خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ
٦٠
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

الاستسقاء: طلب السُّقيا. ويقال: "سَقَيتُه وأسقَيتُه" بمعنى. وقيل: أسقيتُه: دللتُه على الماء.
وعَصا وعَصَوان وثلاث أعصٍ. وجمعه عِصِيّ - بكسر العين والصاد، وتشديد الياء -.
والانفِجار: الانشقاق. والانبِجاس أضيَق منه.
والعَيْن: من الأسماء المشتركة، ويمكن أن يكون استعمالها في بعض المعاني على سبيل المجاز والتشبيه. فالعَين في الحيوان مشبّهة بالعين في الماء في خروج الدمع منها كخروج الماء. وبالعين في الشمس في خروج الشعاع منها.
والأُنَاس جمع لا واحد له من لفظه.
{ وَلاَ تَعْثَوْاْ } أي: لا تفسدوا ولا تطغوا.
وقرئ: اثنتا عشرة - بكسر الشين وبفتحها - وهما لغتان، أولاهما لغة أهل الحجاز. لكن القرّاء السبعة بأجمعهم على إسكان الشين لأنّه أخفّ.
والمعنى: أذكروا نعمة أخرى أنعمها الله عليكم مضافة إلى النعم السابقة. وهي النعمة التاسعة منه تعالى على بني إسرائيل، جامعة للنشأتين. أمّا الدنيا فلشدّة حاجتهم إلى الماء عند الظمإ في التيه، وأمّا الآخرة فلكونها من أظهر الدلائل على وجود صانع، عليم، حكيم، رؤوف، رحيم، وعلى صدْق نبيِّهم موسى (عليه السلام).
{ وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ } أي: سأل الله أن يسقي قومَه ماء، وذلك في الحال التي تاهوا في التيه، فشكوا إلى الله الظمأ، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك الحجَر، وهو عصاه المعروف، وكان من آس الجنّة دفعه إليه شعيب، وكان آدم (عليه السلام) حمله من الجنّة معه إلى الأرض، وكان طوله عشرة أذرع على طول موسى، وله شعبتان تتّقدان في الظلمة نوراً، وبه ضرَب البحر فانفلَق، وهو الذي صار ثُعباناً.
واللام في الحجَر إمّا للعهد والإشارة إلى حجَر معلوم، إذ رُوي أنّه حجَرٌ طوريٌّ حملَه معه، وكان مربّعاً له أربعة أوجه تنبع من كل ثلاثة أعين، لكلّ سبط عين تسيل في جدول إلى ذلك السبط، وكانوا ستّمائة ألف، وسعة المعسكر إثني عشر ميلاً. وكانوا لا يرتحلون مَنقَلة إلاّ وجدوا ذلك الحجَر منهم بالمكان الذي كان به منهم في المنزل الأوّل.
وقيل: أهبطه آدم (عليه السلام) من الجنّة، فتوارثوه حتى وقَع إلى شُعيب (عليه السلام)، فدفَعه إلى موسى (عليه السلام) مع العصا.
وقيل: هو الحجَر الذي وضع عليه ثوبَه حين اغتسل إذ رموه بالأدرة، ففرَّ به فقال جبرائيل: يقول الله تعالى:
"ارفَع هذا الحجَر، فإنّ لي فيه قُدرة، ولك فيه معجزة" فحمَله في مخلاته.
وإمّا للجنس أي: اضرب الشيء الذي يقال له الحجَر. وعن الحسن: لم يؤمر أن يَضربَ حجَراً بعينه قال: وهذا أظهر في الحجَّة، وأبيَن في القُدرة.
وروي أنّهم قالوا: "كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة" فحمَل حجَراً في مخْلاته، فحيث ما نزلوا ألقاه.
وقيل: كان يضربه بعصاه فيتفجّر، ويضربه بها، فييبس.
فقالوا: لو فقد موسى عصاه مُتْنا عطَشاً. فأوحى الله إليه: "لا تقرَع الحجارة وكلِّمها تعطك".
واختلفوا في صفته. فقيل: كان من رخام. وكان ذراعاً في ذراع. وقيل: مثل رأس الإنسان.
