خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
٦٥
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

{ ٱعْتَدَواْ } أي ظلَموا وجاوزوا ما حدَّ لهم.
و { ٱلسَّبْتِ } من أيام الأسبوع. قال الزجّاج: السبْت قطعة من الدهر يسمّى به ذلك اليوم. وقال أبو عبيدة: سمّي بذلك لأنّه يوم سُبِت به خلْق كلّ شيء، أي قُطِع وقُرغ. وقال قوم: إنّما سمّي بذلك لأنّ اليهود يسبتون فيه، أي: يقطعون فيه الأعمال. وقال آخرون: سمّي بذلك لما لهم فيه من الراحة. لأنّ أصل السبْت هو السكون والراحة. ومنه قوله تعالى:
{ { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } [النبأ:9]. ويقال للنائم "مسبوت" لاستراحته وسكون جسده.
والخاسئ: البعيد المطرود: يقال للكلب إذا دنا: "إخسَأ" أي: تباعَد، وانصرفْ صاغراً.
والكلام فيه حذف مضاف، كأنّه قال: "ولقد علمتم اعتداء مَن اعتدوا في السَّبت" ليكون المذكور من العقوبة جزاء لاعتدائهم، لأنّ الجزاء يكون للفعل لا للذّات.
وحقيقة الاعتداء غير مذكورة هاهنا. والذي يدلّ عليه اللفظ هاهنا أنّه كان أمراً محرّماً فعلُه في السبت. وتفصيله مذكور في قوله تعالى:
{ { وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ } [الأعراف:163]. الآية.
وعن ابن عبّاس: إنّ هؤلاء القوم كانوا في زمن داود (عليه السلام) بـ "إيلة" على ساحل البحر بين المدينة والشام، وهو مكان من البحر يجتمع إليه الحيتان من كلّ أرض في شهر من السَّنة، حتّى لا يرى الماء لكثرتها، وفي ذلك الشهر في كلّ سبْت خاصّة. فحفَروا حياضاً عند البحر، وشرعوا إليها الجدوال، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد، فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم في السبْت، ثمّ إنّهم أخذوا السمَك واستغنوا بذلك، وهم خائفون من العقوبة، فلمّا طال العهد عليهم ونشأت الأبناء فعلت بسُنَّة الآباء واتّخذوا الأموال، فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد في السبت، ونهوهم فلم ينتهوا وقالوا: "نحن في هذا العمل منذ زمان، فما زادنا إلاّ خيراً" فقيل لهم: "لا تغترّوا فربما نزَل بكم العذاب والهلاك" فأصبح القوم وهم قِردة خاسئون، فمكثوا كذلك ثلاثة أيّام ثمّ هلكوا.
وعن ابن عبّاس أيضاً: وكانوا يتعاوون وبقَوا ثلاثة أيام لم يأكلوا، ولم يشربوا، ولم يتناسلوا، فأهلكَهم الله تعالى، وجاءت ريح فهبَّت بهم، وألقتهم في الماء، ولم يتناسلوا وما مسخ الله أُمّة إلاّ أهلكها.
فهذه القِردة ليست من نسل أولئك الممسوخين. وإجماع المسلمين على أنّه ليس في القِردة والخنازير من هو من أولاد آدم، ولو كانت من أولاد الممسوخين لكانت من بني آدم. خلافاً لأهل التناسخ. فإنّهم زعَموا أنّ من الحيوانات كالكلب، والخنزير، والقِردة، ما هو من أولاد الناس الممسوخين.
ومنهم من زعَم أنّ جميع الحيوانات نشأت من الإنسان. قالوا: إنّه باب الأبواب. كل نفس تعلَّقت أوّلاً ببدن إنسان، فإن استكملت بالعلم والعمل تجرّدت إلى عالَم الملكوت. وإلاّ انتقلَت إلى بدن حيوان تُناسبه في الخَلق، وتردّدت في الأبدان إلى أن تزول عنها الهيآت، فتنجوا إلى ذلك العالم.
والغرض من ذكر هذه القصّة - والله أعلم - أمران:
أحدهما: معجزة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، لأنّه لم يخالط القوم ولم يقرأ الكتب. فدلّ ذلك على أنّه عرف من الوحي.
والثاني: الإنذار والتخويف، لئلا يغترّ أحد بالإمهال والتأخير في إنزال العقوبة.
وقوله: { قِرَدَةً خَاسِئِينَ } قال صاحب الكشاف: "هما خبران أي: كونوا جامعين بين القردية والخُسؤ. وهو الصَّغار والطَّرد".
فصل
واعلم أنّ الأمر من الله على ضربين:
تشريعيٌّ وهو المعروف، كقوله تعالى:
{ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } [التوبة:119].
وتكوينيٌّ، كقوله: { كُنْ فَيَكُون }. والمراد هاهنا المعنى الثاني. لأنّهم ما كانوا قادرين على أن يُقلِّبوا أنفسهم على صورة القِردة، فيكون أمراً تكوينيّاً.
