خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
٧
-البقرة

تفسير صدر المتألهين

لمّا وصفَ الله تعالى الكفارَ بأخصّ صفاتهم التي كانوا عليها، وهو عدم تأثّرهم عند الانذار والنصيحة، والتهذيب والتعليم للإيمان، بيّن في هذه الآية السبب الذي لأجله لا ينجع فيهم الانذار ولا يؤثّر فيهم التعليم، وهو الختْم على القلوب، للقساوة والفظاظة الأصليّة، والغشاوة على الأسماع والأبصار، للصمم والبكْم الفطريّة. وأنت تعلم أنّ نظام الدنيا لا ينصلح إلاّ بنفوس غليظة، وقلوبٍ قاسية، وطبائع جاسية.
فلو كان الناس كلّهم سعداء بنفوسٍ خائفة من عذاب الله، وقلوبٍ خاشعة خاضعة لآياته، وطبائع لطيفة منفعلة، لاختلَّ النظام بعدم القائمين بعمارة هذه الدار من النفوس الغلاظ الشداد، كالفراعنة والدجاجلة، والنفوس المكّارة كشياطين الانس، والنفوس البهيمية كجهَلة الكفّار.
وفي الحديث الرّباني: إنّي جعلتُ معصيةَ آدم سبباً لعمارة العالَم، وقال سبحانه:
{ { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [السجدة:13].
فكون الناس على طبقةٍ واحدةٍ، ينافي الحكمة والعناية، وهو إهمال سائر الطبقات الممكنة الوجود في مَكمن الإمكان، من غير أن تخرج من القوّة الى الفعل، وخلوّ أكثر مراتب هذا العالَم عن أربابها، فلا يتمشّى النظام، ولا تنصلح العمارة إلاّ بوجود الأمور الخسيسة والنفوس الدنيّة المحتاج اليها هذه الدار، التي يقوم بها أهل الظلمة والحجاب ويتنعّم بها أهل الذلّة والقسوة وسائر الأنعام والدوابّ، المبعدين عن دار الكرامة والنور، المطرودين عن عالَم المحبّة والسرور.
فوجبَ في العناية الأولى والحكمةِ الكبرى، التفاوت في الاستعدادات لمراتب الدرجات، في الشرف والخسّة، والصفاء والكدورة، والعلوّ والدناءة.
وثبت بموجب القضاء اللازم النافذ في القدَر المتحتّم، الحكمُ بوجود السعداء والأشقياء جميعاً، والمؤمنين والكفار والمنافقين كُلاً.
قال بعض المكاشفين: يدخل أهل الدارين؛ السعداء بفضل الله في دارهم، وأهل النار بعدل الله فيها، وينزلون فيهما بالأعمال، ويخلّدون فيهما بالنيّات. وفي المقام أسرار أخرى تركناها الى مقام آخر.
تبصرة
[الختم وقول الأشاعرة فيه]
الخَتْم والكَتْم؛ أَخَوان لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتَم عليه كَتْماً له، والغِشاوة: الغطاء فِعالة من غَشّاه إذا غطّاه. وهذا البناء لِما يشتملُ على الشيء كالعِصابة والعِمامة.
واختلف الناس في هذا الختْم، أما القائلون بالقضاء والقدَر في الكل، فهو من فعل الله من جهة خصوصيّة بعض القوابل المتخالفة الطبائع والصور كما مرّ، ولهم قولان:
منهم من قال: إنّ الختْم هو خلْق الكفْر في قلوب الكفّار، ومنهم من قال: خلْق الداعية التي إذا انضمّت الى القدرة، صار مجموعُ القدرةِ معها سبباً لوقوع الكفر.
والحقّ، أنّ الختم موجودٌ لبعض الكفّار لا للجميع، وهو بمنزلة طبيعة جبليّة لذلك البعض، مستحيل الانفكاك عنه، وتقريره: أنّ الذي يحصل منه الكفر، إمّا أن لا يكون قادراً على تركه، أم يكون. فعلى الأول، كان مبدأ الكفر صفةً لازمة لا من غير اختياره وعلى الثاني كانت نسبة قدرته الى فعل الكفْر وتركه على السواء، فإمّا أن تكون صيرورتها مصدراً لأحد الطرفين دون الآخر، يتوقّف على انضمام مرجّح أَوْلا، وعلى الثاني، يلزم صدور الممكن من غير مرجّح، وتجويزه يؤدّي الى القدح في الاستدلال بالممكن على المؤثّر، وينسدّ منه باب اثبات الصانع، وذلك باطل.
وعلى الأوّل: إمّا أن يكون المرجّح من فعْل الله، أو من فعْل العبْد. وعلى الثاني يلزم التسلسل في الأفعال الاختياريّة للعبد، وهو محال، وعلى الأول، وهو كون المرجّح - ولنسمّه الختْم - من فعل الله، يلزم المطلوب.
فنقول: إذا انضمّ ذلك المرجّح الى تلك القدرة، فإمّا أن يصير صدور الكفر واجباً، أو جائزاً، أو ممتنعاً. والأخيران باطلان، فتعيّن الأول. أما بطلان كونه جائزاً: فلأنّه لو كان جائزاً، لكان يصحّ صدورُه في وقتٍ وتركُه في وقت آخر. فلنفرض وقوعَه - إذ المفروض جوازه والجائز ما لا يلزم من فرض وقوعه محال - فذلك المجموع، تارةً يترتّب عليه الأثر، وأخرى لا يترتّب عليه، واختصاص أحد الوقتين بترتّبه عليه، إمّا أن يتوقّف على انضمام قرينة إليه أوْلا يتوقّف، فإن توقّف، كان المرجّح هو ذلك المجموع مع هذه القرينة الزائدة، لا ذلك المجموع، والمفروض خلافُه، هذا خلف.
وايضاً، فيعود التقسيم في هذا المجموع الثاني، فإنْ توقّف على قيد آخر، لزم التسلسل، وهو محالٌ، وإن لم يتوقّف، حصل ذلك المجموع، بحيث يكون مصدراً تارةً للأثر، وأخرى لا يكون كذلك مع انّه لم يتميّز أحد الوقتين بأمر لا يكون في الوقت الآخر عنه، فيكون هذا قولاً بترجّح الممكن لا عن مرجّح، وهو محال.
فثبت أنّ عند حصول ذلك المرجّح، يستحيل أن يكون صدور ذلك الأثر جائزاً، وأما انّه لا يكون ممتنعاً فظاهر، وإلاّ لكان مرجّح الوجود مرجّحاً للعدم، وهو محال. وإذا بطل القسمان فثبت أنّ عند حصول مرجّح الوجود يكون الأثر واجبَ الوجود عن المجموع الحاصل من تلك القدرة ومن ذلك المرجّح.
وإذا عرفت هذا، كان خلْق الداعية موجبةً للكفر، أو الأمر الجِبِلّي الموجب له، ختماً على القلب، ومنعاً عن قبول الإيمان، فهذا هو السبب الفاعلي، والذي ذكرنا في الفصل المتقدّم هو السبب الغائي لوجود الخَتْم وأشباهه، كالطبع والرَّين والغشاوة والصمَم والبكْم وغيرها، فإنّه تعالى لما حكَم بأنّهم لا يؤمنون، ذكَر عقيبَه ما يجري مجرى السبب الموجب له، لأنّ العلم بالعلّة يفيد العلمَ بالمعلول، والعلمُ بذي السبب لا يكمل إلاّ من جهة العلم بسببه، فهذا قول من أضاف جميعَ المحدَثات الى الله على ترتيب الأسباب والمسبّبات، وأمّا الأشاعرة، فهم بمعزل عن ذكر المرجّح والعلّة ها هنا؛ لانكارهم القول بالعلّة والمعلول مطلقاً.