وقوله: { فَٱنفَجَرَتْ } الفاء متعلّقة بمحذوف. أي: فضرب فانفجرت. أو: فإن ضربت فقد انفجرت. كما في قوله:
{ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } [البقرة:54] وهي على هذا التقدير فاء فصيحة.
ولا منافاة بين قوله: { فَٱنفَجَرَتْ } هنا، وبين قوله:
{ فَٱنبَجَسَتْ } [الأعراف:160] في سورة الأعراف. لأنّ الانبجاس هو ضرب من الانفجار، إلاّ أنّه أقلّ. وقيل: إنّه لا يمتنع أن يكون أول ما يضرب عليه العصا كان ينبجس الماءُ، ثمّ يكثر حتّى يصير انفجاراً.
وقيل: كان ينبجس عند الحاجة، وينفجر عند الحاجة.
وقيل: كان ينبجس عند الحمل وينفجر عند الوضع.
وقوله: { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } أي: علِم كلّ سبط وكلّ فريق منهم موضع شُربهم. وإنّما علموا ذلك؛ لأنّه كان بأزاء كلّ عين جدول لسبط من الأسباط. ولا يبعد كون كلّ جدول منقسماً إلى جداول صغار حسب تعدّد الطوائف والفِرق الداخلة تحت كلّ سبط. وكون كلّ إنسان مأموراً بأن لا يشرب إلاّ من جدول معيّن، لئلاّ يقع بينهم التشاحّ والتنازع.
وأمّا إضافة المشرب إليهم فإنّه لمّا كان الماء مباحَ الأصل، وقد عُيِّن لكلّ سبط وطائفة ما ظهر من الشقّ الذي يليه، والجدول الذي يخصّه صار ذلك كالمُلك. فصحّت الإضافة إليهم.
وقوله تعالى: { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } على إرادة القول. أي: قلنا لهم، أو قال موسى لهم. وفي الكلام حذفٌ. أي: "كُلوا مِن المَنِّ والسَّلوى واشربوا مِن ماء العيون". أو المراد: "كُلوا ما يتكوّن من الماء من الأغذية، وما ينبت من الأرض من جهة سَقي الماء" فإنّه لما أنعم الله عليهم بإخراج العيون، وجري المياه، فقد أنعم عليهم بالمآكل الحاصلة منها.
وهذه الآية حجّة للمعتزلة على أنّ الرزق هو الحلال، لأنّ الأمر بالأكل من الرزق وقَع من الله. وهذا الأمر إن لم يكن للوجوب، فلا أقلّ للإجابة. فلو تحقّق رزقٌ حرامٌ، لزم كونه مباحاً وحراماً. وهذا غير جائز.
وقوله: { لاَ تَعْثَوا } أي: لا تتمادوا ولا تعتدوا حال إفسادكم. لأنّ العثي ليس إلاّ الفساد.
فصل
في البحث العقليّ
للقائل أن يقول: كيف ينفجر ذلك الماء الكثير من ذلك الحجر الصغير؟
والجواب: انّ الله قادرٌ على جميع الممكنات، وذلك من آيات الله الباهرة. والأعاجيب الظاهرة، الدالّة على صدق أنبيائه ورسله (عليهم السلام)، لكونها معجزة لهم لوقوعها عند سؤالهم. فيظهر منها أشدّ ظهور أنّه هو المنشئ للأشياء، الفاعل لِما يشاء. الذي يتذلّل له الصعاب، ويتسبّب له الأسباب، فلا عجَب من ظهور أمور غريبة في بعض الأزمنة، دالّة على بدائع صُنعه، وغرائب حكمته، وصدق أنبيائه.
ومثل هذا الأمر الغريب بل أغرب وأعجب منه قد وقَع من نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) في بعض الغزوات وقد ضاق بهم الماء، فوضع يده في ميضاة، ففار الماء بين أصابعه حتّى استكفوا.
وإنّما قلنا هذه المعجزةُ أعظَم غرابة من معجزة موسى (عليه السلام)، لأنّ نبوع الماء من الحجَر معهودٌ في الجملة بخلاف نبوعه من الأصابع.
فمن أنكَر أمثال ذلك من الملاحدة، والدهريّة الذين ما عرفوا الصانع العالِم بالكلّيات والجزئيّات،
{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الأنعام:91] فالكلام معهم إنّما يكون في أصل إثبات الصانع، وعلْمه، وقدرته، وشمول علمه لجميع المعلومات، وسَعة قدرته لجميع المقدورات، ولا معنى للتشاغل معهم في الفروع بعد ما خالَفوا في الأُصول.
