خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقُلْنَا يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ
٣٥
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

[مقامات الإنسان]
إعلم أنَّ للإنسان الكامل درجاتٌ، ومقاماتٌ، في بدايات أحواله، ومبادئ وجوده؛ كما أنَّ له درجاتٌ، ومقاماتٌ في نهايات أموره، وعوائد بقائه.
فأوّل مقاماته في البداية، كونه مقدَّراً في علْم الله، وفيضه الأقدس، أن يكون خليفة لله في الأرض؛ وهو مقام عينه الثابت الذي قيل: "إنّه غير مجعول". وهو مقام أخذ الميثاق.
ثمّ مقام مسجوديّته للملائكة؛ وذلك في جنّة الأرواح وعالَم القدس، وفيه صوَر الأسماء الإلهيّة كلّها.
والمقام الثالث: هو أوّل تعلُّق روحه بالبدن في عالَم السماء، بعد عالَم الأسماء بواسطة لطيفة حيوانيّة متوسّطة بين الروح العقلاني وهذا البدن الكثيف الظلماني. والإنسان بواسطة تلك اللطيفة الحيوانيّة التي تكون على صورته في عالَم الأشباح له أن يدخل دارَ الحيوان وجنّة الأبدان، فقوله تعالى: { يَاآدَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } إشارة إلى هذا المقام.
والمقامُ الرابع: هو مرتبة هبوطِه إلى عالَم الأرض، وتعلّقه بهذا البدن الكثيف الظلماني، المركّب من الأضداد، المنشأ للعداوة والفساد، والحسد والعناد، المحجوب عن عالَم المعاد، وهذا غاية النزول عن الفطرة الأصليّة.
ثمّ يقع بعد ذلك الرجوعُ إلى الفطرة، والعودُ إلى المبدإ بالسيْر الرجوعي على عكس السيْر النزولي، بالخلاص عن هذه القيود، والتبرّي عن هذا الوجود، ورَدِّ الأمانات إلى أهلها، والخروج عن كلّ حول وقوّة إلى حول الله وقوّته، ففي هذا لرجوع أيضاً مقامات ودرجات، كما هو مذكور في أحوال الآخرة.
جنّة آدم أهي الجنّةُ المَوعودةُ، أم غيرها؟
واختلفوا في أنّ الجنّةَ التي خرَج منها آدمُ وزوجتُه، بعينها الجنّة الموعودة، ودار الثواب، وجنّة الخُلد؟ أم هي جنّةٌ أُخرى غيرها؟
قال بعضُ العرفاء: الجنّة التي تكون الأرواح فيها بعد المفارقة من النشأة الدنياويّة، غير التي بين الأرواح المجرّدة وبين الأجسام، لأنّ تنزُلات الوجود ومعارجه دوريّة. والمرتبة التي قبل النشأة الدنياويّة، هي من مراتب التنزلات ولها الأوليّة، والتي بعدها من مراتب المعارج ولها الأقربيّة.
وأيضاً الصور التي تلحق الأرواح في البرزخ الأخير، إنّما هي صوَرُ الأعمال، ونتيجة الأفعال السابقة في النشأة الدنياويّة بخلاف صوَر الجنّة الأولى، فلا يكون كلٌّ منهما عين الآخر. لكنّهما تشتركان في كونهما عالَماً حيوانياً، وجوهراً نورانياً غير متعلّق الوجود بالمادّة الظلمانيّة، مشتملاً على أمثلة ما في العالَم.
وقد صرّح صاحب الفتوحات المكيّة في الباب الحادي والعشرين وثلاثمأة من كتابه، بأنّ هذا البرزخ غير الأوّل. ويسمّى الأول بالغيب الإمكاني. والثاني بالغيب المحالي. لإمكان ظهور ما في الأوّل في الشهادة، وامتناع رجوع ما في الثاني إليها، إلا في الآخرة.
"وقليلٌ مَن يكاشفه بخلاف الأوّل. ولذلك يشاهد كبراؤنا، ويكاشف البرزخ الأول، فيعلم ما يريد أن يقعَ في العالَم الدنيوي من الحوادث، ولا يقدر على مكاشفة أحوال الموتى" انتهى.