فصل
[اقوال المعتزلة في المراد من الختم]
وأمّا المعتزلة، فلمّا لم يجوزوا بناءً على أصولهم خلْق الكفر وما يشبهه وما يستدعيه من قِبَل الله تعالى، لا يجوز عندهم إجراء هذه الآية على ظاهرها من المنع من الإيمان، سيّما وقد ذمّ الله كفاراً قالوا: إن على قلوبنا أكناناً وغطاءً وفي آذاننا وقر، فقد التجأوا الى حمل الختْم والغشاوة على أمور أخرى. قالوا: لأن إسناد الختْم الى الله - مع كونه دالاً على المنع من قبول الحقّ والتوصل اليه بطرقه - إسناد أمر قبيح اليه تعالى، والله يتعاظَم عمّن فعَل القبيح علوّاً كبيراً، لعلمه بقُبحه، وعلمه بغناه عنه، وقد نصّ على تنزيه ذاته عنه بقوله:
{ { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ق:29]. { { وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّالِمِينَ } [الزخرف:76]. { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ } [الأعراف:28]. ونظائر ذلك. فذكروا في الآية وجوهاً من المحامل والتأويلات:
أحدها: القصد الى صفة القلوب بأنّها كالمختوم عليها، وأما إسناد الختْم الى الله، فللتنبيه على أنّ هذه الصفة في فرط تمكّنها وثبات قدمها، كالشيء الخَلْقي غير العرَضي، ولهذا قال:
{ { بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ } [النساء:155]. ألا ترى الى قولهم: فلانٌ مجبول على كذا، مفطور عليه؟ يريدون أنّه بليغٌ في الثبات عليه.
وثانيها: إنّه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، والشيطان هو الخاتِم بالحقيقة، أو الكافر. إلاّ انّ الله تعالى لمّا كان هو الذي أقدَرهم على ذلك، أُسند اليه الختْم كما يُسند الفعلُ الى المسبّب.
قال صاحب الكشّاف: إن للفعل ملابسات شتّى، يلابس الفاعلَ والمفعولَ به، والمصدرَ والزمانَ والمكانَ والمسبِّب، فإسناده الى الفاعل حقيقة، والى غيره استعارة، لمضاهاتها الفاعل في ملابسته، فيقال: عيشةٌ راضيةٌ، وشعرٌ شاعرٌ، ونهاره صائمٌ، وطريقٌ سائرٌ، وبنى الأميرُ المدينةَ.
وثالثها: إنّهم أعرضوا عن التدبّر ولم يصغوا الى الذِكْر، وكان ذلك عند إيراد الله تعالى الدلائل، فأضيف ما فَعلوا الى الله تعالى، لأنّ حدوثَه إنّما اتّفق عند ايراده تعالى دلائله عليهم، كقوله تعالى في أهل التوراة:
{ { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [التوبة:125]. أي ازدادوا بها كُفر الى كفرهم.
ورابعها: أن يكون ذلك حكايةً لِما كان الكفَرةُ يقولونه تهكّماً به في قولهم:
{ { قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [فصلت:5].
ونظيره في الحكاية والتهكّم قوله:
{ { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } [البينة:1].
وخامسها: إنّ المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله خالية عن الفطن، أو قلوب مقدّرة ختم الله عليها. ونظيره: سالَ به الوادي: إذا هلك، وطارت به العنقاء: إذا طالت غيبته.
وسادسها: إنّ المراد من الختم من الله على قلوب الكفار، وهو الشهادة منه عليهم بأنّهم لا يؤمنون، وعلى قلوبهم بأنّها لا تعي الذكْر ولا تقبل الحقَّ، وعلى أسماعهم بأنّها لا تُصغي الى الحقّ، كما يقول الرجل لصاحبه: أُريُد أن يختم على ما يقوله فلانٌ أي يصدقه ويشهد بأنّه حقٌّ، فأخبر الله تعالى في الآية الأولى بأنّهم لا يؤمنون، وأخبر في هذه الآية أنّه قد شهِد بذلك وحفِظَه عليهم.
وسابعها: ما قال بعضهم: إنّها جاءتْ في قوم مخصوصين من الكفّار، فعَل الله بهم هذا الختم والطبع في الدنيا عقاباً لهم في العاجل، كما عجّل لكثيرٍ من الكفّار عقوبات في الدنيا، كما قال تعالى:
{ { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة:65]. وقال تعالى { { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } [المائدة:26].
ونحو هذا من العقوبات المعجّلة، لما علم الله فيها من العبرة للعباد والمصلحة لهم. فيكون من هذا ما فَعل بهؤلاء من الختْم والطبْع. إلا أنّهم إذا صاروا بذلك الى أن لا يفهموا، سقط عنهم التكليف كسقوطه عمّن مُسخ. وقد أسقط الله التكليفَ عمَّن يعقل بعض العقل كمن قاربَ البلوغ. ولسنا ننكر أن يَخلق الله في قلوب الكافرين مانعاً يمنعهم عن الفهم والاعتبار، إذا عِلم أنّ ذلك أصلح لهم، كما يذهب بعقولهم ويُعمي أبصارَهم، ولكن لا يكونون في هذا الحال مكلَّفين.
وثامنها: يجوز أن يفعل هذا الختم بهم في الآخرة، وإنّما أخبر عنه بالماضي لتحقّقه وتيقّن وقوعه، كما قد أخبر أنّه يُعميهم، قال:
{ { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } [الإسراء:97]. وقال: { { وَنَحْشُرُ ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } [طه:102]. وقال: { { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ } [الأنبياء:100].
وتاسعها: ما حكوه عن الحسن البصري، - وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي-: أن المراد بذلك علامةٌ وسِمَةٌ وسم بها قلوبُهم وسمعهم، يعرفها الملائكة ويعرفونهم بها أنّهم كفار، فيبغضونهم وينفرون عنهم، كما لا يبعد أن يكون في قلوب المؤمنين علامةٌ يَعرف الملائكةُ بها كونَهم مؤمنين عند الله، كما قال تعالى:
{ { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [المجادلة:22] وحينئذ يحبّونهم ويستغفرون لهم، والفائدة في تلك العلامة، مصلحةٌ تعود الى الملائكة.
وقالوا: وإنّما خصّ السمعَ والقلبَ بذلك، لأن أحدهما للأدلّة السمعيّة، والأخرى للعقليّة.
وهؤلاء لم يحملوا الغشاوةَ في البصَر أيضاً على معنى العلامة والسِّمة، كما حمَلوا الختمَ عليه، محافظة على مقتضى اللغة من غير مانع في الختم، إذ لا مانع من حمْله على معناه، بخلاف الغشاوة، لأنّها الغطاء المانع عن الإبصار، ومعلومٌ من حال الكفّار خلاف ذلك، فلا بدّ فيه من حمله على المجاز، وهو تشبيه حالهم بحال من لا ينتفع ببصره في باب الهداية.
وعاشرها: إنّ أعراقهم لما رسخت في الكفر واستحكمت، بحيث لم يبق لهم طريق الى تحصيل ايمانهم سوى الإلجاء والقَسر، ثمّ لم يقع الإلجاء والقَسْر إبقاءً على غرَضِ التكليف، عبّر عن تركه بالختْم، فإنّه سدٌّ لإيمانهم وفيه إشعارٌ على ترامي أمرهم في الغيّ والضلال، وتناهي انهماكهم في البطلان والوبال. فهذا مجمع ما ذكَروه في هذا المقام.
فصل
[وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ...]
أكثر المفسّرين على أن قوله: { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } معطوفٌ على قوله: { عَلَىٰ قُلُوبِهمْ }، وفاقاً لقوله تعالى:
{ { وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [الجاثية:23], ولِما مرّ من أن الأدلّة السمعيّة لا تستفاد إلاّ من طريق السمع، والأدلّة العقلية لا تستفاد إلاّ من طريق القلب، ولأنهما لمّا اشتركا في الإدراك من جميع الجوانب، جعل ما يمنعهما من خاص فعْلهما، الختم الذي يمنع من جميع الجهات، وإدراك الأبصار لما اختصّ بجهة المقابل، جعل المانع عن فعلها الغشاوة المختصّة بتلك الجهة.
والفائدة في تكرير الجار في قوله: { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ }، لاستقلال كلّ منهما بالحكم، ولأنّها لما اعيدت في السمع، كان أدلّ على شدّة الختم في الموضعين، وإنّما وحّد السمع للأمن من اللبس، كما يقال: أتاني برأس كبشين، وكقوله (عليه السلام): "كُلوا في بعض بطنكم"ولأن السمع مصدر في أصله، والمصادر لا تجمع، فُروُعِيَ الأصل، دلّ عليه جمع الأذُن في قوله:
{ { وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ } [فصّلت:5].