ومن هذا القبيل كلمة الله قد يكون ألفاظاً، وقد يكون ذواتاً جوهريّة. كقوله:
{ { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } [النساء:171]. وقد مرّ في المفاتيح تحقيق الكلمة والكلام ممّا لا مزيد عليه.
فصل
هل الآية تنفي القول ببطلان التناسخ؟
وهاهنا بحث عقلي وهو أنّ التناسخ ممتنع بالبراهين القويّة، كما أوردنا في الكتب الحِكمية. فهاهنا إن كانت النفس باقية والصورة متبدّلة، فهو بعينه التناسخ - وهو محال كما عرفت - وإن كان الشخص الذي كان إنساناً قد عُدم ووُجد شخص من القِردة، فكان إهلاكاً للبعض من الناس وإحداثاً للبعض من القِردة.
وقد يدفع الإشكال بما روي عن مجاهد أنّه سبحانه مسَخَ قلوبهم - بمعنى الطبْع والختْم - لا أنّه مسخ صوَرهم، وهو مثل قوله تعالى:
{ { كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [الجمعة:5]. ونظيره أن يقول الأستاذ للمتعلّم البليد الذي لا ينجع فيه تعليمه: "كُنْ حماراً".
واحتجّ على امتناعه بأمرين:
الأول: إنّ الإنسان هو هذا الهيكل المشاهَد والبُنية المخصوصة المحسوسة: فإذا أبطلَها الله وخلَق في تلك الأجسام تركيب القِرد وشَكله، كان ذلك إعداماً للإنسان وإيجاداً للقِرْد. وكان حاصل المسخ على أنّه تعالى أعدَم الأعراض التي باعتبارها كانت تلك الأجسام إنساناً، وخلَق فيها الأعراض التي باعتبارها كانت تلك الأجسام قِرداً. وبالجملة يكون إعداماً وإيجاداً ولا يكون مسخاً.
والثاني: لو جاز ذلك لما آمنّا في كلّ ما نراه قِرداً، أو كلْباً، أو خنزيراً، أنّه كان إنساناً عاقلاً. وذلك يُفضي إلى الشكّ في المشاهدات.
وكلا الوجهين في غاية السخافة، ولا يُدفع بهما إمكان التناسخ.
أمّا الأوّل: فلأنّ الإنسان ليس عبارة عن الهيكل والشكل المحسوس، إذ كثيراً ما يتبدّل الهيكل بالنموّ والذبول، والسمْن والهزال. والشخص بعينه باقٍ لا يتبدّل، والباقي غير الزائل. فالإنسان وراء هذا الهيكل، سواء كان أمراً جسمانياً سارياً في البدن، أو مختصاً بعضو كقلْب، أو دماغ. أو أمراً غير جسماني كما يقوله الفلاسفة. وعلى التقادير فلا امتناع في بقائه مع تبدّل شكله إلى شكل آخر.
وأمّا الثاني: فلأنّ القدح في اليقينيّات، والشكّ في المشاهدات، إنّما يلزم لو جُوِّز أن هذا الكلب، أو القِرد بالفعل إنسان عاقلٌ. وأمّا كونه إنساناً في وقت، وقد انسلخ عن الإنسانيّة وصار كلباً أو حيواناً آخر. فهذا لا يوجب الشكَّ في المشاهدات كيف وهذا - أي القول بالنسخ - مذهب جمع كثير من الفضلاء، وينسب إلى أفلاطن وسقراط، والأقدمين.
وإن وجّهنا نحن كلامَهم إلى غير ما فهِمه الجمهور منه، من أنّ ذلك بحسب النشأة الآخرة، ودار القيامة والبعث، لا في الدنيا، فإنّ انسلاخ النفس عن بدن طبيعي إلى بدن طبيعيّ آخر منفصل عن الأوّل ممتنع. وأمّا تقلّب القلوب، وتحوّل الباطن بحسب رسوخ الأخلاق، والملكات، من نشأة بشريّة إلى نشأة ملكيّة، أو شيطانيّة، أو سبُعيّة، أو بهيميّة، جائزة عند العرفاء المحقّقين، والحكماء الكاملين. وعليه براهين كثيرة ليس هاهنا موضع بيانها.
ومَن لم يعرف حكمة الأقدمين من الحكماء، الذين أنوار حكمتهم مقتبسةٌ من مشكاة النبوّة، حمَل كلامهم في تناسخ الأرواح، وتصوّرها في الآخرة بصور الأبدان، المناسبة لأخلاقها، المكتسبة في هذا العالَم على مذهب التناسخيّة المعروف. وشأنهم أرفع من هذا، بل مذهبهم يوافق مذهب الأنبياء (عليهم السلام) في أنّ النفوس الإنسانية تحشر في الآخرة على صوَر أعمالهم ونيّاتهم، ويحشر الناس على صور مختلفة، وعلى هذا يحمل آيات المسخ والأحاديث الدالّة على ثبوته. ولهذا قيل: "ما من مذهب إلاّ وللتناسخ فيه قدمٌ راسخ".