بقي الكلام في إمكان هذا الأمر، إذ المحال لا يكون مقدوراً، لأنّه لا شيئيّة ولا ذات له حتّى يكون مقدوراً. فنقول:
هاهنا أربعة شقوق:
أحدها: وجود ذلك الماء العظيم مع عظمه في باطن الحجَر.
والثاني: وجوده فيه مع تداخل أجزائه بعضُها في بعض.
والثالث: تكوّنه فيه شيئاً فشيئاً وخروجه منه على التدريج.
والرابع: تكوّنه لا من أسباب طبيعيّة ومدد جسمانيّ، بل من أسباب نفسانيّة وتصوّرات وهميّة. والشقّان الأوليان باطلان، والأخيران جائزان.
أمّا بطلان الشقّ الأول - وهو كون ذلك الماء مع عِظَمه مستكِنّاً في ذلك الحجَر، ثم ظهَر خارجاً عنه - فلأنّ الظرف الصغير لا يحوي الجسم العظيم، لاستلزامه أن لا يكون الكلّ أعظم من جزئه. وهو محال.
وأمّا بطلان كونه موجوداً فيه على نحو التداخل فللدلائل الدالة على استحالة التداخل، سيَّما على وجه التضاعف.
وأمّا إمكان الشقّ الثالث فلأنّ مادّة العناصر قابلة لأن يتكوّن منها الصور الغير المتناهية على التعاقب، فيجوز أن يستحيل بعض أجزاء الحجَر ماء، أو ينقلب الهواء المجاور له إلى الماء بعد نفوذه إليه من المسامات الضيِّقة، كما يجتمع قطرات الماء على الطاس المكبوب على الجَمْد، بسبب انقلاب الهواء إليه، بحيث كلّما زيل عن ظهْر الإناء ينزل ويجري بدله لأجل برودة الإناء.
وأمّا إمكان الشقّ الرابع فلِما بيِّن في موضعه، من تأثيرات النفوس القويّة في مادّة الكائنات بتصويرها أيّة صورة أرادوا، لا من أسباب طبيعية واستعداد مادي، بل بمجرّد إنشاء اختراعيّ، يبرز من مكمَن الغيب إلى عالَم الشهادة - كما بيِّن وحقِّق في مسائل النبوّات -.
ومَن اعتبر أحوال نفسه، وبدنه، هانَ عليه دفْع هذا الاستبعاد، فإنّ مِن شأن مادّة بدننا، وعالَمنا الصغير، أن يحدث ويتكون فيها الحوادث الكونيّة من وجهين:
أحدهما: على مجرى الأمور الطبيعيّة، فيتكوّن فيه أمر من قِبَل أسباب على نحو الإعداد في مادّة قبل مادّة.
وثانيهما: على سياق آخر غير مجرى الطبيعة، بل من جهة فاعليّة وتصوير نفسانيّ تؤثّر في مادّة البدن. كالغضب الشديد. وهو هيئة نفسانيّة تؤثّر في تسخين البدن وتحليل الرطوبات، وربما يحرق الأخلاط. وكالخوف فإنّه برودة في الأعضاء وربما تبطل بسببه الحرارة الغريزيّة، وكالشهوة فإنّها تحدث ريحاً وماءً، لا عن امتلاء طبيعيّ وانتفاخ طبيعيّ. فعلَى هذا قياس نفس العالَم الكبير عند بدنه.
فإن قلت: كيف يكون الشقّ الأوّل وهو وجود الجسم العظيم في المكان الصغير ممتنعاً غير مقدور، وقد روى محمد بن علي بن بابويه القمّي - ره - في كتاب التوحيد بسنده المتّصل: أنّه جاء رجُل إلى الرضا (عليه السلام) فقال: "هل يقدر ربُّك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة؟" قال: "نعم. وفي أصغر من البيضة. قد جعلها كلّها في عينك، وهي أقلّ من البيضة. لأنّك إذا فتحتَها عايَنْتَ السماءَ والأرضَ وما بينهما، ولو شاء لأعمال عنها".