ووجهٌ ثالث: وهو تقدير مضاف محذوف، أي وعلى حواسّ سمعهم، ووجهٌ رابع إنّه محفوفٌ بين الجمعين فيُراد به الجمع أيضاً، كما قال تعالى:
{ { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [البقرة:257]. { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ } [ق:17]. وقرأ ابن أبي عبلة: وعلى أسماعهم.
والأبصار: جمع بصَر، وهو إدراك العين، وقد يطلق على القوّة الباصرة، وعلى العضو، كما يطلق العقل - وهو إدراك الكلّيات - على القوّة الناطقة، وعلى الشخص المحسوس، وهذا ليس من باب المجاز كما زعموه، بل لعلاقة اتّحادية بين الفعل والفاعل، والقوّة وذي القوة، كما بين العقل والعاقل، والنفس والبدن، كما ذهب اليه بعض أعاظم الفلاسفة المسمّى "بفرفوريوس"، ودلّ عليه كلام استاذه معلم الفلسفة القديمة "أرسطاطاليس" في كتابه الموسوم بمعرفة الربوبيّة.
وكذا الكلام في السمع، حيث يطلق على الإدراك وقوّته ومادّته، واختلف الناس في كون أيّهما أفضل، فقيل: السمع، لأنّ الله حيث ذكرهما، قدّمه على البصر، والتقديم علامة التفضيل، ولأنّه شرط النبوّة بخلاف البصر، ولهذا ما بُعث نبيٌّ أصم، وقد كان فيهم مبتلى بالعمى، ولِما مرّ من كونه متصرّفاً في الجهات دون البصر، ولأنّه متى بطل، بطل النطق، والعين إذا بطلت لم يبطل النطق، ولأنّ بالسمع تصل نتايج العقول بعضها الى بعض، فهو كأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف، والبصر لا يوقفك إلاّ على المحسوسات.
أقول: وفي هذا الوجه محل نظرٍ، وكأنّ مراد القائل، إنّ الواسطة بين السمع والعقل أقلّ ممّا بين البصر والعقل، فإنّ العقلَ يفهم المعاني من النقوش والكتابة بواسطة دلالتهما على الألفاظ، ودلالة الألفاظ على الصوَر العقليّة، ويفهمهما من النقوش السمعيّة لدلالتها على الصوَر العقلية بلا واسطة، وكأنّ الهواء بما فيه من صور الألفاظ صحيفة مكتوبة يدلّ على المعاني من غير توسط الألفاظ، لأنّها نفس الألفاظ.
وقيل: بأنّ البصر أقدم، لأن آلة القوّة الباصرة أشرف، ولهذا يقال لهما: كريمتان. وفي الحديث:
"من أحبّ كريمتاه لا يكتبن بالعصر" ، ولأنّ متعلّق القوّة الباصرة هو النور، ومتعلّق القوّة السامعة هو الريح.
أقول: ولأنّ البصر يعمّ إدراكه القريب والبعيد الى فلك البروج، والسمع لا يتعدّى إدراكه عن كرة البخار، ولأنّ إدراك البصر دفعيٌّ وإدراك السمع زمانيّ تدريجيّ، والأول أشرف، لكونه يشبه إدراك العقل والثاني يشبه الحركة والاستحالة، ومعلومٌ أنّ العقل أشرف من الحركة، لأنّه أشرف الجواهر، وهي أخسّ الأعراض، والشبيه بالأشرف أشرف من الشبيه بالأخسّ، فالبصر أشرف من السمع.
فصل فيه ذكر مشرقي
[السمع أشرف من البصر]
لعلك كنتَ ناظراً فيما ذكرنا من قبلُ في المفاتيح الغيبيّة، الفرق بين كلام الله وكتابه، وانّ احدهما - لكونه من عالَم الأمر والإبداع - أشرف من الآخر - لكونه من عالَم الخلْق والتقدير -.
فاعلم أنّ للنفس الإنسانيّة المخلوقة على صورة الكمال، وهي على بيّنة من ربّها، كتاباً وكلاماً وهما يدلاّن على كلام الله وكتابه، يشهدان عليهما، الكلام على الكلام والكتاب على الكتاب، وكل منهما غير صاحبه بوجه، وعينه بوجه آخر، كما مرّ بيانه.
فكلام الحقّ يدرك بالسمع الباطني، وكتابه يدرك بالبصر الباطني.
وأمّا كلام النفس وكتابها، فهما يدرَكان بهذا السمع وهذا البصر الحسّيين الظاهرين.
فإذا تقرّر هذا، ظهر وجهُ كون السمع أقدمَ من البصَرِ في الشرف والفضيلة، ولهذا قُدّم ذكرُه على ذكر البصر في القرآن كما مرّ.
وممّا يزيدك استيضاحاً، أنّ النفس الإنسانيّة متى استيقظت من نوم الجهالة وسِنَة الغفلة، وتجاوزت حدودَ البهيميّة، فأول ما أدركته هو العدد، وبه صارت عادّةً ماسِحة، والعددُ والمساحة من الخواصّ الشاملة للنفس الناطقة، لارتفاع الملائكة العقليّة عنها، وانحطاط النفوس الحيوانيّة عن نيلها.
فالنفس الآدمية هي العادّة الماسحة، كما تقرّر عند القوم؛ فهي في بداية أمرها عرفت مراتبَ العددِ، لتَعلم بها مراتب الملكوت الباطنة، ولكلّ مرتبة منها اسم يخصّه، فتولّدت من مراتب العدد أساميها، لكن بحكم أنّ الكلام إنّما يتأتّى من جهة السمع، فالحروف والأصوات صارت محصّلة لتلك الأسامي تحصيل البسيط للمركب، فكما أنّ الأسامي المركّبة دالّة على أشخاص وأعداد مركّبة، سواء كان في عالَم الحسّ كزيد وعمروٍ، أو في عالم العقل كالمعقول من الإنسان، والفرس والياقوت والعسل وغيرها، فكذا الحروفُ المبسوطة، دالةٌ على أعداد بسيطة، كالعقل والنفس والطبيعة والهيولىٰ.
وأسبق الحروف هي حروف المدّ سيّما الألف، فلذلك صارت حرف أول الموجودات البسيطة الذوات، ثمّ تحصل المركّبات من هذه البسائط، كما تتألّف الأسامي من الحروف الوحدان، وأسامي المفردات وأرقامها من أرقام المفردات بتركيب مفردات كلّ من هذه العوالم العقليّة العدديّة، والسمعيّة اللفظيّة، والحسيّة الرقميّة.
فالأعداد دلائل على عالَم العقل، والحروف بأصواتها دلائل على عالَم المثال البرزخي، والأرقام الماديّة دلائل على عالَم الحسّ والشهادة.
فالعدد وجوده في لوح النفس، والحروف وجودها في صحيفة الهواء النفسي المتحرّك بسبب قوة التكلّم، وإنّما يدركها السمع لا البصَر. والبصَر يدرك نقوشاً كتابية للحروف والأسامي الدالّة عليها، وعلى ما في النفس، فللأشياء وجود في النفس، ووجود في النَّفَس الإنساني، وهو الهواء اللطيف الخارج من باطنه، بإزاء النَّفَس الرحماني المبعث من فيض وجود الحقّ، المنبسط على هياكل الماهيات وصحائف القابليّات، ووجودٌ في الكتابة.
فالأول ليس بمداخلة وضع وتعمّل، بخلاف الأخيرين، والأول قول النفس، والثاني كلامها والثالث كتابها.
فعلى ما قرّرنا من المقدمات، ثبت أنّ الكلام أشرف من الكتابة، كما أنّ القول أشرف من الكلام، فقد تحقّق وتبيّن أنّ السمع أشرف من البصر.
فصل
[اللغة والقراءة]
ذكر صاحب الكشّاف: قرأ "غِشاوةً" بالكسر والنصب، و"غُشاوةٌ" بالضم والرفع، و "غَشاوةً" بالفتح والنصب، و "غِشوةٌ" بالكسر والرفع، و"غَشوةٌ" بالفتح والرفع والنصب، و"عشاوةٌ" بالعين غير المعجمة والرفع من "العشاء".
والغشاوة: هي الغطاء، ومنه الغاشية، ومنه غشي عليه، أي زال عقله، والغشيان: كناية عن الجماع.