واحتجّوا على المغايرة بينهما أيضاً بوجوه:
أحدها: إنّ هذه الجنّة لو كانت هي دار الثواب، لكانت جنّة الخُلد، وكان مَن دخلَها لم يخرج منها، لقوله تعالى:
{ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [الحجر:48]. وقد خرج آدمُ وزوجتهُ منها، فليست هي بجنّة الخلد.
أقول: هذا ضعيفٌ؛ لأنّ ذلك إنّما يكون إذا استقرّ أهل الجنّة فيها للجزاء، والثواب، والوصول إلى الغاية والنهاية، فأمّا قبل ذلك فإنّ كلّ شيء هالكٌ إلاّ وجهه.
الثاني: إنّ آدم لو كان في جنّة الخُلد لما لحِقه الغرورُ من إبليس بقوله:
{ { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ } [طه:120]. ولما سمع قوله: { { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَالِدِينَ } [الأعراف:20].
أقول: استحالة ذلك في بداية الأمر وقبل خروج النفس من القوّة إلى الفعل ممنوعٌ، فإنّ الإنسان ما لم يقع في دار التكليف والابتلاء، فهو بعد سريع القبول للوقائع.
الثالث: إنّ إبليس لمّا امتنع من السجود لُعِن، فما كان يقدر مع غضب الله عليه على أن يصلَ إلى جنَّة الخُلد.
أقول: كما استحال عقلاً أن يدخل إبليس بعد طرْده ولعْنِه جنّة الآخرة، كذلك استحال دخوله في الجنّة السابقة، إلا أنَّ العلماء ذكروا كيفيّة دخوله على سبيل الاختلاس، والاجتياز في أوقات قليلة نادرة، كسارقٍ يريد أن يدخل دار السلاطين، ويختطف منها شيئاً، ولذا قالوا: ويجوز أن يكون وسوسة إبليس من خارج الجنّة من حيث يستمعان كلامَه.
الرابع: إنّ الجنّة التي هي دار الثواب لا يفنى نعيمها، لقوله تعالى:
{ { أُكُلُهَا دَآئِمٌ } [الرعد:35]. وقوله: { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود:108]. أي غير مقطوع فهذه الجنّة لو كانت هي التي دخلَها آدم فلم يخرج منها آدم وزوجته لكنهما قد خرَجا منها.
أقول: هذا كالوجه الأوّل ويرد عليه شبْه ما مرّ، والتحقيق الذي عليه التعويل، أنَّ الدارين واحدةٌ بالذات، متغايرةٌ بالاعتبار، وكذا جميع بدايات المقامات، بالقياس إلى نظائرها من النهايات، فعليه يُحمَل أقوال أهل المعرفة واختلافهم.
وأما أهل النكرة والحجاب، فمنهم من قال: إنّ هذه الجنّة التي خرج منها آدم كانت في الأرض - لا في السماء - وهو قول أبي القاسم البلخي، وأبو مسلم الاصفهاني، وبه قال بعض أصحابِنا، فحمَلوا الاهباط على الانتقال من بُقعة، إلى بُقعة كما في قوله:
{ ٱهْبِطُواْ مِصْراً } [البقرة:61].
وربما عيِّن وقيل: "إنّه بُستانٌ كان بأرض فلسطين. أو بين فارس وكرمان واستدلّ على ذلك بأنّه لا نزاع في أنّ الله خلَق آدم (عليه السلام) في الأرض، ولم يذكر في هذه القصّة أنَّه نقلَه إلى السماء، ولو كان تعالى قد نقلَه إلى السماء لكان ذلك أولى بالذكر لأن نقله من الأرض إلى السماء من أعظم النعم، فدلّ على أنّ ذلك لم يحصل وذلك يوجِب أنّ المراد من الجنّة التي قال الله: { ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } ليس في غير الدنيا.
ومنهم من قال: إنّ تلك الجنّة كانت في السماء السابعة. والدليل عليه قوله { ٱهْبِطُواْ } وهو قول الجبائي. قالوا: "إنّ الاهباط الأوّل كان من السماء السابعة إلى السماء الأولى. والاهباط الثاني كان من السماء إلى الأرض".
