خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

الۤـمۤ
١
-السجدة

تفسير صدر المتألهين

فضل سورة السجدة
فهذه يا أخواني طائفة من رموز قرآنية، ومعاني نكات ربوبية، متعلقة بسورة السجدة، أفاضها الله على قلب هذا المسكين، وهي قطرة من بحرها الزاخر، ولمعة من بدرها الزاهر، فإن هذه السورة كأكثر أخواتها مشتملة على عظايم المسائل الإلهية، التي هي غاية العلم والعرفان، وشرائف علوم النفس الآدمية التي هي أساس السلوك إلى الله العزيز المنّان، والنفس سلّم العروج إلى واجب الوجود، وصراط الوصول إلى الملك المعبود، وهي السالك والمسلك، والعارج والمعراج، بحسب درجاتها وأدوارها ومراتبها وأطوارها، وغاية مرتبتها الوصول إلى درجة النبوة، ومشاهدة الوحي الصريح والإلهام الصحيح، وتلقي المعارف كفاحاً من الملك الموحي، بالإلقاء السبّوحي.
وقد ذكر فيها كيفية الوحي والتنزيل، التي هي أشرف أجزاء علم المعاد، وعلم النبوات، ثم بيّن كيفية خلق السموات والأرض وما بينهما، التي هي خلاصة علم السماءِ والعالم، وهو أحد المسالك المقررة في علم التوحيد المشار إليه بقوله:
{ { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [فصّلت:53].
ثم أشار إلى استوائه على العرش، وتدبيره الأمر من السماء إلى الأرض بإيجاده أسباب الكاينات من الحركات والاستعدادات لخلق المواليد من الحيوان والنبات، وهو معظم أبواب الحكمة الطبيعية الموجبة لمعرفة دقايق صنع الله في إيصال رحمته إلى كل موجود من الموجودات، وإحاطة علمه بكل ذرّة من الذرّات، وقد وقع في كثير من الآيات الفرقانية الحث على التأمل في هذه الصنايع، والتدبر في هذه المخلوقات العظيمة بقوله:
{ { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ } [الروم:8] ووقع أيضاً فيه المدح العظيم لمتأمليها بقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ... وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [آل عمران:191].
ثم أشار إلى الغرض الأصلي من خلقه المركّبات، وهو العروج إليه والوصول إلى باب معرفته ومجاورة مقربيه، وأشار إلى بدء وجود النفس الإنسانية التي هي الصاعدة إليه بنور العلم والهدى، العارجة إلى بابه بقدم الصبر والتقوى، بعدما أثنى على ذاته بأنه:
{ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [السجدة:7]، لكونه أوجدها على وجه يؤدي إلى الخير التمام وحسن النظام، وينتج وجودها وجود نوع الإنسان المهتدي بنور المعرفة إلى سبيل الله المنّان، الواصل إلى روضة الرضوان ونعيم الجنان ومجاورة الرحمن.
ثم أفاد وأفاض كيفية إرتقاء النفس إليه، وفنائها عمّا وقعت فيه من الحياة العاجلة، وأشار إلى الملك المتوفي لها عن هذه الدار الفانية المحيي إياها بإذن الله تعالى في الدار الآخرة، السائق لها بسوط "ارجعي" إلى جوار ربها.
ثم أشار إلى أقسام النفوس بحسب السعادة والشقاوة الآجلتين، وهو عمدة علم المعاد، الذي هو أجلّ معارف الإنسان، وأعظم قواعد الإيمان، بعد معرفة المبدأ الديّان، وهما أعظم دعائم الحكمة والعرفان، وأحكم أساطين العلم بأسرار القرآن.
ثم أكد بيان هذه المعارف، كما هو دأبه سبحانه بتفصيل أحوال الأشقياء والسعداء، وبيان الوعد والوعيد لزيادة الإهداء والحث على الإرتقاء من هذه الوهدة الظلماء، والمقبرة الغبراء.
وقبل أن نخوض في غرض المرام، نمهّد مقدمة تناسب المقام.
