون حصولها لهم بحسب الفطرة الأولى، من أوائل علومهم الحاصلة من الأسباب الفاعلية من غير مداخلة قابل، أو تعمّل، أو اكتساب، أو استعمال للقوّة القابليّة - إما بالحدس أو بالرويّة -، وإلاّ فجميع العلوم ليست إلاّ بتعليم الله من غير اختصاص لعلومهم بذلك.
والغرض أن الإنسان مختصٌّ متميّز عن الملائكة وغيرهم بجامعيّة العلوم والنشآت، ومظهريّة جميع الأسماء والصفات، والانتقال من أسفل سافلين إلى أعلى العليّين، لأجل لحوق المزائلة عمّا كان أولاً، وحصول الموت الطبيعي أو الإرادي له عن كلّ نشأة، للانتقال به إلى نشأة أُخرى فوقها.
ومثل هذه الاستحالات والانقلابات، لا توجد في غيره - سيّما الملائكة العلويّة -، فمنهم سجودٌ لا يركعون، ومنهم ركوعٌ لا ينتصبون، وصافّون لا يتزايلون، ومسبّحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول. ولا فترة الأبدان، هكذا في كلام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة.
والثبات على حالة واحدة - وإن كان معدوداً من صفات الكمال، وتشبّهاً بالمبدء الفعّال -، إلاّ إنّه يمنع من المزيد، ويحبس العبد على الحاضر العتيد، والتجدّد في الأحوال - وإن كان معدوداً من صفات النقص، كالموت والعدم والقوّة -، إلاّ إنّه كالموت الذي هو تحفة المؤمن، قد يبلغ بالرجال من أدنى المراتب إلى أرفع الأحوال وأعلى درجات الكمال، وبهذا يفوق الإنسان على غيره.
والملائكة عليهم السلام، لمّا بَان لهم من فضل الإنسان، وجهة فضيلته على سائر الأكوان، وعلموا وجه الحكمة في ايجاده واخراجه من مكامن القوّة والإمكان، ومطاوي الأفلاك والأركان، فعظّموا جلال الحقّ، ومجّدوه وسبّحوه تعجّباً وشكراً لنعمته، بما عرّفهم من مكنون علمه، وكشف لهم عن مرآة جماله وجلاله، ومجلى أحوال صفاته وأنوار كماله.
و "سُبْحان": مصدر كغُفُران، ولا يكاد يستعمل إلا مضافاً منصوباً باضمار فعله كـ "معاذ الله"، وقد أجري علماً للتسبيح بمعنى التنزيه على الشذوذ.
وقيل: تصدير الكلام به، اعتذار عمّا وقع لهم من الاستفسار والجهل بحقيقة الحال، إشعاراً بأن سؤالهم لم يكن اعتراضاً.
وقد جعلت هذه الكلمة مفتاح التوبة والإنابة، فقال موسى - صلوات الله على نبيّنا وآله وعليه -:
{ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ } [الأعراف:143]. وقال يونس عليه السلام: { { سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأنبياء:87]. وكذا في قوله تعالى تعليماً لعباده: { مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا سُبْحَانَكَ هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [النور:16].
وفي هذه الآية دلالة على أنّ العلم وسائر الكمالات فائضةٌ من الله، وهو المعطي لها؟ سواء كان على طريقة الإبداع - كما في أكثر علوم الملائكة -، أو على طريقة التكوين بحسب القوابل والأوقات - كما في أكثر علوم الناس -.
وقوله: { إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ }، إشعار بأن معطي الكمال الذي لا يوجب تكثّراً ولا تغيّراً، أَوْلىٰ بذلك الكمال، وكذلك العلم والحكمة، فإنّ كلاًّ منهما صفة كماليّة لمطلق الوجود، ولا يقتضي عروضه للشيء تجسّماً ولا تكثّراً ولا تخصّصاً بأمر جزئي أو انفعال مادي، فإذا وجد شيء منهما في المخلوق والمبدع، فوجوده في الخالِق المبدع أَوْلىٰ وأليق وأشدّ وأوثق.
فهو العليم الذي لا تخفى عليه خافية، والحكيم الذي يفعل كل شيء لحكمة وغاية، لا بمجرّد إرادة جزافيّة لا غاية لها، ولا مراعاة فيها للأحكام الأتقن - كما زعمه أكثر المتكلّمين -، كيف! وجميع الخيرات فائضةٌ من لدنه، وكلّ الأشياء متوجّهة إليه، مائلة إلى ما عنده، نائلة من بحار جوده وكرمه، فما أضلّ أقواماً زعموا أنّ إرادته خالية عن الداعي، عارية عن العناية بأحوال الخلْق؟! نعم، لا داعي لفعله خارجاً عنه، ولا مرجّح لجوده سواه، لأنه خير الخيرات وأصل الدواعي والطلبات.