ومنهم مَن قال: إنّ هذه الجنّة هي دار الثواب، بدليل أنّ الألف واللام في لفظ - الجنّة - لا يفيدان العموم، لأنّ سكون جميع الجنان محال. فلا بدّ من صرْفهما إلى المعهود السابق إلى الفهم. والجنّة التي هي المعهود المعلوم بين المسلمين هي دار الثواب، فوجب صرْف اللفظ إليها وهو قول المفسّرين، والحسن البصري، وعمرو بن عبيدة، وواصِل بن عطاء وكثير من المعتزلة، وأصحاب أبي الحسن الأشعري. وهو المختار عند الإمام الرازي في تفسيره الكبير.
ومنهم مَن قال: إنّ الكل: ممكن، والأدلّة النقليّة ضعيفة، ومع ضعفها متعارِضة فوجب التوقّف، وترك القطع.
فصل
في تعيينِ الوقتِ الذي خُلقت فيه زوجةُ آدم (ع)
لا شبهة لأحد في أنّ ذلك كان بعد أن كرّمه الله تعالى بكرامة تعليم الأسماء، وأمر الكلّ بالسجود له تعظيماً، وسجدة الملائكة له انقياداً وتسليماً، وإباء إبليس عنه عناداً واستكباراً، وعتوّاً، وافتخاراً، وصيرورته ملعوناً طَريداً مريداً، وقبل هبوطه إلى الأرض، لقوله: { ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ }.
فالثابت المحقَّق هو أنَّ خلقتها كان في مقام الجنّة، وهو ميلاد النفوس عند نزوله عن عالَم القدس العقلي إلى النشأة النفسانيّة.
ويؤيّد ما ذكرناه ما رواه السدّي، عن ابن عبّاس، وابن مسعود، وناس من الصحابة: إنَّ الله تعالى لمّا أخرَج إبليس من الجنّة، وأسكنَها آدم بقي فيها وحدَه، ما كان معه مَن يستأنس به، فخُلقت حوّاء ليسكن إليها.
وروي: أنَّ الله تعالى ألقى عليه النوم، ثمّ أخذ ضِلعاً من أضلاعه من شِقّه الأيسر، ووضع مكانَه لحماً، وخلَق حوّاء منه، فلمّا استيقَظ وجد عنده رأسه امرأة قاعدة، فسألَها: مَن أنت؟ قالت: امرأة. قال: ولِمَ خُلقتِ؟ قالت: لتسكنَ إليّ. فقالت الملائكة: ما اسمُها؟ قال: حوّاء. قالوا: ولِمَ سمّيت حواء؟ قال: لأنّها خُلقت من شيء حيٍّ.
فعندها قال الله تعالى: { ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ }.
وعن ابن عبّاس - أيضاً - قال: "بعثَ الله جنداً من الملائكة، فحمَلوا آدم وحواء (عليهما السلام) على سرير من ذهب، كما يحمل الملوك، ولباسهما النور، وعلى كلّ واحد منهما إكليلٌ من ذهب، مكلّل بالياقوت واللؤلؤ، وعلى آدم مِنطقة مكلّلة بالدّر والياقوت حتى أدخلا الجنّة".
فهذا الخبر يدلّ على أن حوّاء خلقت قبل ادخال الجنّة، والخبر الأوّل دلّ على أنّها خُلقت في الجنّة.
ثمّ من الأخبار ما يدلّ على أنّهما جميعاً خُلقا في الأرض. ففي كتاب النبوّة "إنّ الله تعالى خلَق آدم من الطين، وحوّاء من آدم. فهِمّة الرجال الماء والطين، وهِمّة النساء الرجال".
ووجه التوفيق بين الكلّ معلوم عند أهل الهداية والمعرفة.
واعلم أنَّ الاتفاق حاصلٌ على أنّ المراد من الزوجة حوّاء وإن لم يتقدّم ذكرُها في هذه السّورة، وفي سائر القرآن ما يدلّ على ذلك، فإنّها مخلوقةٌ منه.
ففي سورة النساء:
{ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [النساء:1]. وفي الأعراف: { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } [الأعراف:189].
وروى الحسن عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
"إنّ المرأة خُلقت من ضِلع الرجل، فإن أردتَ تقويمَها كَسرتَها، وإن تركت انتفعتَ بها واستقامت" .