تمهيد فيه تشييد
إعلم أيها القارئ، أن القرآن، وسيّما هذه السورة التي نحن بصدد تبيينها إن شاء الله، هو نور يهتدي به في ظلمات البر والبحر، ودواء من كل داء وضر، إذا رفع نقاب العزة عن وجهه، وكشف جلباب العظمة والكبرياء عن لبّه وحقيقته، وانقشع سحاب الاحتجاب ورفع الاختفاء والتمنع عن وجوه شموس آياته ورموزه، وأنوار تجلّياته وكنوزه، يشفي كل عليل داء الجهل والشقاوة، ويروي كل غليل طلب الحق والسعادة، ويداوي كل مريض القلب بعلل الأخلاق الذميمة المزمنة، وأسقام الجهالات المهلكة، وتنور بنور أبصار بصائر القلوب، ويستعد للقاء الله علاّم السراير والغيوب، كما قال الله تعالى:
{ { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [المائدة:15 -16].
وقد روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم):
"القرآن هو الدواء" .
وروي عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم): "القرآن غِنىً لا فقر بعده" .
والقرآن هو حبل الله المتين الذي نزل إلى العالم الأسفل، لنجاة المحبوسين في سجن الدنيا، المقيدين بسلاسل التعلقات وأغلال الأثقال والأوزار، من حُب الأهل والولد والمال، وشهوة البطن والفرج والحرص والآمال، وخسران الآخرة والمال لوجدان العاجل والحال، وهو مع عظمة قدر حقيقته ومغزاه، ورفعه سره ومعناه، مما تلبّس، بلباس الحروف والأصوات، واكتسى بكسوة الألفاظ والعبارات، رحمة من الله وشفقة على عباده وتأنيساً لهم، وتقريباً إليهم، وإلى أفهامهم، ومداراة معهم، ومنازلة إلى أذواقهم، وإلاَّ فما للتراب ورب الأرباب، ففي كل حرف من حروفه ألف غنج ودلال، وغمز وجلب قلوب لأهل الأحوال، فوقع فيه النداء لتخليص الأُسَراء من قيد هذا المهوى، وسجن هذه الدنيا، بقوله: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الذاريات:55].
فبسطت شبكة الحروف والأصوات، مع حبوب المعاني لاصطياد طيور السموات، ولكل طير من طيور النفسانية رزق خاص معلوم، كما لكل مَلَك في السماء والأرض مقام معلوم، يعرف ذلك منشئها ومبدعها، وإنما الغرض الأصلي من بسط الشبكة في الأرض اصطياد نوع خاص منها برزق مخصوص معلوم من العلوم، ولب حب خاص من لبوب الحبوب دون غيرها:
{ { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [البقرة:6] وإلاَّ فما من رزق إلاَّ ويوجد في القرآن نوع من لبّه وقشره، وأصله وفرعه، وسنبله وتبنه، متاعاً لكم ولأنعامكم، لقوله تعالى: { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [الأنعام:59].
فكما يوجد فيه من الحقائق الربّانية القدسية، التي كانت معرفتها غذاءً للأرواح العالية العقلية، ففيه أيضاً توجد المعارف الجزئية، والأحكام السياسية، والقصص والأخبار، والحكايات التي ينتفع بها المتوسطون في درجة النجاة من عامة أهل الإسلام، الذين لهم في النشأة الثانية ضرب من الحياة، دون المرتبة التي للهداة المقرّبين، الأحياء بالحياة العقلية بالذات، ففيه الأغذية الروحانية والجسمانية الأخرويتين، المبقية للحياتين العقلانية والنفسانية، لأهل المنزلتين والجنتين، وفيه أيضاً ما به صلاح هذه النشأة الدنياوية، كالقصاص والديات والمواريث.