ثم اعلم إنّ "العَليم" صيغة مبالغة في العلم، والمبالغة التامّة فيه لا تتحقّق إلاّ باستجماع أمور:
أحدها: كونه فعليّاً سبباً لوجود الشيء المعلوم - لا انفعالياً مسبَّباً عنه -.
والثاني: كونه قطعيّاً حقّاً - لا ظنّياً أو وهميّاً -.
والثالث: كونه محيطاً بجميع المعلومات الكلّية والجزئيّة.
والرابع: كونه أزليّاً دائماً غير واقع تحت الحركة والزمان، مصوناً عن التغيّر والتجدّد والحدثان، وما ذاك إلا هو الله، فلا جرم ليس العليم المطلق إلاّ هو، فلذلك قال: { إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } - على سبيل الحصر -.
ثمّ إنّ "الحكيم" يستعمل على وجهين:
أحدهما: العليم الذي يعلم منافع الأمور ومصالحها وخيراتها - فيكون من صفات الذات -.
وثانيهما: الفاعل الذي لا حلل في فعله، ولا اعتراض لأحد عليه - فيكون من صفات الفعل، ولهذا لا يقال: إنّه حكيم في الأزل -.
والأولى حمله هٰهنا على المعنى الثاني، ليكون أبعد عن التكرار.
وعن ابن عباس: إنّ مراد الملائكة من "الحكيم" أنّه هو الذي حكم، فجعل خليفة في الأرض.
ولا يبعد أن يقال: إن الملائكة لمّا نظروا إلى نشأة الإنسان واشتماله على سائر الأكوان، وكونه ثمرة عالم الأجسام، من الأفلاك والأركان، قالوا: { إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ }، لأنّه علِم بعلمه الأزلي من الإنسان حين ما هو متّصف بآفات دواعي الشهوة والنقصان، ما يصل به إلى نشأته الباقية التي بها فاق على جميع الأكوان، ثمّ صنع له واودع فيه بحكمته جميع آلاته وقواه، التي بها سلك الدار الآخرة، والتقرّب إلى الله، حتى انخرط في سلك ملائكته المقرّبين وعباده المكرمين.
فصل
[الحكمة والحكيم]
اعلم أنّ الحكيم عندنا؛ عبارة عمّن جمَع العلم الإلهي والطبيعي والرياضي والمنطقي والخِلْقي، وليس ولا ثمّة إلاّ هذه العلوم، والطريق مختلف في تحصيلها بين الفكر والوهب. وهو الفيض الإلهي، وعليه طريقة أهل الكشف والشهود.
وغيرهم - أصحاب الأفكار والأنظار والفكر - لا ينسرح إلاّ فيما يستفاد من أحكام الأجسام وأحوالها، ومباديها ولواحقها، وأمّا فيما وراء المحسوسات، وعجائب الملكوت، وأحوال الآخرة، وغايات النفوس ودرجاتها يوم القيامة، فليس للفكر فيها كثير جَوَلان، ولا بد في إدراكها ونيلها من سلوك طريق النبوّة والولاية، لأن إدراكها فوق طور العقل. وأصحاب تلك المعارف، أصحاب المشاهدات والمكاشفات القلبيّة، دون العبّاد والزهّاد، ولا مطلق الصوفية، إلاّ أهل الحقائق والتحقيق منهم، فهؤلاء هم الحكماء بالحقيقة.
ذكَر الشيخ شهاب الدين المقتول صاحب الحكمة الاشراقية: "إنّي كنت زماناً شديد الاشتغال، كثير الفكر والرياضة، وكان يصعب عليّ مسئلة العلم، وما ذكر في الكتب لم يتنقّح لي، فوقعت ليلة من الليالي خلسة في شبه نوم لي، فإذا أنا بلذّة غاشية وبرقة لا معة ونور شعشعاني، مع تمثّل شبح انساني، فإذا هو إمام الحكماء أرسطاطاليس، فشكوت إليه من صعوبة هذه المسئلة".
وحكى ما جرى بينه وبين ذلك الحكيم من إفادته إيّاه، وتحقيقه له مسئلة العلم على وجه انكشف له مقصوده منها، ثمّ قال:
"إنّه أخذ بعد ذلك يُثني على أستاذه أفلاطن ثناءً تحيَّرتُ فيه. فقلتُ: وهل وصَل إليه من فلاسفة الإسلام واحد؟ فقال: ولا إلى جزء من ألف جزء من رتبته".