وروى أيضاً محمد بن يعقوب الكليني - ره - حديثاً آخر مثله عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عند سؤال عبد الله الديصاني عن ذلك.
قلت: لا منافاة بين ما ذكرنا وبين المرويّ عنهما (عليهما السلام)، فإنّ كون الأجسام في المشاعِر والمرائي نحو آخر من الوجود، والذي حكَمنا بامتناعه هو وجود العظيم في الصغير في نشأة. فإنّ وجود الأجسام المرئيّة في آلة النفس وجود إدراكيّ يختصّ ظهورها به للمدرك لها دون غيره، بخلاف وجود الأجسام في موادّها الكونيّة.
وتحقيق هذا المقام يفتقر إلى تحقيق معرفة النفس وأحوالها، وكيفيّة علم النفس بالأشياء الخارجة عن ذاتها. ومَن أمعَن في كيفيّة الإبصار - سيّما على الوجه الذي حقّقناه موافقاً للشواهد السمعيّة من الكتاب والسنّة، ومحقّقاً لمسألة المعاد، وحشر الأجساد - لقضى آخر العجَب من ظهور قدرة الله وعجائب صنعه عليه، وسيأتي ذكره عند كلامنا في تفسير آيات المعاد.
والذي يدلّ على صحة ما حمَلنا الرواية المذكورة عليه ما رواه ابن بابويه أيضاً في الكتاب المذكور مسنداً عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) "هل يقدر ربُّك أن يُدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغر الدنيا أو يكبر البيضة؟" فقال (عليه السلام): "إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون".
فهذا الحديث صريح في أنّ الذي سأله ذلك القائل ممتنع بالذات غير مقدور ولا كائن. فلو لم يكن معنى الرواية الأولى ما أوّلناها إليه لكان بين الروايتين تدافع، وجلَّت أحاديث أئمّتنا (عليهم السلام) أن يكون بعضها يناقض بعضاً، لعصمتِهم عن الخطإ.
وروي أيضاً فيه مسنداً عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: "أيقدر الله أن يُدخل الأرض في بيضة ولا يصغر الأرض ولا يكبر البيضة؟" فقال له: "ويلك. إن الله لا يوصف بالعجْز. ومن أقدر ممّن يلطّف الأرض ويعظّم البيضة".
فدلّت هذه الرواية على أنّ دخولَ العظيم في الصغير في نشأة الدنيا لا يمكن إلاّ بأن يصغّر العظيم بالتكاثُف، ويعظّم الصغير بالتخلخُل، وأنّ تصغير الأرض إلى حدّ يكون مقدارها أقل من البيضة، أو تعظيم البيضة إلى حدّ يكون مقداره أكبر من الأرض. غاية القدرة.
تنوير فيه تنبيه
ليس للمتفلسف أن يمنع تكوّنَ الماء من ذلك الحجَر في مقدار من الزمان متعاقباً، بعد ما يرى أنّ الأرض لها مقدارٌ معيَّن ممسوح بمساحة معلومة العدد بالذراعات، والذي يتكوّن من الأرض على التعاقب من أفراد الإنسان، وغيره من الحيوانات، والنباتات، لا يمكن حصرُها وعدّها، سيّما على مذهبه من قِدَم العالَم، وتسَرمد الأنواع المتوالدة، وعدم تناهي أفرادها في الجانبين. فلا نسبة لما يتكوّن من الحجَر إلى الحجَر في جنب ما يتكوّن من الأرض إلى الأرض.
فإن قال قائلٌ: إنّ ما يتكوّن من الأرض من المواليد الثلاثة، فإنّها تعود جثّتها وأجسادُها إليها إذا استحالت تراباً، فلا ينقص مقدارها.
قلنا: وهاهنا أيضاً مثل ما ذكرت على طريق الأولى.
تتمة:
ذكر في التفسير الكبير وجوه دلالة ذلك الانفجار على الإعجاز:
أحدها: نفس ظهور الماء من الصمّاء.
وثانيها: خروج الماء العظيم من الحجَر الصغير.
وثالثها: خروجه بقدْر حاجتهم.
ورابعها: خروجه عند ضرْب العصا.
وخامسها: انقطاعه عند الاستغناء.
فالكلّ من أعظم الدلائل على قدرة الله وحكمته وتصديق رسله (عليهم السلام).