وقد نظمت أبياتاً فارسية في وصف القرآن، وكونه غذاءً سماوياً يختص الإغتذاء به لأرواح أهل المحبة الإلهية من نوع الإنسان، أوردت بعضاً منها ها هنا، وهي هذه:

هست قرآن جون طعامى كزسما كشته نازل از براى اغتذا
اغتذاى آدمش از لوح وقلم اغتذا يابد دواب از راه فم
"في السماء رزقكم" كفته خدا رزق انسان كشته نازل از سما
روزى انسان رسد از آسمان روزى حيوان بود ازآش ونان
توز قرآن بنكرى افسانها قشروكه بينى نه مغز ودانه ها
هست بهر آدمى دهن ولبوب تبن وقشر ازبهر حيوان نى حبوب
توزقرآن مى نجوئى غير حرف جان دهى بهر لغت يانحو وصرف
اندر سعيى هميشه باشتاب كه نباشد فرق ازتو تا دواب

هيهات، أنك لست من أهل القرآن حتى ينكشف لك أسراره واغواره، لتعرف أنه ما من شيء إلاَّ وفيه بيانه وتبيانه، ولو كان من باطنك طريق إلى عالم النور والملكوت القرآني، لتجلّى لك قوله: { { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر:9]، ولكنت ذا خشية إلهية لازمة لإدراك عظمة الله، وذا خشوع قلبي لازم لفهم عظمة كتابه القرآني ومعاني آياته لقوله: { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [الحشر:21].
وخطابات القرآن مما يختص بأحبّاء الله والمتألّهين والمقرّبين، لا المبعدين الناكرين الجاحدين، ممن ليس لهم نصيب في القرآن، ولا لهم اغتذاء بلبوب معانيه وحقايقه المبقية للنفوس الملكوتية في دار الحيوان:
{ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [العنكبوت:64]. كما قلت نظماً.

جون غذا با مغتذى باشد شبه كاو وخررا خوش نيايد جزكه كه

{ { قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [العنكبوت:63]. وهم عن السمع لمعزولون. { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [الأنفال:23].
ومعظم الآفات الحاجبة للإنسان عن دَرّك حقايق القرآن، الاغترارُ بظواهر الأخبار، والاحتجاب بأوائل الأنظار، من دقائق العلوم الجزئية، ومعارف الأحكام الفرعية، وإلاَّ فما من شيء إلاَّ وفي القرآن ما يكشف عن حقيقة ذاته، ويسهل السبيل إلى نيل كنه صفاته، لكنك أيها المغرور المسرور بما عندك من القشور، محجوب عنه لجحودك بما سوى ما سمعته من المشهور، أو فهمته من الزبور، فغاب عنك الخبر المبرور، والحظ الموفور، كل ذلك لإعراضك عن العلوم الربانية، وأسرار التنزيل من الحكمة الإلهية التي من يؤتها فقد أُوتي خيراً كثيراً، وإغفالك عن أن حقايق الكتاب مما لا يعلمه إلاّ الراسخون في العلم، لا المشتغلون بدقائق علم العربية، وفنون الصنائع الأدبية، كالزمخشري وأترابه، فإنهم في واد، وأهل القرآن - وهم أهل الله وخاصته - في واد.
ثم إنك أيها المغتر بفطانتك البتراء، لو أنصفت قليلاً، وزالت عنك غشاوة المراء والإمتراء، لعلمت أن المشار إليهم بقوله تعالى:
{ إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [الشعراء:212] كانوا عارفين بدقائق علم الألفاظ وفنون تأدية الكلام، على ما يوافق المرام، لأنهم من العرب العرباء، وفصحاء الدهناء بل إنما انعزالهم عنه لعدم استعدادهم للاهتداء بأنوار القرآن، والإرتقاء إلى أعلام الحقيقة والعرفان، والاطلاع على أسرار المبدأ والمعاد، والوصول إلى عالم الملكوت والتقرب بالحق الجواد.
ثم لا يخفى على أُولي النُهى، أن تولي مثل أبي لهب وأبي جهل وغيرهما عن القرآن، وانعزالهم عن السمع، ليس من جهة عدم فهمهم ترجمة القرآن، أو عدم اطّلاعهم على ظاهر العربية وقواعد النحو والصرف وعلم البيان، ولا لأجل الصمم في آذانهم الجسمانية، والعمى في أعينهم البدنية، والبكم في قلوبهم الحيوانية، ولكن لأنهم كانوا من أهل الغفلة والحجاب الكلي، عُمي القلوب عن مشاهدة الحقايق، صُمّ العقول عن سماع ذكر الحبيب، بُكْم الأرواح عن قبول دعوة الإله، واستدعاء طلب التقرب إلى الحق بالإعراض عما سواه، كما أخبر عنهم بقوله:
{ { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [البقرة:171].
والقرآن غذاء للقلوب الصافية، وبلاء للنفوس المريضة بداء الجهالة لقوله تعالى:
{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [فصّلت:44].