واعلم أنَّ كل شهادة مطابقٌ لغيب، وكما المرأة هاهنا مخلوقةٌ من الضلع الأيسر للرجل، أو من بقيّة مادّة منويّة فُضليّة حصلت هناك منه، فكذلك في عالَم الأرواح حصلت النفس وهي جوهرة انفعاليّة من الجنبة السافلة للعقل، وهو جوهر فعّال بالفعل، مخرِج للنفس من القوّة إلى الفعل.
وكما أنَّ الرجل إذا تفرّد هاهنا بذاته عمّن يسكن إليها من زوجته يتوحّش، ويضطرب، حاله في الخلوة والوحدة عناية من الله لتكثير النوع بحصول الأفراد، كذلك العقلُ إذا لم يتوجّه إلى تربية النفس، والسكون إليها، وأراد التفرّد بذاته عن فعْله يلزم عليه التعطيل، ويلحقه الاضطراب في قرب نهار الأحديّة الإلهية قبل أوانه، كما يلحق أبصار الخفافيش من نور الشمس عند رفع حجاب الليل، ويعتريه الذوبان تحت سطوع النور الإلهي الواجبي، كذوبان الجليد عند طلوع الشمس عليه من غير حجاب.
فهذا نكاح معنوي وقع بين العقل والنفس، والعاقد بينهما هو الله، وهكذا جرى الازدواج بين كلّ قوةٍ فاعلة ومادةٍ منفعلة كما بين الطبايع والصور الجسمانيّة وبين موادّها القابلة بحكم النكاح الأوّل، الساري في جميع الذراري، ومِن هذا قيل: "كلّ ممكن زوجٌ تركيبي".
وذكر الشيخ الجليل محمد بن عليّ بن بابويه القمّي - رحمهما الله - في الفقيه رواية عن زرارة بن أعين، أنَّه قال: سُئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن خَلْق حوّاء، وقيل له: إن أناساً عندنا يقولون: "إن الله عزّ وجل خلَق حوّاء من ضلْع آدم الأيسر الأقصى".
فقال: "سبحان الله وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً مَنْ يقول هذا؟! إن الله تبارك وتعالى لم يكن له القدرةُ أنْ يخلُق لآدم زوجة من غير ضلعِه؟ ويجعل للمتكلم من أهل التشنيع سبيلاً إلى الكلام أن يقول: "إنّ آدم كان ينكح بعضُه بعضاً" إذا كانت من ضِلْعه؟! ما لهؤلاء! حكَم الله بينَنا وبينَهم".
ثمّ قال (عليه السلام): إنّ الله تعالى لمَّا خلَق آدم من طين، وأمر الملائكة فسجدوا له ألقى عليه السُّبات. ثمّ ابتدع له حوّاء، فجعلَها في موضع النقرةِ التي بين وَركيه. - وذلك لكي تكون المرأةُ تبعاً للرجل - فأقبلتْ تتحرك، فانتبه لتحرُّكِها فلمَّا انتبه نوديت أن تنحّي عنه، فلمّا نظَر إليها نظَر إلى خَلْق حسَنٍ يُشبه صورتهُ. فكلّمته بلغته" - في حديث طويل في آخره - .
"والخبر الذي روي أنَّ حوّاء خُلقت من ضلع آدم الأيسَر صحيحٌ، ومعناه من الطينة التي فضلت من ضلعه الأيسر. فلذلك صارت أضلاع الرجال أنقص من أضلاع النساء".
فصل
قوله تعالى: { وَقُلْنَا }
قال بعض المفسرين: هذه نون الكبرياء والعظمة لا نون الجمع.
وأقول: كأنه إشارة إلى الجمعيّة الإلهية، المحتوية بحسب الأسماء والصفات على جميع العقول والذوات.
و "السُّكنَى" من السُّكون. لأنها نوعٌ من اللبْثِ والاستقرار.
و { أَنْتَ } تأكيدٌ للمستكنّ في "اسْكُنْ" ليصحَّ العطف عليه.
و { زَوْجُكَ } معطوف على موضع أنت. ولو عطف على الضمير المستكنّ لكان يُشبه في الظاهر عطف الاسم على الفعل، فأتى بالمنفصل وعطف عليه.