"ثم كنت أعدّ جماعة أعرفهم، فما التفَتَ إليهم. ورجعت إلى أبي يزيد البسطامي، وأبي محمد سهل بن عبد الله التستري وأمثالهما، فكأنّه استبشر وقال: أولئك هم الفلاسفة والحكماء حقّاً، ما وقفوا عند العلم الرسمي، بل جاوزوا إلى العلم الحضوري الاتّصالي. وما اشتغلوا بعلائق الهيولى، فلهم الزلفى وحسن مآب. فتحرّكوا عمّا تحرّكنا، ونطقوا بما نطقنا".
"ثم فارقني، وخلَّفني أبكي على فراقه. فوالَهفي على تلك الحالة". - انتهى كلامه.
واعلم أن أرسطاطاليس المذكور، أحد الموصوفين بالحكمة، المذكورين بالفضل والتعظيم، وهم خمسة: هو وأستاذه أفلاطون الإلهي، وأشياخه الثلاثة الإلهيّون - سقراط وفيثاغورس وأنباذقلس -، فلقد كانت أنوار الحكمة في قديم الزمان منتشرة في العالم بسعيهم، وكانوا كلّهم قائلين بالتوحيد، وحدوث العالم الزماني، وثبوت المعاد للأنفس والأبدان. ونحن قد كشفنا عن رُموزهم، وبيّنا مقاصدهم وعلومهم، سيّما إثبات المثل الإلهية والصور المفارقة التي أثبتوها.
وكان باب هذا العلم مغلَقاً بعدهم على هؤلاء المشهورين بالحكمة وكلّما جاؤوا اعترضوا على أفلاطون في إثباته هذه المُثل النوريّة الإلهيّة، أو ذكروا فيها تأويلات صرَفوا بها الكلام عن مقصوده ومقصود أولئك المعظّمين الأساطين، وكذا اتّحاد النفس الإنسانية بعالَم العقل - كما نُقل من بعض تلامذة أرسطاطليس - وغيرهما من مسائل شريفة نوريّة استفدناها من القرآن والحديث.
وكان أرسطاطليس هو معلم اسكندر المعروف بذي القرنين المذكور في القرآن ممدوحاً مكرّماً، وكان ملازماً لأفلاطون قريباً من عشرين سنة لاقتباس الحكمة، وكان يسمّى في حداثته روحانيّاً لفرط ذكائه، ويسمّيه أفلاطون عقلاً؛ وهو الذي صنّف الكتب المنطقيّة وجعلها آله للعلوم النظريّة، ورتّب الأبواب الطبيعيّة والإلهيّة، وصنَّف لكلّ باب منها كتاباً على حِدَة محافظاً على الولاء في أيّامه، وأسرف الملك لذي القرنين فانقمع به الشرك في بلاده.
فهؤلاء الخمسة المذكورون كانوا يوصفون بالحكمة. ثمّ لم يسمّ أحدٌ بعد هؤلاء "حكيماً"، بل كلّ واحد منهم ينسب إلى صناعة من الصناعات، أو سيرة من السيَر، مثل بقراط الطبيب، وأُوميروس الشاعر، وأرشميدس المهندس، وديوجانس الطبيب، وذيمقراطيس الطبيعي.
وقد تعرّض جالينوس في زمانه حين كثُرت تصانيفه لأن يوصف بالحكمة، - أعني أن يُنقل عن لقب الطبيب إلى لقب الحكيم -، فقالوا: عليك بالمراهم والمسهلات وعلاج القروح والحميّات، فإنّ من شهِد على نفسه على أنّه شاكّ في العالم "أقديمٌ، أم حادث؟"، وفي المعاد "أحقٌّ هو أم باطلٌ"، وفي النفس "أجوهرٌ، أم عرضٌ؟"، تتّضع درجتُه من أن يُسَمَّى حكيماً.
قال بعض العلماء: "والعجب من أهل زماننا أنهم متى رأوا انساناً قرء كتاب اقليدس، وضبط أحوال المنطق، وَصَفوه بالحكمة - وإن كان خلْواً من العلوم الإلهيّة -، حتى أنّهم ينسبون محمد بن زكريّا الرازي لمهارته في الطبّ اليها.
ولقد كان أحمد بن سهل البلخي - مع براعته في أصناف المعارف وأبواب الدين -، متى نسبه أحدٌ من موقّريه إلى الحكمة، يشمئزّ منه ويقول: "يا لَهفي من زمانٍ ينسب فيه ناقصٌ مثلي إلى شرَف الحِكمة، كأنّهم لم يسمَعوا قول الله عزّ اسمه:
{ مَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [البقرة:269].