وليس المراد بالإيمان في هذا المقام، ما هو بحسب الظاهر، وإلاّ لما وقع التكليف به للموصوفين بهذا الظاهر في قوله تعالى:
{ { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ } [النساء:136]. ولا شبهة في أن المشتغلين بالدنيا المنهمكين في اللّذات، ليسوا من أهل الاهتداء بنور القرآن، ولا يمكنهم الإرتقاء إلى نشأة العرفان: { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ سُوۤءُ ٱلْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ * أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [الرعد:18 - 19].
وإلى ذلك أشير في قول سقراط - وهو أحد أساطين الحكماء، الذين اقتبسوا أنوار الحكمة من مشكاة بواطن النبوة -: "البدن الذي ليس بالنقي كلما غذوته فقد زدته شراً ووَبَالاً". وقد ذكر المفسرون لكلامه، أن المراد منه الإشارة إلى كيفية اقتناء العلوم الربانية، التي يتوقف الاستكمال بها على تصفية السر عن محبة الشهوات، وتخلية الباطن عن الوساوس والكدورات، وهو أيضاً دواء نافع للعقول السليمة، وسم ناقع للبواطن المؤوفة الشريرة السقيمة بسقم الجهل المركب المشفوع بالعناد والجدل واللداد، وحب الجاه والشهرة والاستيناس بالناس، الذي هو من علامة الإفلاس، ولذلك قال الله تعالى:
{ { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } [البقرة:26]. وأشير أيضاً إلى أهل الحجاب الكلّي بقوله تعالى { { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [يس:9]، وقوله تعالى: { وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } [الإسراء:45].
وأشير إلى المعاندين الجاحدين للحق، وهم أسوأ حالاً بقوله:
{ { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِيۤ أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الإسراء:45].
وقوله تعالى:
{ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً ٱتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَـٰذَا هُدًى وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } [الجاثية:7 - 11].
وقد ذكر بعض أهل الحق، أن العلم علمان، علم باللسان، وعلم بالقلب.
وإني لأستعيذ بالله الرحمن، من رجل شرير عليم اللسان، جهول القلب، المترفع على الأقران لأجل تقرب السلطان، والاشتهار عند العوام، وهم العميان عن فهم درجات أحوال الإنسان، والتفاوت في خلق الرحمن، فوامصيبتاه من علماء الجهالة، وصلحاء الإفساد، الذين هم من علماء الدنيا وجهّال الآخرة، المتذكرين لآداب صحبة الخلق، الناسين لآداب صحبة الرب، المقبلين إلى دقائق علوم الدنيا، المعرضين عن حقائق علوم الآخرة.
بل أقول: ما فتنة في الدين وخلل في عقايد المسلمين، إلاَّ ومنشؤها مخالطة العلماء الناقصين، مع حكماء الدنيا والسلاطين، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين.
قد اختلفت كلمة المفسرين والمؤوِّلين في حروف التهجي الواقعة في أوائل السور من القرآن المبين، فقد ذكروا وجوهاً مذكورة في التفاسير المتداولة المشهورة، وشيء منها لا يطمئن به القلب، ولا يسكن إليه الروع، ونِعْمَ ما قال بعضهم: إن في كل كتاب سراً، وسر الله في القرآن حروف التهجي، وكأنه قد أخذ بما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي.
وقال بعض أهل القرآن: الإشارة في الألف إظهار الوحدة مطلقاً ذاتاً وصفة، والتفرد بالوجود الحقيقي أزلاً وأبداً، كان الله ولم يكن معه شيء، فكوّن الأشياء وهو كما كان، فلم تتغير وحدته في نفسه، ولا تفرده بالوجود الحقيقي، وانه تعالى مصدر جميع الموجودات.