و { رَغَداً } منصوبٌ لأنّه صفة لمصدر محذوف، كأنّه قال: "أكلاً رغداً" أي: واسعاً كثيراً. ويجوز أن يكون مصدراً وُضع موضع الحال من قوله: { كُلاَ } ويقال: قومٌ رَغَدٌ، ونساءٌ رَغَدٌ، وعَيشٌ رَغَدٌ. فعلى هذا يكون تقديره: "وكُلا منها متوسّعين في العَيش".
و { حَيْثُ } يُبنى على الضمّ كما تبنى الغايات: لأنّه مُنع عن الإضافة إلى مفرد كما مُنعت هي من الإضافة، فما يأتي بعده جملة اسميّة أو فعليّة في تقدير المضاف إليه. وهو للمكان المبهم، أي: "أيّ مكانٍ شئتما من الجنّة" على وجه التوسعة البالغة، من جهة أنَّه لم يحظر عليهما بعض الأكل، ولا بعض المواضع، حتى لا يبقى لهما عذر في التناول من شجرةٍ واحدة من أشجارها الكثيرة الفائتة للحصر.
والنكتة في عطف قوله: { كُلا } على قوله: { ٱسْكُنْ } بالواو هاهنا، وبالفاء في الأعراف هي أن الفاء للسببيّة، والواو للجمعيّة، فكلّما كان المعطوف عليه شرطاً للمعطوف عُطف بالفاءِ، وإن لم يكن شرطاً عُطف بالواو.
ثمّ قول القائل: "أُسكُن" قد يكون بمعنى "أُدخُل" وقد يكون بمعنى "إلزَم مكانك الذي دخلتَه" والأكل مشروط بالأوّل - دون الثاني - فإذا أريد منه المعنى الأول ينبغي العطف للأكل عليه بالفاء كما في قوله:
{ { وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً } [البقرة:52]. إذ الأكل في موضع مشروطٌ بالدخول فيه.
وإذا أُريد منه المعنى الثاني، فينبغي العطف عليه بالواو المفيد للجمعيّة فقد - دون الترتيب - إذ الأكل في موضع غير مشروط بالدوام فيه، فبحسب اختلاف الاعتبارين اختلفت الكلمة العاطفة في السورتين والله أعلم.
فصل
اختلف المفسّرون في هذا الأمر. فقيل: إنّه أمر تعبّد. وقيل: هو إباحةٌ، لأنّه ليس فيه مشقّة، وما لا مشقّة فيه فلا تكليف به.
وأمّا قوله: { وَكُلاَ } فهو إباحة بالاتفاق. وكذا { وَلاَ تَقْرَبَا } تعبّد بالاتفاق. وهو مجزوم بالنهي، والألف ضمير الفاعلين.
وقوله: { فَتَكُونَا } يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون جواباً للنهي، فيكون منصوباً بإضمار "أن" وأن مع الفعل في تأويل المفرد، فيكون عطفاً على المصدر والتقدير: "لا يكن منكما قربٌ لهذه الشجرة فتكونا من الظالمين" فالكلام حينئذ جملة واحدة، لكون المعطوف من جملة المعطوف عليه. وإنّما سمّي جواباً لمشابهة الجزاء بحسب المعنى، أي: إن تقربا هذه الشجرة تكونا من الظالمين.
والثاني: أن يكون معطوفاً على النهي، فيكون مجزوماً. فالفاء عاطفةٌ جملة على جملة فكأنه قال: "فلا تكونا من الظالمين".
ومعنى { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ }: لا تأكلا منها. وهو المروي عن الباقر (عليه السلام) وحاصله: لا تقرباها بالأكل. ولهذا إنّما وقعت المخالفة بالأكل بلا خلاف - لا بالدنوّ منها - ولهذا قال:
{ فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } [طه:121].
واختلف في هذا النهي، فقيل: "إنّه نهي التحريم. وقيل: نهي التنزيه، دون التحريم. كمن يقول لغيره: "لا تجلِس على الطريقِ" وهو مذهب أصحابنا، وموافقٌ لأصولنا العقليّة كما سيجيء بيانه.