والعذاب: مثل النكال بناء ومعنىً، لأنك تقول: أعذَبَ عن الشيء إذا أمسك عنه، كما تقول: نكل عنه، ومنه العَذْب، لأنه يقمع العطش ويردعه، بخلاف المِلْح فإنّه يزيده، ويدلّ عليه تسميتهم إيّاه نُقاخاً لانه ينقخ العطش، أي: يكسره، وفُراتاً، لأنه يرفته عن القلب. ثمّ اتّسع فيه فسمّي كل ألَم قادحٍ عذاباً، وإن لم يكن نكالاً، أي عقاباً يرتدع به الجاني عن المعاودة.
والفرق بين العظيم والكبير: أنّ العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكأن العظيم فوقَ الكبير، كما أنّ الحقير دون الصغير، ويستعملان في الجثث والأحداث جميعا تقول: رجلٌ عظيمٌ وكبيرٌ، تريد جثّته أو خطره، ومعنى التنكير: أنّ على أبصارهم نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات الله، ولهم من بين الآلام العظام نوعٌ عظيم لا يعلم كنهه إلاّ الله.
فصل
[عذاب الكفّار وخلودهم في النار]
اتّفق أهل الإسلام، على أنّه يحسن من الله تعذيب الكفّار وقال بعضهم: لا يحسن، أمّا الفرقة الأولى، فمستندهم ادلّة سمعيّة كالكتاب والخبر والإجماع، وأمّا الفرقة الثانية فمستندهم دلائل عقليّة.
الأول: انّه سبحانه هو الخالق للدواعي التي توجب المعاصي، وذلك لحكمة النظام ومصلحة الخلائق، لما مرّ من أنّ الناس لو كانوا كلّهم صلحاء مؤمنين خائفين من عقاب الله، لاختلّ نظام الدنيا، وبطلت أسباب المعيشة، ولِما بيّنا انّ صدور الفعل عن قدرة العبد، يتوقّف على انظمام الداعية من العلم والإرادة وغيرها، وبعد انضمام الداعي يجب صدور الفعل، وحصول الداعي ليس بقدرته، وإلاّ لكان للداعي داعٍ آخر، ويعود الكلام جذعاً فيتسلسل، وهو محال، أو ينتهي الى داعٍ حصل بخَلق الله لا بقدرة العبد، فإذاً كان الله هو الخالق للدواعي الشيطانيّة التي توجب المعاصي، فيكون هو الملجئ إليها فيقبح منه أن يعاقب عليها.
وربما قرّروا هذا بوجه آخر وقالوا: إذا كانت التكاليف الشرعيّة قد جاءت الى شخصين، فقبلها أحدهما فأُثيب، وخالفها الآخر فعوقِبَ، فإذا سُئِل: لِمَ أطاع هذ وعصى الآخر؟
فيجاب: لأنّ المطيعَ أحبَّ الثواب وحذر العقاب، والعاصي لم يحبّ ولم يحذر، أو لأن هذا أصغىٰ الى مَن وعظه وفهم عنه مقالته، فأطاع، وهذا لم يصغ ولم يفهم، فعَصىٰ.
فيقال: ولِم أحبّ الخير هذا وأصغى وفهم، ولم يكن الآخر كذلك ولم يفهم؟
فيجاب: لأنّ هذا حازمٌ لبيبٌ فطِنٌ، وذاك أخرقُ جاهلٌ غبيٌ.
فيقال: ولِم خُصّ هذا بالعقل والفِطنة دون ذاك؟ ولا شكّ أنّ الفطنة والبَلادة من الأحوال الغريزيّة، فإذا تناهت التعليلات الى أُمور خلَقها الله اضطراراً، فعلم أنّ سبب الطاعة والعصيان، والتوفيق والحرمان، من الأشخاص، أمور واقعة عليها بقضاء الله وتقديره.
وعند هذا يقال: أين من العدل والرحمة أن يخلق في عبد من الفظاظة والقساوة والغباوة والطيش والخُرق ما يوجب عنه صدور العصيان، ثمّ يعاقب عليه، وهذه مما هو مجبولٌ عليه، كما جُبل على أضدادها الطائع.
وأين من العدل أن يسخّن قلب العاصي ويقوّي غضبه ويلهب دماغه ويكثر طيشه، ولا يرزقه ما يرزق المطيع من أستاذ سليم، ومؤدب عليم، وواعِظ مبلّغ، وناصحٍ شفيق، بل يقيّض له أضداد هؤلاء في أفعالهم وأخلاقهم، فيكتسب منهم ما يكسبه المطيع، ثمّ يؤاخذه بما يؤاخذ به اللبيبَ الحازم العالم، البارد طبيعة الراس، الصبور، المعتدل مزاج القلب، الزكي، اللطيف الروح، الدرّاك، يقظان النفس، الحازم. ما هذا من العدل والكرم والرحمة، فثبت بهذا أن القول بالعقاب على خلاف قضيّة العقول.
الثاني: أنّ التعذيب في الآخرة ضررٌ خالٍ من جهات المنفعة، أمّا أنّه ضرر فظاهر، وأما انّه خالٍ عن جهات النفع، فلأن تلك المنفعة إمّا عائدةٌ الى الله او الى غيره، والأول باطل، لتعاليه عن وَسمة التغيّر والانفعال. والثاني أيضاً باطل، لأنها إمّا عائدة الى المعذَّبِ، أو الى غيره، أما اليه فهو محال، لأنّ الإضرار لا يكون عين الانتفاع وأما الى غيره فهو محال، لأنّ دفع الضرر أولىٰ بالرعاية من ايصال النفع، فايصال الضرر الى شخص لغرَض ايصال النفع الى آخر ترجيحٌ للمرجوح على الراجح، وهو باطلٌ.
وأيضاً، فلا منفعة يريد الله ايصالها الى أحد إلاّ وهو قادر عليه بوجوه شتّى، فالإضرار عديم الفائدة.
فثبت أنّ التعذيب ضررٌ خال عن جميع جهات المنفعة، وأنّه معلوم القُبح بديهةٌ، بل قُبحه أجلى في العقول من قُبح الكذب الغير الضارّ، والجهل الغير الضارّ، بل من قُبْح الكذب الضارّ والجهل الضارّ؛ لأنّ الكذب الضارّ وسيلة الى الضرر، وقُبْح وسيلة الضرر دون قبح نفس الضرر.
وإذا ثبت قُبح التعذيب، امتنع صدوره من الله تعالى، لأنّه حكيمٌ، والحكيم لا يفعل القبيح.
الثالث: انّه كان عالماً بأنّ الكافر لا يؤمن، كما اخبر عنه في الآية السابقة، فمتى كُلِّف لم يظهر منه إلاّ العصيان، وهو يكون سبباً للعقاب فكان ذلك التكليف مستعقباً لاستحقاق العذاب، أمّا لأنه تمام العلّة، أو لأنّه شطرها. فوجب أن يكون ذلك التكليف قبيحاً لكونه مستعقباً للضرر الخالي عن النفع، والحكيم لا يفعل القبيح، فوجب أحد الأمرين: إما عدم التكليف أو عدم العقاب وعلى أيّهما فالمطلوب حاصل.
الرابع: إنّه سبحانه، إنّما كلّفنا النفع لعوده إلينا، لأنّه تعالى قال:
{ { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء:7]. فإذا عصينا فقد فوّتنا على أنفسنا تلك المنافع، فهل يحسن في العقول أن يأخذ الحكيم إنساناً ويقول: إني أعذّبك العذاب الشديد لأنك فوّتَ على نفسك بعض المنافع، فإنّه يقول له: إنّ تحصيل النفع مرجوح بالنسبة الى دفع الضرر، فهبْ انيّ فوّت على نفسي أدْوَنَ المطلوبين، فأنت تفوِّت عليَّ لأجل ذلك أعظمها، أو هل يحسن من السيّد أن يأخذ عبده ويقول: إنّك قدرتَ على أن تكتسب ديناراً لنفسك لتنتفع به خاصّة من غير أن يكون لي فيه شيء ألبتّة، فلمّا لم تفعل، فأنا أعذّبكَ وأقطع اعضاءك إرباً إرباً. لا شكّ أنّ هذا نهاية السفاهة، فكيف يليق بأحكم الحاكمين؟!