فإذا تقرر ما ذكرناه فنقول: إنّ ما ذكره مجاهد - وإن كان غير مستبعد جدّاً وله وجهٌ حسن - لا ذكَره بعض المفسرين كالإمام الرازي وغيره: "بأنّه مجاز شائع، فإنّ الإنسان إذا أصرّ على جهالة بعد ظهور الآيات، ووضوح البيّنة، فقد يقال في العُرف إنّه حمار وقِرد. وإذا كان هذا المجاز من المَجازات المشهورة لم يكن في المصير إليه محذورٌ البتّة" - بل لما أشرنا إليه من حقيقة المسخ بحسب الباطن والقلب، كما وجَّهنا إليه كلام الأقدمين من الحُكماء. ولكن مع ذلك لا حاجة بنا إلى العُدول إلى ما ذكَره عن الظاهر المتعارَف.
وذلك لمعنى لطيف نذكره، وهو أنّ مسخ الصورة وتبدّلها على وجهين:
أحدهما: تنتقل النفس من بدن إنسان مثلاً عند موته إلى بدن حيوان آخر حين ولادته، وهو المسخ المعروف عند التناسخيّة وهذا باطل عند المحقّقين.
والثاني: أن يتحوّل شخص واحد من صورته إلى صورة حيوان آخر، كما وقع في بني إسرائيل وهذا جائزٌ لا دليل على استحالته.
والسبب فيه أنّ الأبدان تابعة للنفوس، والأشكال فائضة عليها من المبدإ بوساطة النفوس. ولهذا ما ترى تغيُّرات البدن عند تغيُّرات النفس، من الشهوة والغضب والخوف والفرح وغيرها، فإذن لا إستبعاد من كون بعض النفوس في شدّة خلْقها الرديّ وتأكّدها بحيث تؤثّر في البدن تأثيراً شديداً يشكّل البدن بشكل يناسب ذلك الخلْق، فيكون مسخ الظاهر تبعاً لمسخ الباطن على وجه الاتّصال.
وهذا ممّا كان في أُمّة موسى (عليه السلام)، وسبب هلاك ذلك الممسوخ زوال عقْله، فلا يمكن تدبير بدنه بغذاء يناسبه، فيموت بعد ثلاثة أيّام ونحوها.
ودليل استحالة التناسخ لا يجري في هذا النحو من المسْخ المتّصل، بل يجري في المسْخ المنفصل.
وإنّما لم يكن هذا المسخ في أُمّة محمد (صلّى الله عليه وآله) لعدم رسوخ صفاتهم الرديّة النفسانيّة على ذلك الحدّ، أو لعدم قبول أبدانهم وأمزجتهم ذلك التحوّل في الشكل لاعتدال مزاجهم.
واعلم أنّ مسخ الباطن كثير في هذه الأُمّة، فترى الصوَر صوَر الأناسيّ، والباطن انقلب إلى غير تلك الصوَر من ملك، أو شيطان، أو صورة بهيمة، أو سبُع، وبالجملة صورة حيوان مناسب لما هو باطنه عليه من كلْب، أو خنزير، أو قِرد، أو أسد. وكلّ ذلك يخالف ما فُطر عليه الإنسان في مقام بشريّته الطبيعيّة إما عالٍ أو سافلٍ.
ومسخ البواطن قد كثُر في هذا الزمان، كما ظهَر المسخ في الصورة الظاهرة في بني إسرائيل، حين جعلهم الله قِردة وخنازير. كما دلّت عليه هذه الآية وغيرها، ولا يجوز حملها على المجاز. وما ذكرنا من مسخ الباطن في هذه الأُمّة ممّا يشاهده العارف البصير فيرى الصورة الأخرويّة بعين قلبه لذلك الممسوخ في الباطن.
ولله في العالَم أعين شاهِدة لمثْل هذه الصور المحجوبة عن أعين الناس، كما نقلَه بعض الفضلاء، عن أستاذه أنّه كان في غلَبة الحال، إذ دخل عليه شخصٌ من عُظماء البلد، فقال لخادمه: "أخرِج هذا الحِمارَ من البيت" فتعجَّب التلميذ، وانفعل منه ذلك الرجل. ثمّ سُئل الأستاذ: "لِمَ قلتَ كذا وهو فلانٌ؟" فقال: "إنّي ما قلتُ إلاّ كما رأيت".
ويدلّ على هذا المسخ أيضاً ما ورد في الحديث من قول النبي (صلّى الله عليه وآله) يُخبر عن ربّه في صفة قوم من أمته إنّهم: "إخوان العلانية أعداء السريرة، ألسِنتُهم أحلى من العسَل، وقلوبُهم أمرّ من الصبْر".