فعندهم أنَّ آدم (عليه السلام) كان مندوباً إلى ترك التناول من الشجرة، فكان بالتناول منها تاركاً نفلاً وفضلاً. ولم يكن آتياً بقبيح، وفاعلاً لمحرّم، لأنّ الأنبياء لا يجوز عليهم القبائح صغيرها وكبيرها.
وقالت المعتزلة: كان ذلك صغيرةً من آدم (عليه السلام) على اختلاف بينهم في أنّه وقع منه على سبيل العمد، أو السهو، أو التأويل.
واستدلّ صاحب مجمع البيان على امتناع مواقعة المعصية على الأنبياء (عليهم السلام) بأنّ الفعل القبيح ما يستحق فاعله الذمّ والعقاب، والمعاصي كلّها كبائر عندنا، وإنّما تسمّى صغيرة باضافتها إلى ماهو أكبر عقاباً منها؛ لأن الاحباط قد دلّ الدليل عندنا على بطلانه، وإذا بطل ذلك فلا معصية إلاّ ويستحق فاعلها الذمّ والعقاب، وإذا كان الذمّ والعقاب منفيّين عن الأنبياء، وجب أن ينفى عنهم سائر الذنوب.
ولأنّه لو جاز عليهم لنفّر عن قبول قولهم. والمراد بالتنفير أنَّ النفس إلى قبول قول مَن لا يجوز عليه شيء من المعاصي أسكَن منها إلى مَن يجوز عليه ذلك، ولا يجوز عليهم كلّ ما يكون منفّراً عنهم من الخَلق المشوّهة، والهيئات المستكرهة.
وإذا صحّ ما ذكر علمنا أنّ مخالفةَ آدم (عليه السلام) لظاهر النهي كان على الوجه الذي بيّناه هذا كلامه وهو المذكور في الكتب الكلاميّة من قِبَل أصحابنا القائلين بعصمة الأنبياء (عليهم السلام) مطلقاً، وللبحث في بعض مقدّماته مجالٌ.
وإنّما قلنا إنّه موافقٌ لأصولنا العقليّة من جهة أنَّه قد صحّ عندنا أنَّ للإنسان نشآت ثلاث بحسب البداية والنهاية: نشأة الروح، ونشأة النفس، ونشأة الطبيعة، وهذه دار التكليف والاختيار، ودار الابتلاء والاختبار. ومورد الأمر والنهي التشريعيّين، وعليهما مدار الطاعة والعصيان، والعصمة والخذلان، والشكر والكفران.
وأما قَبل هذه النشأة فالأمر فيها أمرُ قضاء وتكوين. والنهيُ فيها نهي إشعار وتحريص، وليس فيها مجالُ القدرة للعبد والاختيار، ولا يسَع له التدبيرُ والحزم والاجتهاد، ولهذا قال بعض أصحاب القلوب، إنّ سبب النهي هناك هو الدلال الذي تقتضيه غاية الجمال ولو لم يُنه عنها فلعلّه ما فرغ لها لكثرة أنواع المرادات النفسانيّة فذِكْرها كان كالتحريص عليها، فإنّ الإنسان حريصٌ على ما منع.
واعلم أنَّ كل ما في هذا العالَم فهو في العالَم الأعلى على وجه ألطف وأصفى، فالمعصيةُ هاهنا هي مخالفة الأمر الشرعي، المنافية للعصمة الثابتة للأنبياء (عليهم السلام)، وأما في عالَم الغيب، فهي عبارةٌ عن النقيصة الإمكانية المتفاوتة كثرة وقلّة في الممكنات بحسب مراتب درجاتها عند الله قُرباً وبُعداً، فكلّما كان القرب منه تعالى أكثر كان جهات الإمكان أقلّ، وكلّما كان البُعد منه أكثر تضاعف جهات النقائص والإمكانات أوفر. وبالعكس.
وبعض تراكم الإمكان على العقل يوجب نزوله في عالَم النفْس كالجنّة ومنازلها، وغاية تضاعف الإمكان في النفس تودب تعلّقها بعالَم الأبدان العنصريّة كما أنَّ غاية المعصية - وهي الكفر - توجِب خلود النفس في دار العذاب.