ثمّ قالوا: هبْ أنّا سلّمنا هذا العقابَ، فمن أين القول بالدوام، وذلك لأن أقسى الناس قلباً وأشدّهم غلظةً وبُعداً عن الخير والرحمة؛ إذا أخذ من بالَغ في الإساءة إليه عذّبه يوماً أو شهراً أو سَنةً، ثم إنّه يشبع منه ويملّ، ولو بقي مواظباً عليه يلومه كلّ أحد ويقال: هبْ أنّه بالَغ في الإساءة والإضرار بك، ولكن الى متى هذا التعذيب؟ فإمّا أن تقتله وتريحه، وإمّا أن تخلصه، فإذا قبح هذا من الإنسان الذي يلتذّ بالانتقام، فالغني عن الكلّ كيف يليق به هذا الدوام الذي يقال؟!
الخامس: أنّه تعالى نهى عبادَه من استيفاء الزيادة، فقال تعالى:
{ { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } [الإسراء:33]. { { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى:40].
ثمّ إنّ العبد هبْ أنّه عصى طولَ عمره، فأين عمره من الأبد، فيكون العذاب المؤبد ظلماً؟
السادس: إنّ العبد لو واظَب على الكفر طولَ عمره فإذا تابَ ثمّ مات؛ عفى الله عنه وأجاب دعاءَه وقبل توبتَه. أترى هذا الكرم العظيم ما بقي في الآخرة، أو عقول اولئك المعذَّبين ما بقيت، فلِمَ يتوبون عن معاصيهم، وإذا تابوا فلِمَ لا يقبل الله توبتَهم؟ ولِمَ لا يسمع دعاءَهم ولِمَ يخيّب رجاءَهم، ولِمَ كان في الدنيا في الرحمة والكرم الى حيث قال:
{ { ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر:60]. { { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل:62]. وصار في الآخرة بحيث كلّما كان تضرّعهم إليه أشدّ، فانه لا يخاطبهم إلاّ بقوله: { { ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون:108]؟!
قالوا: فهذه الوجوه مما توجب القطع بعدم العقاب.
واعلم أنّ أكثرها مبنيّة على أصول المعتزلة من التحسين والتقبيح العقلييّن، وأنّ الأصلح واجبٌ على الله، ولا محيص لهم عنها من جهة العقل.
والأشاعرة أجابوا عن هذه الشُّبه بمنع صحّة تلك الأصول، وبما تواتر من الآيات والأخبار المنقولة من الرسول (صلّى الله عليه وآله)، الورادة في باب خلود الكفّار في عذاب النار.
وأما على أصولنا الحكميّة الإيمانية، فالجواب عنها بما مرّ من أن العقوبة إنّما لحق الكفار، لا من جهة انتقام منتقِمٍ خارجي، يفعل الإيلام والتعذيب على سبيل القصد وتحصيل الغرَض، حتى يرد السؤال في الفائدة وعدم الفائدة او في كون المنفعة عائدة إليه تعالى أو الى العبد، بل العقوبةُ إنّما تلحقهم من باب اللوازم والتبعات والنتايج والثمرات، فهذا هو الجوابُ بحسب الأصول الحقّة عن الإشكال الوارد على أصل العقاب.
وأمّا الإشكال الوارد على دوام العذاب وأبديّته للكفار، فوروده من جهة أخرى غير جهة التحسين والتقبيح، فلذلك كان موجب تحيّر الحكماء ودهشة أفاضل العرفاء، حتّى أنّ الشيخ العارف السبحاني محيي الدين الأعرابي وتلميذه الشيخ صدر الدين القونوي قدّس سرهما، صرّحا القول بانتهاء مدّة العقاب وعدم تسرمد العذاب، وتبعهما غيرهما من شرّاح الفصوص ومن يحذو حذوهم.
قال في الفص الإسماعيلي: "الثناء بصدق الوعْد لا بصدق الوعيد، والحضرة الإلٰهيّة تطلب الثناء المحمود بالذات فيثني عليها بصدق الوعْد لا بصدق الوعيد بل بالتجاوز:
{ { فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } [إبراهيم:47]. ولم يقل: ووعيده: بل قال: { { وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ } [الأحقاف:16] مع انّه توعّد على ذلك.
وقال في الفصّ اليونسي من فصوص الحكم بعدما بيّن فضيلة الإنسان وشرفه بهذه العبارة: "ولا بدّ أن يكون في الإنسان جزء يذكر الحق به، ويكون الحقّ جليس ذلك الجزء، فيحفظ باقي الأجزاء بالعناية، وما يتولّى الحقّ هدم هذه النشأة بالمسمّى موتاً، فليس بإعدام، وإنّما هو تفريقٌ، فيأخذ اليه وليس المراد إلا أن يأخذه الحقّ اليه، واليه يرجع الأمر كلّه، فإذا أخذه الحقّ اليه، سوّى له مركباً من جنس الدار التي ينتقل اليها، وهي دار البقاء لوجود الاعتدال، فلا يموتُ أبداً، أي لا تفترق أجزاؤه، وأما أهل النار، فمآلهم الى النعيم، ولكن في النار، إذ لا بدّ لصورة النار بعد انتهاء مدّة العذاب أن تكون برْداً وسلاماً على مَن فيها، وهذا نعيمُهم، فنعيمُ أهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيمُ خليل الله (عليه السلام) حين ألقي في النار" - انتهى.
وقال في الباب الثامن والخمسين "وأمّا كتاب الفجّار ففي سجّين، وفيه أصول السِّدرة التي هي شجرة الزقّوم فهناك تنتهي أعمال الفجّارْ في أسفل السافلين، فإن رَحِمَهم الرحمٰن من عرش الرحمانيّة بالنظرة التي ذكرناها، جعل لهم نعيما في منزلهم فلا يموتون فيه ولا يحيون، فهم في نعيم النار دائمون مؤبدون كنعيم النائم بالرؤيا التي يراها في حال نومه من السرور، وربما يكون في فراشه مريضاً ذا بؤس وفقْر، ويرىٰ نفسه في المنام ذا سلطان ونَعمة وملك.
فإن نظرتَ الى النائم من حيث ما يراه في منامه ويلتذّ به، قلتَ: إنّه في نعيم وَصَدَقْتَ، وإن نظرتَ إليه من حيث ما تراه في فراشه الخشِن ومرضه وبؤسِه وفقره وكُلُومه، قلت: إنّه في عذاب.
هكذا يكون أهل النار، (لا يموت فيها ولا يحيى) أي لا يستيقظ أبداً من نومته، فتلك (هي) الرحمة التي يرحم الله بها أهل النار الذين هم أهلها وأمثالها، كالمحرور منهم يتنعم بالزمهرير، والمقرور منهم يُجعل في الحَرور.
وقد يكون عذابهم توهّم وقوع العذاب بهم، وذلك كلّه بعد قوله:
{ { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [الزخرف:75] ذلك زمان عذابهم وأخذهم بجرائمهم قبل أن تلحقهم الرحمةُ التي سبقت الغضب الإلٰهي، فإذا اطّلع أهل الجنان في هذه الحالة على أهل النار ورأوا منازلَهم في النار، وما أعدّ الله فيها، وما هي عليه من قُبح المنظَر، قالوا: معذَّبون، وإذا كوشفوا على الحسن المعنوي الإلٰهي في خلق ذلك المسمى قُبحاً ورأوا ما هم فيه من نومتهم، وعلموا أحوال أمزجتهم، قالوا: منعَّمون، فسبحانه القادر على ما يشاءُ، لا إلٰه إلاّ هو العزيزُ الحكيم، فقد فهمت قول الله تعالى: { { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ } [طه:74].
وقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله):
"أمّا أهل النار الذين هم أهل فإنّهم لا يموتون فيها ولا يحيون" انتهى.
وقال في الباب الثامن والخمسين وثلاثمائة من الفتوحات المكيّة: اعلم - أسعدنا الله وإيّاك بسعادة الأبد - أنّ النفس الناطقة سعيدةٌ في الدنيا والآخرة، لا حظّ لها في الشقاء، لأنّها ليست من عالَم الشقاء، إلاّ انّ الله ركبها هذا المركب البدني المعبَّر عنه بالنفْس الحيوانيّة، فهي لها كالدّابة، وهي كالراكب عليها، وليس للنفْس الناطقة في هذا المركب الحيواني إلاّ المشي بها على الصراط المستقيم الذي عيّنه لها الحقّ، فإن أجابت النفس الحيوانيّة لذلك، فهي المركَب الذَّلول المرتاض، وإن أبتْ، فهي الدابّة الجَموح، كلّما أراد الراكبُ أن يردّها الى الطريق، جمَحت وحَرَنَت عليه، وأخذت يميناً وشمالاً لقوّة رأسها، وسوء تركيب مزاجها.