فوجه مناسبة المعاني الثلاثة في الألف، بأن (الألف) واحد في ذاته وصفاته في وضع الحساب، متفرد بالأولية والانقطاع عن غيره في وضع الحروف، وتشير استقامته وعدم تغيره في جميع الأحوال إلى عدم تغير المبدأ تعالى عن الوجود الوحداني أزلاً وأبداً، وبأن "الألف" مصدر جميع الحروف، فإن من استقامة خطه يخرج كل حرف معوج، ثم في "اللام" و "الميم" المتصل كل حرف منهما بالآخر إثبات أن كل موجود سوى الوحدة موصوف بالإثنينية، وانه كمثل الوحدة في الوجود، فالصفوة المشار إليها في "الم" هي أن "الألف" يشير إلى وجود حقيقي كامل في ذاته وصفاته، موجد للموجودات التي لها وجود ناقص مفتقر إليه قائم به، وهو الفاعل والحاكم والمتصرف فيها. و"اللام" يشير إلى معنيين: إثبات ونفي، فالإثبات يشير إلى لام التمليك، يعني: له ما في السموات وما في الأرض مُلكاً ومِلكاً، فعلاً وصنعاً، وبالنفي يشير إلى لاء النفي، يعني: لا وجود لشيء حقيقةً إلاَّ لَهُ.
و"الميم" أيضاً يشير إلى معنيين: نفي واثبات، فالنفي: يشير إلى ما النفي، يعني: ما في الوجود حقيقة إلاّ هو، وبالإثبات يشير إلى اسمه القيّوم، يعني هو القائم بنفسه، والمقيم والقيَّام لغيره، فالغير محو في إثبات قيوميته وديموميته، فهو على الحقيقة كاين كما كان، بلا مكان ولا زمان، ودليل هذا التأويل للسر والصفوة في هذه الحروف، ما أظهره الله من سره المكتوم فيما بعده في سورة آل عمران، وهو قوله:
{ { ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } [آل عمران:2].
وممن تصدى لاستكشاف أسرار هذه الحروف المقطعة، شيخ فلاسفة الإسلام أبو علي بن سينا، في رسالة عملها لبيان هذا المرام، ولعمري أنه قد بالغ في تطبيق رموز هذه الحروف على عظائم الأمور الإلهية التي ناسب ذكرها وتعظيمها والإقسام بها في أوائل السور القرآنية.
وملخص ما ذكره بعد تمهيد الكلام - طوينا ذكره مخافة الإسهاب - هو أنه ينبغي أن يدل بالألف الواقع أولاً في الترتيب القديم، وهو ترتيب أبجد هوّز على الباري، لكونه أول الموجودات، وبالباء على العقل وعالمه لأنه يتلوه في الموجود و"بالجيم" على النفس وعالمها، و"بالدال" على الطبيعة وعالمها، هذا إذا أخذت هذه الموجودات بما هي ذوات، ثم بالهاء على الباري، و"بالواو" على العقل، وبالزاي على النفس، وبالحاء على الطبيعة، هذا إذا أخذت بما هي مضافة إلى ما دونها، ويبقى الطاء للهيولى وعالمها، وليس لها وجود بالإضافة إلى شيء تحتها، وينفد رتبة إيجاد الآحاد المبدعات، ويكون الإبداع وهو من إضافة الأول إلى العقل. والعقل ذات لا يضاف إلى ما بعده، مدلولاً عليه بالياء، لأنه من ضرب "هـ" في "ب"، ولا يحصل لإفاضة الباري إلى العقل أو العقل إلى النفس عدد يدل عليه بحرف واحد، لأن "هـ" في "ج"يه" و "و" في "جـ"يح"، ويكون الأمر، وهو من إضافة الباري (الأول) إلى العقل مضافاً مدلولاً عليه باللام، لأنه من ضرب "هـ" في "و" ويكون الخلق وهو من إضافة الباري (الأول) إلى الطبيعة من ضرب "هـ" في "ح"، لأن الحاء دلالة الطبيعة مضافة. ويكون التكوين، وهو من إضافة الباري إلى الطبيعة لأنه من ضرب "هـ" في "د" ويكون جميع نسبتي الأمر والخلق، أعني ترتيب الخلق بواسطة الأمر، أعني اللام والميم مدلولاً عليه بحرف "ع" وجميع نسبتي الخلق والتكوين كذلك أعني الميم والكاف مدلولاً عليه بالسين، ويكون مجموع نسبتي طرفي الوجود والتكوين والخلق أعني اللام والكاف مدلولاً عليه بالنون، ويكون جميع نسب الأمر والتكوين والخلق أعني لام وميم وكاف مدلولاً عليه بصاد، ويكون اشتمال الجملة في الإبداع أعني "ي" في نفسه "ق" وهو أيضاً من جمع "ص" و "ي"، ويكون ردها إلى الأول الذي هو مبدأ الكل ومنتهاه، على أنه أول وآخر، أعني فاعلاً وغاية، كما بيّن في الإلهيات مدلولاً عليه بالراء ضِعف.
