خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٦٤
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

هذه الآية من أرجى الآيات، وأقواها دلالة على رحمته، وتجاوزه عن سيّئات عباده العاصين، لأنّ وقوع قوله: { فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ } إلى آخره عقيب ذكر هذه القبائح الشنيعة، والآثام الرديّة كعبادة العِجل، وكُفران النعمة، وجُحود النبوّة، وإنكار المعجزات الجليّة الواضحة، ونقض الميثاق المؤكَّدة من قِبل الله، وغير ذلك من صفات القلوب القاسية المظلمة يدلّ على كمال رأفته وعفوه.
قال القفّال: قد يعلم في الجملة أنّهم بعد قبول التوراة ورفْع الطور أعرَضوا عن التوراة، وترَكوا العمل بها، ونزَلوا عنها بأمور كثيرة، فحرّفوا التوراة، وقتلوا الأنبياء، وكفَروا بهم، وعصَوا أمرَهم. ومنها ما عمله أوائلهم. ومنها ما فعله متأخّروهم، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً، يخالفون موسى (عليه السلام)، ويعرضون، ويلقونه بكلّ أذى، ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك حتّى أنّه خسف الأرض ببعضهم، وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون. وكلّ هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرؤون بها.
ثمَّ فعَل متأخّروهم ما لا خفاء به حتّى عوقبوا بتخريب بيت المقدس، وكفَروا بالمسيح وهمُّوا بقتْله. والقرآن وإن لم يكن فيه بيان ما تولَّوا به عن التوراة، لكن في الجملة معروفة.
وذلك إخبار من الله عن عناد أسلافهم، فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمّد (صلّى الله عليه وآله) من الكتاب وجُحودهم لحقِّه، وقد ذكر تعالى من أوصافهم ما ذكر.
المعنى:
و { لَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } بعد ما تولَّيتم عن كتابه عقيب تلك الآيات والحُجج { لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } في الدنيا والآخرة. ولكن بفضله ورحمته أمهَلكم، وأدامَكم، لترجعوا إلى التوبة، وتعودوا إليه لعلّكم تفلحون.
وقيل معناه: { فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } بالتوبة بعد إذ نكثْتم الميثاق الذي واثَقتموه، ونبذتُم العهدَ الذي أخذناه عليكم وراء ظهوركم، إذ رفع فوقكم الطور، وأنعم عليكم بالإسلام { وَرَحْمَتُهُ } التي رحمكم بها، فتجاوز عنكم بمراجعتكم إلى طاعة ربّكم { لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ }.
وقال أبو العالية: فضْل الله الإيمان، ورحمته القرآن، فيكون معناه: لولا إقداري لكم على الإيمان، وإزاحة علّتكم فيه لكنتم من الخاسرين.
وقيل معناه: { فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } في رفع الجبَل فوقكم للتوفيق. واللُّطف الذي تبتُم عنده حتّى زالَ العذاب عنكم، وسقوط الجبل عليكم { لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } أي من الهالكين الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم.
ويحتمل أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله: { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ }. ثمّ قيل: { فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } رجوعاً بالكلام إلى أوله. أي: لولا لطف الله بكم في إظهار تلك الآيات من رفْع الجبل وغيره لدُمتم على ردّكم الكتاب ولكنه تفضّل عليكم ورحمكم، فلطَف لكم بذلك حتى تبتُم.
فصل
الخير من الله والشر ليس إليه
قد تقرّر في الأُصول العقليّة أنَّ الخير ذاتيّ له، وهو المعبَّر عنه بالرحمة. والشرور ليست من قبل الله بالذات، بل لأجل قصور بعض الذوات عن قبول الخير والرحمة، وانحرافها عن مسلك الهداية، ولذلك قال تعالى: { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ }.
فحينئذٍ لقائل أن يستشكل ويقول: إنّ كلمة "لولا" تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، فهذا يقتضي أنّ انتفاء الخسران من لوازم فضْل الله تعالى. فحيث حصَل الخسران وجَب أن لا يحصل هناك لطف الله ورحمته. وهذا يقتضي أنّ الله لم يفعل بالكافر شيئاً من اللطف والرحمة. وهذا يخالف ما حقّقه المحقّقون وما ذهب إليه بعض المتكلّمين من أن لطف الله واجب، واقع في حقّ المؤمن والكافر جميعاً.
والجواب المنقول من الكعبي: "إنّه تعالى سوّى بين الكل في الفضل ولكن بعضهم انتفع به دون بعض، فصحّ أن يقال ذلك كما يقول القائل لرجل وقد سوّى بين أولاده في العطيّة فانتفع بعضهم: "لولا أن أباك فضّلكم لكنت فقيراً" وضعّفه صاحب الكبير بأنّ "أهل اللغة نصّوا على أنّ لولا يفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، وهو يقتضي انتفاءه في نفسه لا عدم الانتفاء به مع ثبوته. فكلام الكعبي ساقط".
والذي به ينحلّ الإشكال أن يقال: إنّ الله فعله من قِبَلهِ غير مختلف. فالخير نازل من عنده، والجود مبذول، والرحمة واحدة بالنسبة إلى الخلْق أجمعين لا تبديل لسنّة الله. ولكن الوصول مختلف، لاختلاف الغرائز والفِطَر، لطافة، وكثافة، وسعَة وضيقاً. كالمعلِّم يفيد تعليماً واحداً وتختلف غرائز المتعلّمين في قبول ذلك العلْم، لتفاوت غرائزهم في الذكاء والبلادة، والاستقامة والاعوجاج، والشمس شأنها في التنوير واحد، ومواضع الأرض مختلفة في قبول الضوء.
ففعْل الله ولطفه في المؤمن كفعْله ولطْفه في الكافر. لكن قلب المؤمن أبيَض وأجرَد، وقلب الكافر أسوَد وأكدَر. ولفظ الجود، واللطف، والكرم - وما يجري مجراها - قد يراد بها ما عند الفاعل، وقد يُراد بها ما عند القابل، والذي عند الفاعل واحدٌ لا يختلف. والذي عند القوابل مختلفة.
فمَن قال: "إنّ لطف الله شامل للمؤمن والكافر" أراد به أنه تعالى لا يمسك من جوده ولطفه على أحد. ولم يرد "أن لطفه واصل حاصل عند الكافر، ومع ذلك لا ينتفع به". لأنّ ذلك محال، كما أن يقال: "إنّ ضوء الشمس موجود في سطح من الأرض، ولكن ليس بمستضيء" أو "أثر حرارة النار موجود في جسم كذا، ولكن ليس بمستسخن". ولا شكّ في بطلانه. فكذا ما نحن فيه.
فعلم أنّ الخير مبذول، والرحمة فائضة، واللطف شامل. ألا ترى إلى قوله تعالى مخاطِباً لنبيِّه (صلّى الله عليه وآله):
{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص:56]. مع أنّ شأنه الهداية { { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ } [الروم:52]. إنّك لا تُسمع مَن في القبور مع أنّ شأنه الإسماع.