فالنفس الحيوانيّة، ما تقصد المخالفة ولا تأتي المعصية انتهاكاً لحرمة الشريعة، وإنّما تجري بحسب طبعها، لأنّها غير عالمة بالشرع، واتّفق انّها على مزاج لا يوافق راكبها على ما يريد منها.
والنفس الناطقة، لا يتمكن لها المخالفة، لأنّها من عالَم العصمة والأرواح الطاهرة، فإذا وقع العقاب يوم القيامة، فإنّما يقع على النفس الحيوانيّة، كما يَضربُ الراكب دابّته إذا جَمَحَت وخرجت عن الطريق الذي يريد صاحبها أن يمشي بها عليه.
ألاَ ترى الحدودَ في الزنا والسرقة والافتراء، إنّما محلّها النفس الحيوانيّة البدنيّة، وهي التي تحسّ بألم القتل وقطع اليَد وضرب الظَّهر، فقامت الحدود بالجسم، وقام الألم بالنفس الحسّاسة الحيوانيّة التي يجتمع فيها جميع الحيوان المحسّ للآلام.
فلا فرق بين محلّ العذاب من الإنسان، وبين جميع الحيوان في الدنيا والآخرة.
والنفس الناطقة على شرفها مع علمها في سعادتها دائمةٌ، ألا ترى أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قد قام لجنازة يهوديٍّ فقيل له: إنّها جنازةُ يهودي؟! فقال: أليست نَفْساً فما علّل بغير ذاتها، فقام إجلالاً وتعظيماً لشرفها ومكانتها.
وكيف لا يكون لها الشرف وهي منفوخة من روح الله، فهي من العالَم الأشرف الملكي الروحاني، عالَم الطهارة. فلا فَرْق بين النفس الناطقة الموجودة لكل أحد، وانّها ما عصتْ، وإنما النفس الحيوانيّة ما ساعدتها على ما طلبت منها، وانّ الحيوانيّة خوطبت بالتكليف فتتّصف بطاعة أو معصية.
فاتّفق أن كانت جموحاً اقتضاه طبعها لمزاج خاصّ، فاعل ذلك. وان الله يعمّ برحمته الجميع لأنّها سبقت غضبه لما تجاريا الى الانسان" انتهى كلامه.
وقال في الباب الخامس وثلثمائة من الفتوحات أيضاً: واعلم أنّ من الأحوال التي هي الأمّهات من هذا الباب.... أحوال الفطرة التي فطَر الله الخلَق عليها، وهو أن لا يعبدوا إلاّ الله، كما قال:
{ { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء:23] فبقوا على تلك الفطرة في توحيد الله، فما جعلوا مع الله مسمّى آخر هو الله بل، جعلوا آلهة على طريق القربة الى الله، ولهذا قال: { { قُلْ سَمُّوهُمْ } [الرعد:33]، فإنّهم إذا سمّوهم بانَ أنّهم ما عبَدوا إلاّ الله، فما عبَد عابدٌ إلاّ الله في محل الذي نصب الألوهيّة له، فصحَّ بقاء التوحيد لله الذي أقرّوا به في الميثاق، وانّ الفطرة مستصحبة.
والسبب في نسبة الألوهيّة لهذه الصوَر المعبودة؛ هو أنّ الحقّ لمّا تجلّى لهم في أخذ الميثاق، تجلّى لهم في مظهَر من المظاهر الإلٰهيّة، فذلك الذي أجرأهم على أن يعبدوه في الصوَر.
ومن قوّة بقائهم على الفطرة، أنّهم ما عبدوه على الحقيقة في الصوَر، وإنّما عبَدوا الصوَر لِمَا تخيّلوا فيها من رتبة التقرّب كالشفعاء، وهاتان الحقيقتان إليهما مال الخلْق في الدار الآخرة، وهما الشفاعة والتجلّي في الصور على طريق التحوّل.
فإذا تمكّنت هذه الحالة في قلب الرجل، وعرف من العلم الإلٰهي ما الذي دعى هؤلاء الذين صفتُهم هذا وانّهم تحت قهر ما إليه يؤولون، تضرّعوا الى الله في الدياجير، وتملّقوا له في حقّهم وسألوه أن يدخلهم في رحمته إذا أخذَتْ منهم النقمةُ حدَّها، وإن كانوا عمّار تلك الدار فيجعل لهم فيها نعيماً به إذا كانوا من جملة الأشياء التي وسعتهم الرحمةُ العامّة، وحاشى الجنابُ الإلٰهي من النقمة وهو القائل بأنّ رحمتَه سبقتْ غضبَه، فلحق الغضبُ بالعدم فإن كان شيئاً فهو تحت إحاطة الرحمة الإلٰهيّة الواسعة.
وقد قال (صلى الله عليه وآله):
"إنّ الأنبياء (عليهم السلام) يوم القيامة إذا سُئلوا في الشفاعة قالوا: إنّ الله قد غضب اليومَ غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله" ، وهو من أرجى حديث يُعتمد عليه في هذا الباب أيضاً، فإنّ اليومَ المشار اليه - وهو يوم القيامة - هو يوم قيام الناس من قبورهم لربّ العالمين، وفيه يكون الغضبُ من الله على أهل الغضب، وأعطى حكم ذلك الغضب الأمر بدخول النار، وحلول العذاب والانتقام من المشركين وغيرهم من القوم الذين يخرجون بالشفاعة، والذين يُخرجهم الرحمن كما ورد في الصحيح، ويُدخلهم الجنّة إذا لم يكونوا من أهل النار - الذين هم أهلها - ولم يبق في النار إلاّ أهلها الذين هم أهلها، فعمّ الأمر بدخول النار كلّ من دخل فيها من أهلها ومن غير أهلها لذلك الغضب الإلٰهي الذي لن يغضب مثله بعده، فلو سرمدَ عليهم العذابَ لكان ذلك عن غضب أعظم من غضب الأمر بدخول النار.
وقد قالت الأنبياء: إن الله لا يغضبُ بعد ذلك مثل ذلك الغضب، ولم يكن حكمُه إلاّ الأمر بدخول النار، فلا بدّ من حكم الرحمة على الجميع، ويكفي من الشارع التعريف بقوله: "وَأما أهل النار الذين هم أهلها" ولم يقل أهل العذاب.
ولا يلزم من كان من أهل النار الذين يعمرونها أن يكونوا معذَّبين بها، فإنّ أهلَها وعمّارها مالك وخزنتها، وهم ملائكة، وما فيها من الحشرات والحيّات وغير ذلك من الحيوانات التي تبعث يوم القيامة - ولا واحد منها يكون النار عليه عذاباً - كذلك مَن يبقى فيها، لا يموتون فيها ولا يحيون، وكلّ من ألِف موطنه كان به مسروراً، وأشدّ العذاب مفارقة الوطن، ولو فارقَ النار أهلُها، لتعذّبوا باغترابهم عمّا أُهِّلوا له، وأنّ الله قد خلقَهم عل نشأة تألف ذلك الموطن.
فعمّرت الداران، وسبقت الرحمةُ الغضبَ، ووسِعتْ كلَّ شيءٍ - جهنم ومن فيها - والله أرحم الراحمين كما قال في نفسه.
وقد وجدنا في نفوسنا ممّن جَبَلهم الله على الرحمة، أنّهم يرحمون جميعَ عباد الله، حتّى لو حكّمهم الله في خلْقه لأزالوا صفة العذاب من العالَم، ممّا تمكّن حكمُ الرحمةِ من قلوبهم، وصاحب هذه الصفةَ أنا وأمثالي - ونحن مخلوقون أصحاب أهواء وأغراض - وقد قال عن نفسه جلّ علاؤه: انَّه ارْحَمُ الرَّاحِمين، فلا يشك أنّه أرحم منّا بخلقه، ونحن عرفنا من نفوسنا هذه المبالغة في الرحمة فكيف يتسرمد العذابُ عليهم وهو بهذه الصفة العامة؟ إنّ الله أكرمُ من ذلك، ولا سيّما وقد قام الدليلُ العقليّ على أنّ الباري لا تنفعه الطاعات ولا تضرّه المخالفات، وأنّ كلّ شيء جارٍ بقضائه وقدَره وحكمِه، وأنّ الخلْقَ مجبورون في اختيارهم.