وأيضاً التخاصمُ، والتباغُض هاهنا من صفات الحيوانات، يجب تنزيه الملائكة العلويّة عنه. ولكن ورد في القرآن أنَّ الملأ الأعلى يختصمون، فيجب حمل الخصومة فيهم على معنى ألطَف وأشرَف ممّا في الحيوانات، وهو كاختلاف إشراقاتهم العقليّة، وتباين تعيّناتهم الوجودية. ومِن هذا القبيل صفة التنازع المذكور لأهل الجنان في قوله تعالى:
{ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً } [الطور:23].
الشجَرةُ المنهيّة
ثمّ اختُلف في الشجرة المنهيّ عنها. فعن ابن عبّاس: "هي السُنبلة"، وعن ابن مسعود والسدّي: "هي الكرْمةُ". وعن ابن جريح: "التينة".
وقيل: "هي شجرة الكافور". وهو المرويّ عن عليّ (عليه السلام).
وقيل: "هي شجرة العِلم علْم الخير والشر" وعن ابن جدعان "هي شجرة الخُلد التي كانت تأكل منها الملائكة".
وقال الربيع بن أنس: "كانت شجرة من أكَل منها أحدث، ولا ينبغي أن يكون في الجنّة حدَث".
ولكل منها وجه تأويل، والموافق للحكمة أن يكون فيها إشارةٌ إلى شجرة الطبيعة المتشعّبة أفنانها، المتفنّنة قواها وفروعها، وهي
{ شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ } [الصافات:64 - 65].
والحكمة تقتضي أن يخرج الإنسان أوّلاً من الجنان بأكل هذه الشجرة، ويسقط من عالَم الفطرة إلى عالَم التركيب والطبيعة، ثمّ يأخذ منها زاد الآخرة، ويفطم نفسه عن طيّبات الدنيا التي هي خبيثات الآخرة - فطام الصغير عن رضعَة أمّه - ليلحق بدار الكرامة التي خرج منها.
ومن لم يزهد في الدنيا ولم يفطم نفسه عن تناول الطبيعة ومشتهياتها، فلا نصيب له في الآخرة، ولا طعام له إلا من الحميم، والغسلِين. ويكون غذاء أهل الجحيم في الدار الآخرة من غسالات الطبايع، وأكدارها، وأَوزارها، كما انّ غذاء أهل الجنة من الصفايا واللطائف، وغذاء أهل القرب منهم من المعارف الإلهيّة والعلوم الربانيّة.
تأييد استبصاري
في تأويل معصية آدم
إعلم أنّ للإنسان همّةٌ عالية، وحرصٌ شديد بحسب الجبلّة، فلا يزال تقول نار طبيعته وجهنم حرصه: "هل من مزيد". ولا تمتلي حتى يضع الجبارُ قدمَه فيها.
ثمّ إنّه ابيح له ولزوجته مشتهيات النفس كلّها، فيها ما تشتهي الأنفُس وتلذّ الأعين وقيل لهما: "اقتنعا بها ولا توقدا نار َالفتنة" وهي نار الطبيعة التي شأنها تحليل الموادّ والتصرّف فيها، وقد كانت كامنةً في النفس، ولم تخرج من الكمون إلى البروز. أوَ لا ترى أنَّ الإنسان إذا أخذ في تناول المطعوم انبعثت من طبيعته حرارة طابخة ونضجت مادة الغذاء؟ فأصل النار من النفْس، ثمّ من الطبيعة.
ولا تقربا شجرة الطبيعة السفليّة إن كنتما طالبين للسلامة عن المصيبة والمحنة، فارغين عن حرقة المحبّة، وإلاّ فتكونا من الظالمين على النفس بتوريطها في ورطات الهلاك التي قَلَّت النجاةُ عنها، وإحراقها بنار المحبّة والمحنة، وألم البُعد والفرقة، وتعَبِ السفر في الدنيا لربح الآخرة. وقد غرقت في بحارها طوائف كثيرة، انكسرت فيها سفائنهم ومراكبهم.