فإذا تقرر ذلك فالمدلول عليه بـ { الۤـمۤ }، هو القسم بالأول ذي الأمر والخلق، وبالراء القسم بالأول ذي الأمر والخلق الذي هو الأول والآخر، والأمر والخلق والمبدأ الفاعلي، والمبدأ الغائي جميعاً.
وبـ
{ الۤمۤصۤ } [الأعراف:1]، القسم بالأول ذي الأمر والخلق، والمنشئ للكل.
وبـ
{ صۤ... } [ص:1]: القسم بالعناية الكلية.
وبـ
{ قۤ } [ق:1]: القسم بالإبداع المشتمل على الكل بواسطة إبداع الأنواع المتداولة المساوي للعقل.
وبـ
{ { كۤهيعۤصۤ } [مريم:1]: القسم بالنسبة التي للكاف، أعني عالم التكوين إلى المبدأ الأول، بنسبة الإبداع الذي هو "ي"، ثم الخلق بواسطة الأمر وهو "ع"، ثم التكوين بواسطة الخلق والأمر وهو "ص"، فبين "ك" و"هـ" ضرورة نسبة الإبداع، ثم نسبة الخلق والأمر، ثم نسبة التكوين والخلق والأمر.
و
{ يسۤ } [يس:1]: قسم بأول الفيض وهو الإبداع، وآخره وهو الخلق والتكوين.
و
{ { حـمۤ } [غافر:1]: قسم بالعالم الطبيعي الواقع في الخلق.
و
{ حـمۤ * عۤسۤقۤ } [الشورى:1 - 2]: قسم بمدلول وساطة الخلق في وجود العالم الطبيعي وما يخلق بينه وبين الأمر بنسبة الخلق إلى الأمر، ونسبة الخلق إلى التكوين، وبأن يأخذ من هذا ويرده إلى ذلك، فيتم به الإبداع الكلي المشتمل على العوالم كلها، فإنها إذا أخذت على الإجمال، لم يكن لها نسبة إلى الأول غير الإبداع الكلي الذي يدل عليه بق.
و
{ طسۤ... } [النمل:1]: قسم بعالم الهيولى الواقع في التكوين، و"ن" قسم بعالم التكوين وعالم الأمر أعني مجمع الكل، ولا يمكن أن يكون للحروف دلالة غير هذا البتة - انتهى كلامه أعلى الله مقامه -.
دراية كشفية
إعلم أيها القارئ المكتسي بكسوة العبارات، العاري عن حِلْية ذوق الإشارات، ان هذه الحروف المقطّعة القرآنية، تسمى في عالم السر ولسان أهل بيت النبوة وبلدة الولاية، العارفين بفهم منطق الطير "بالحروف المُجْمَلة"، و "حروف أبجد"، وفي هذا العالم تصير الحروف المتصلة منفصلة، لأنه يوم الفصل جمعناكم والأولين و "يوم الجمع" أيضاً بوجه آخر، فأهل الله إذا نظروا إلى حروف
{ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة:54] يرونها متصلة، ولكن إذا انكشف الحجاب، وفتحت الأبواب، وتجلّى جمالها، يرونها بالبصيرة الباطنية هكذا: ي، ح، ب، و، ن، هـ، م، وإذا ارتفعوا عن ذلك المقام إلى مقام أعلى، يرونها نقاطاً، وتصير الحروف المفردة بالقياس إلى من في تلك الدرجة نقطاً، وإذا وصلوا إلى مقام القرب، رأوا النقاط كلها مستهلكة في نقطة باء بسم الله.
وأنت أيها الساكن في بيت حجابك، المقيد بقيود هواك ونفسك، أنك لم تخرج حتى الآن قدماً من عتبة بابك التي أنت معتكف فيها إلى طريق الحق، ولم ترغب في طلب معرفته والاطلاع على أسرار ملكه وملكوته، ومطالعة كتابه الذي ورد منه اليك، ولم تحصّل بعد مفردات حروف الجمل في معلمة العشق ومدرسة التقوى والعبودية، وإلهك ومعشوقك متوجه اليك من سماء عظمته، ناظر اليك ليجذبك بجذبة إرجعي.