وقد قام الدليل السمعي على أنّ الله يقول في الصحيح: "يا عبادي" فأضافهم الى نفسه، وما أضاف قطُّ العبادَ الى نفسه إلاّ مَن سبقت له الرحمة، وأن لا يؤبد عليهم الشقاء فقال:
"يا عبادي، لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم اجتمعوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص من ملكي شيئاً" .
فقد أخبرَ بما دلّ عليه العقل، أنّ الطاعات والمعاصي ملكه، وأنّه على ما هو عليه لا يتغيّر ولا يزيد ولا ينقص ملكه مما طرأ عليه وفيه، فإنّ الكلّ مُلكه ومِلكه.
ثم قال من تمام هذا الخبر الصحيح: يا عبادي، لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كلّ واحد منكم مسألتَه، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. الحديث.
وما نشكّ انّه ما من أحد إلاّ وهو يكره ما يؤِلمه طبعاً، فما من أحدٍ إلاّ وقد سأله أن لا يؤلمه، وأن يعطيه اللذّة في الأشياء، ولا يقدح ما أومأنا اليه في الحديث إذا تعلّق به المنازع في المسألة إدخال "لو" في ذلك، فإنّ السؤال من العالم قد عُلم وقوعه بالضرورة من كلّ مخلوق، فإنّ الطبع يقتضيه، والسؤال قد يكون قولاً، وحالاً، كبكاء الصغير الرضيع وإن لم يعقل عند وجود الألم الحسّي بالوجع أو الألم النفسي لمخالفة الغرَض إذا مُنِع من الثدي، وقد أخذت المسألة حقّها. والأحوال التي ترِدُ على قلوب الرجال لا تحصىٰ كثرته، وقد أعطيناك منها في هذا الباب أنموذجاً على هذا الأسلوب". انتهى كلامه.
وقال العلاّمة القيصري في شرح الفصّ الهودي من الفصوص: اعلم أنّ من اكتحلت عينُه بنور الحقّ، يعلم أنّ العالَم بأسره عباد الله، وليس لهم وجودٌ وصفةٌ وفعْل إلاّ بالله وحولِهِ وقوّته، وكلهم محتاجون الى رحمته، وهو الرحمن الرحيم، ومن شأن من هو موصوفٌ بهذه الصفات، أن لا يعذّب أحداً عذاباً أبديّاً، وليس ذلك المقدار من العذاب أيضاً إلا لأجل ايصالهم الى كمالاتهم المقدَّرة لهم، كما يُذاب الذهبُ والفضّة بالنار لأجل الخلاص ممّا يكدّره وينقص عياره، وهو متضمّن لعين اللطف والرحمة كما قيل:

وتعذيبكم عذبٌ وسخطكم رِضىً وقطْعكم وصلٌ وجوركم عدلُ

والشيخ - رضي الله عنه - إنّما يشير في أمثال المواضع، الى ما فيه من الرحمة الحقّانية، وهو من المطّلعات المدرَكة بالكشف، لا انّه ينكر وجودَ العذاب وما جاءَت به الرسلُ من أحوال جهنّم، فإنّ من يبصر بعينه أنواعَ التعذيب في النشأة الدنيوية بسبب الأعمال القبيحة، كيف ينكر في النشأة الأخرويّة، وهو من أكبر ورثة الرسل صلوات الله عليهم، فلا ينبغي أن يسيء أحدٌ ظنّه في حق الأولياء الكاملين الكاشفين لأسرار الحقّ بأمره". انتهى.
وقال في موضع آخر من شرحه للفصوص: اعلم أنّ المقامات الكليّة الجامعة لجميع العباد في الآخرة ثلاثة، وإن كان كلٌّ منها مشتملاً على مراتب كثيرة لا تُحصى وهي: الجنّة والنار، والأعراف الذي بينهما، على ما نطَق به الكلام الإلٰهي.
ولكل منها اسم حاكم عليه يطلب بذاته أهل ذلك المقام لأنهم رعاياه، وعمارة الملك بهم، والوعْد شامل للكلّ، إذ وعده في الحقيقة عبارةٌ عن ايصال كلّ واحد منّا الى كماله المعيَّن له أزلاً، فكما أنّ الجنّة موعود بها، كذلك النار والأعراف موعود بهما. والإيعاد أيضاً شامل للكلّ؛ فإنّ أهل الجنة إنّما يدخلونها بالجاذب والسائق، قال تعالى:
{ { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق:21]. والجاذب: المناسبة الجامعية بينهما بواسطة الأنبياء والأولياء، والسائق: هو الرحمن بالإيعاد والابتلاء بأنواع المصائب والمحن.
كما ان الجاذب الى النار: المناسبة الجامعة بينها وبين أهلها، والسائق: الشيطان، فعين الجحيم موعود لهم لا متوعَّد بها.
والوعيد: هو العذاب الذي يتعلّق بالاسم المنتقِم، وتظهر أحكامه في خمس طوائف لا غير. لأن أهل النار إما مشركٌ أو كافرٌ أو منافقٌ أو عاصٍ من المؤمنين، وهو ينقسم بالموحّد العارف الغير العامل والمحجوب. وعند تسلّط سلطان المنتقِم عليهم، يتعذّبون بنيران الجحيم كما قال تعالى:
{ { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } [الكهف:29] وَقَالُوا: { { يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [الزخرف:77]. { { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة:86] وقال: { { إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } [الزخرف:77]. { { ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون:108]. فلما مرّت عليهم السِنون والأحقاب، واعتادوا بالنيران ونسوا نعيم الرضوان، قالوا: { { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } [إبراهيم:21] فعند ذلك تعلّقت الرحمة بهم ورفع عنهم العذاب.
مع أن العذاب بالنسبة الى العارف الذي دخل فيها بسبب الأعمال التي تناسبها، عذبٌ من وجه، وإن كان عذاباً من آخر كما قيل: وتعذيبكم عذبٌ - البيت.
لأنه يشاهد المعذِّب في تعذيبه، فيصير التعذيب سبباً لشهود الحقّ، وهو أعلى ما يمكن من النعيم حينئذ في حقّه.
وبالنسبة الى المحجوبين الغافلين عن اللّذات الحقيقة أيضاً، عذْبٌ من وجهٍ، كما جاء في الحديث: إنّ بعض أهل النار يتلاعبون فيها بالنار. والملاعبة لا تنفكّ عن التلذّذ وإن كان معذّباً، لعدم وجدانه ما آمن به من جنّة الأعمال التي هي الحُور والقصور.
وبالنسبة الى قوم يطلب استعدادهم البُعدَ من الحقّ والقربَ من النار - وهو المعنيُّ بجهنم - أيضاً عذبٌ وإن كان في نفس الأمر عذاباً، كما يشاهد ها هنا ممّن تقطع سواعدهم وترمى أنفسهم من القلاع مثل بعض الملاحدة.
وقد شاهدتُ رجلاً سُمِّر في أصول أصابع إحدى يديه خمسةُ مسامير، غلظ كلّ مسمارٍ مثل غلظ القلم، واجتهد المسمِّر ليخرجه من يده فما رضِيَ بذلك، وكان يفتخر به وبقيَ على حاله الى أنّ استدركه الأجل.
وبالنسبة الى المنافقين الذين لهم استعداد الكمال واستعداد النقص وإن كان أليماً لإدراكهم الكمال وعدم إمكان وصولهم إليه، ولكن لما كان استعداد نقصهم أغلب؛ رضَوا بنقصانهم، وزال عنهم تألّمهم بعد انتقام المنتقِم منهم بتعذيبهم، وانقلب العذاب عذْباً، كما يشاهدَ ممّن لا يرضى بأمر خسيس أولاً، ثم إذا وقع فيه وابتلي به وتكرّر صدورُه منه، تألّف به واعتادَ فصار يفتخرُ به بعد أن كان يستقبحه.