وحمل "الظُّلم" على هذا المعنى أوفق بالمحافظة على قاعدة عصمة الأنبياء (عليهم السلام) وكل مذهب أفضى إلى انحفاظ عصمتهم كان أولى. وذلك كما في قوله تعالى:
{ وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب:72]. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
قال بعض أُولي البصائر: إنّه تعالى قد وسّع على آدم (عليه السلام) أسباب الانبساط أوّلاً، ثمّ ضيّق عليه الأمر آخراً. وأنشد:

وأدنيتني حتّى إذا ما فتَنتَني بقولٍ يحلّ العصمَ سهل الأباطحِ
تجافيتَ عني حين لا ليَ حيلة وغادرتَ ما غادرتَ بين الجوانحِ

خلَقَه بيده، ونفخ فيه من رُوحه، وأسجَد له ملائكتَه، وأسكنَه الجنةَ في جواره، وزوّجه حوّاء. حتّى شاهَد جمال الحقِّ في مرآةِ وجهه، وأنبتَ شجرةَ المحبّة بين يديه ثمّ منعه، وكان في ذلك المنع تحريص وتذكير أيضاً. ثمّ عاتبه بقوله: { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ }.
وهذا كما أسكرَ موسى (عليه السلام) بأقداح الكلام، وأذاقَه لذّة شراب السماع، وقرّبه نجيّاً، حتّى اشتاق إلى جماله، وطمع في وصاله قبل أوانه، وقال: { رَبِّ أَرِنِي } فعاقبه بسطوة
{ { لَن تَرَانِي } [الأعراف:143].
وذلك أنَّ الولاء والبلاء توأمان، والمحبّة والمحنة رضيعا لبان، والمطلوب كلّما كان أدفَع كان أعزَّ وأمنع، والجمال لا بدّ له من الدلال، وبه يتميّز العاشق الصادق من المدّعي المحتال، فلمّا ذاقا شجرة الغرام خرجا من دا ر السلام، فما لأهل السلام ودار الغرام، وأين الفارغ السالي من المحبّ الغالي.
وبالجملة فلما جاء القضاء ضاق الفضاء، فلم يمس بعد ما كان مسجودَ الملَك، محسود السِّماك إلى السّمَك، مشمول الرعاية، موفور العناية، حتَّى نزعه لباسَ الأمن والفراغ، وبدّل باستيناسه الاستيحاش، يدفعونه الملائكةُ بعنفٍ، أن اخرج من غير مكْثٍ ولا بحْثٍ.
فأزلتهما يد التقدير بحسن العناية والتدبير، وكان الشيطان من جملة أسباب التقدير، فصار هدفَ سهام الطعنِ والطرد، فلمّا وقَعا من القُربة في الغُربة، ومن الألفة في الكُلفة استوحَشا من كلّ شيء. وهكذا شرطُ المحبّة عداوةُ ما سوى المحبوب، فكما أنّ ذاته لا تقبل الشركة في التعبّد، كذلك لا تقبل الشركة في المحبّة" انتهى كلامه.
ويمكن تطبيقه على القوانين البرهانيّة، وإن كان ظاهره كلمات خطابيّة.
فصل
إنّ الذين جوّزوا الذنوبَ على الأنبياء (عليهم السلام)، حمَلوا النهيَ في قوله تعالى: { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } كقوله:
{ { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ } [البقرة:222]. وقوله: { { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الأنعام:152]. وكما أنَّ هذين للتحريم، فكذا الأوَّل.
والثاني: قال تعالى: { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ }. أي: إن أكلتما منها ظلمتما أنفسكما، ولذلك لما أكلا قال:
{ { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [الأعراف:23].
الثالث: إنّ هذا النهي لو كان نهي تنزيهٍ لَمَا استحقَّ آدمُ بفعله الاخراجَ من الجنَّةِ، ولمَا وجبَت التوبةُ عليه.
والجواب عن الأوّل: إنّ النهيَ وإن كان في الأصل للتنزيه أو للقدر المشترك، لكنّه قد يجعل للتحريم لدلالةٍ منفصلة.
وعن الثاني: إنّ قوله: { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ }. أي: فتظلما أنفسكما بفعل ما الأولى بكما تركه، لأنّكما إذا فعلتما ذلك أخرجتما من الجنَّة - التي لا تظمآن فيها ولا تجوعان ولا تضحيان ولا تعريان - إلى موضعٍ ليس لكما فيه شيء. من هذا.
وعن الثالث: إنّا لا نسلم أن الاخراج من الجنّة كان لهذا السبب، بل لحكمةٍ سابقة وقعت الاشارة فيها وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.