وبالنسبة الى المشركين الذين يعبدون غير الله من الموجودات، فينتقم منهم لكونهم حصروا الحقّ في ما عبدوه، وجعلوا الإلٰه المطلق مقيّداً، وأمّا من حيث انّ معبودهم عين الوجود الحقّ الظاهر في تلك الصورة، فما يعبدون إلاّ الله، فرضي الله عنهم من هذا الوجه، فينقلب عذابهم عذباً في حقهم.
وبالنسبة الى الكافرين أيضاً، وإن كان العذاب عظيماً، لكنهم لم يتعذّبوا به لرضاهم بما [هم] فيه، فإنّ استعدادهم يطلب ذلك كالأتوني الذي يفتخر بما هو فيه، وعِظَم عذابه بالنسبة الى من يعرف انّ وراء مرتبتهم مرتبة، وانّ ما هم فيه عذابٌ بالنسبة إليها.
وأنواع العذاب غير مخلّد على أهله من حيث إنّه عذاب، لانقطاعه بشفاعة الشافعين، وآخر من يشفع هو أرحم الراحمين، كما جاء في الحديث الصحيح، ولذلك ينبت الجرجير في قعر جهنّم لانطفاء النار وانقطاع العذاب، وبمقتضى "سبقتْ رحمتي غضبي" فظاهر الآيات التي جاءت في حقّهم بالتعذيب، كلّها حقٌّ، وكلام الشيخ لا ينافي ذلك، لأنّ كون الشيء من وجه عذاباً لا ينافي كونه من وجه آخر عذْباً. وإنّما بسطتُ الكلام لئلا ينكر على هذا الخاتَم المحمدي فيما أخبر، فإنّ الأولياء - رضوان الله عليهم - ما يخبرون إلاّ ما يشاهدونه يقيناً من أحوال الاستعدادات في الحضرة العلميّة، وعوالم الأرواح والأجساد، لعلْمهم بالحقائق وصوَرها في كل عالَم. والله أعلم" انتهى كلامه بألفاظه.
وممّا يدل أيضاً على نفي تسرمد العذاب، حديث: سيأتي على جهنّم زمانٌ ينبت في قعرها الجرجير، وذكر البغوي المشهور بمحيي السُنَّة، في معالم التنزيل، في تفسير قوله تعالى:
{ { ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ } [هود:108] أنه قال ابن مسعود: ليأتينّ على جهنّم زمانٌ ليس فيها أحدٌ، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً.
فصل
[احتجاجات القائلين بالخلود في النار والنافين له]
واعلم أنّ القائلين بنفي تخليد الكفّار في العذاب، زعموا أن لا دليل يفيد القطع واليقين في تخليدهم في العذاب، أما التمسك بالدلائل اللفظيّة، فلا يفيد اليقين، بل يفيد الظنّ. والدلائل العقليّة في مقابلها تفيد اليقين، والمظنون كيف يعارض المقطوع؟ وإنّما قلنا: "إنّ الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين" لأنها مبنيّة على أصول كلّها ظنيّة، والمبنيّ على الظني لا يكون إلا ظنيّاً. وإنّما قلنا إنّها ظنية، لأنها مبنيّة على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف. ورواةُ هذه الأشياء لا يُعلم بلوغُهم الى حدّ التواتر، فكانت روايتهم مظنونة.
وأيضاً، فهي مبنيّة على عدم الاشتراك، وعدم التخصيص، وعدم الاضمار بالزيادة والنقصان، وعدم التقديم والتأخير، وكلّ ذلك أمور ظنيّة، وأيضاً فهي مبنيّةٌ على عدم المعارض العقليِّ، فإنّ بتقدير وجوده لا يمكن القول بصدقهما ولا بكذبهما معاً، ولا يمكن ترجيح النقل على العقل، لأنّ العقل أصل النقل، فالطعن في العقل يوجب الطعنَ في النقل والعقل معاً، لكن عدم المعارض العقليِّ مظنون. هذا إذا لم يوجَد، فكيف [وقد] وجَدنا ها هنا دلائل عقليّة على خلاف هذه الظواهر.
فثبت أنّ دلالة هذه الدلائل النقليّة ظنيةٌ، وأما أنّ الظنيَّ لا يعارض فلا شك فيه.
الثاني: هو إنّ التجاوز عن الوعيد مستحسنٌ فيما بين كما مرّ في كلام صاحب الفصوص، قال الشاعر:

فإنّي إذا أوعدتُه أو وعدتُه لمُخِلفُ معيادي ومُنجزُ موعدي

بل الإصرار على تحقيق الوعيد كأنه يُعدّ لؤماً. وإذا كان كذلك وجب أن لا يقبح من الله تعالى وهذا بناءً على حرفٍ، وهو أنّ كثيراً من أهل الإسلام جوّزوا نسخ الفعل قبل مضيّ مدّة الامتثال، وحاصل حرفهم فيه، أنّ الأمر يحسن تارةً لحِكمة تنشأ من نفس المأمور به، وتارةً لحكمة تنشأ من نفس الأمر، فإنّ السيد قد يقول لعبده: إفعل الفعلَ الفلاني غداً وإن كان يعلمُ في الحال انّه سينهاه غداً، ويكون مقصوده من ذلك الأمر أن يُظهر العبدُ الانقياد لسيّده، ويوطّن نفسه على طاعته، وكذلك إذا علم الله من العبد أنّه سيموت غداً، فإنّه يحسن عند هؤلاء القوم أن يقول: صلّ غداً إن عشتَ. ولا يكون المقصود من هذا الأمر تحصيل الأمور به لأنه ها هنا محالٌ، بل المقصود حكمةٌ تنشأ من نفس الأمر فقط. وهو حصول الانقياد والطاعة وترك التمرّد.
وإذا ثبت هذا فنقول: لِمَ لا يجوز أن يقال: الخبر أيضاً كذلك، فتارةً يكون منشأ الحكمة من الإخبار هو الشيء المخبَر، وذلك في الوعد، وتارة يكون منشأ الحكمة هو نفس الخبر، لا المخبَر عنه؛ كما في الوعيد، فإن الإخبار على سبيل الوعيد، مما يفيد الزجر عن المعاصي والإقدام على الطاعات، فإذا حسن هذا المقصود، جاز أن لا يوجد المخبَر وعند هذا قالوا: إن وعد الله الثواب حقّ لازمٌ، أما توعيده بالعقاب فغير لازمٍ، وإنما قصد به صلاح المكلّفين، مع رحمته الشاملة لهم كوالد يهدّد ولده بالقتل والسَّلِّ والقطع والضرب، فإن قَبل الولدُ أمره فقد انتفع، وإن لم يقبل؛ فما في قلب الوالد من الشفقة يرده عن قتله وعقوبته.
فإن قيل: فعلى جميع التقادير ذلك كِذباً، والكذب قبيحٌ.
قلنا: لا نسلّم أنّ كلّ كذْبٍ قبيحٌ، بل القبيح هو الكذب الضارّ، أما الكذْب النافع فلا، ثمّ - إن سلّمنا - لكن لا نسلم انّه كذبٌ.
أليس أن جميع عمومات القرآن مخصوصة ولا نسمّي ذلك كذْباً؟ أليس أنّ كل المتشابهات مصروفة عن ظواهرها وعند الأكثر لا يسمّى ذلك كذباً؟ فكذا ها هنا.
الثالث: أليس أن آيات الوعيد في حقّ الكفار مشروطة بعدم التوبة، وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً في صريح النصّ، فهي أيضاً عندنا مشروطة بعدم العفو، وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً صريحاً.
أو نقول: معناها: أن العاصي يستحق هذه الأنواع من العقاب، فيحمل الإخبار عن الوقوع الى الإخبار عن استحقاق الوقوع، فهذا جملة ما يقال في تقرير هذا المذهب.
وأما الذين أثبتوا وقوعَ العذاب، فقالوا: إنّه نقل إلينا على سبيل التواتر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقوع العقاب، فإنكارُه يكون تكذيباً للرسول صلوات الله عليه وآله، وتفتيحاً لأبواب القدح في نصوصيّة القرآن، فغير مسموع، والله الهادي الى سبيل الصواب وبيده مفاتيح الأبواب.