وإنك بعدما توجَّهت إليه بقلبك، فلا عبرة بما تقوله بلسانك:
{ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [الأنعام:79] مع عدم موافقة الباطن وهو وجهك الحقيقي، لأنك مشغول بجميع أسباب اللهو واللعب والهزل، مستغرق القلب بعمارة أرض بدنك، وتحصيل أرض أخرى، وتزيين ترابك الذي يخصك بإضافة تراب آخر إليه، وجمعه وادخاره بعد تلوينه أو تصييره بكثرة الحيل في المعاملات، أو المداهنة في المعاشرات، أو الدغل في الصناعات، بترويج ما كسد وإصلاح ما فسد، حتى صار ترابك ذهباً وفضة، وما هما إلاّ ترابان ملوّنان بالصفرة والبياض، بتعمّل طبيعي أو صناعي، إما في نفسيهما أو في تعميلك وتحصيلك لصورتهما، أو أخذك لهما من الناس بسبب الاستيناس بهم والمداراة معهم، وذلك كله علامة الإفلاس، وجميع ذلك خدمة منك لفاسق وظالم جاحد، وطاعة لشيطان مارد من الدواعي الشهوية أو الغضبية أو الوهمية.
فأول علامة من ارتفع عن هذا الأدنى، وخلص عن حجاب المشتغلين بالدنيا، أن ينكشف عليه معرفة الحروف المنفصلة القرآنية وكيفية نزولها، كما رمز إليه تعالى بقوله:
{ { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [القصص:51] إلى هذا القوم وأشار سبحانه إلى مرتبة قوم آخرين بقوله: { { فَصَّلْنَا ٱلآيَاتِ } [الأنعام:97-98- و126].
فقد انجلى لك أيها المسكين، أن ما ارتسم في لوح السالك المبتدي حروف أبجد ليستعد بذلك الانتقاش بمفاد قوله تعالى:
{ { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ } [العلق:1] وعند ذلك يسهل عليه معرفة القرآن، وتعّلم لفظه ومعناه ومنطوقه وفحواه: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [القمر:17].
وهذا التذكير لا يتيسر إلاَّ لمن دارس وتعلم من مكتب:
"أول ما خَلق الله نوري" وكان معلمه وأستاذه مفاد قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): "أدّبني ربي فأحسن تأديبي" لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم، ويعلم ما لم يكن يعلم قبل ذلك بأسباب أُخر، من فكر أو سماع أو تعلم أو رواية، بل بأن يكتب الله القرآن بقلم العقل على لوح نفسه: { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } [المجادلة:22]. { وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ * ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ * عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العلق:3-5].
وحينئذٍ يظهر له هذا المكتب الذي لأطفال الأرواح وأولاد روح القدس، وهو أبوهم ومعلمهم وأستاذهم، ما معنى اللوح والقلم، والنون وما يسطرون، فإن العناية الربّانية لمّا تعلقت بتربية الأطفال والأولاد الملكوتية، أفاد لها ورزقهم من تحف ذلك العالم وهدايا الجنة في كسوة الحروف المفردة والظروف - ظ: حروف - المقطعة على طريق الرمز والإشارة، لئلاَّ يطّلع عليها الأغيار، ممن ليس له قوة الإرتقاء إلى منزل الأخيار.
إعلم أيها القارئ العاري، أن القرآن أنزل إلى الخلق مع ألف حجاب، لأجل فهم ضعفاء العقول والأبصار، فلو فرض أن باء بسم الله مع عظمته التي كانت له نزل إلى العرش على حالته التي كانت عليها، لذاب العرش مع عظمته واضمحل، وقوله:
{ لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ } [الحشر:21] - الآية - إشارة إلى ذلك.
رحم الله من قال كاشفاً لهذا المعنى: "كل حرف في اللوح أعظم من جبل قاف"، وهذا القاف رمز إلى ما في قوله:
{ { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ق:1].
وجملة القول: إن من لم يظهر عليه سلطان الآخرة ظهوراً تاماً، ولم يقم نفسه عن قبر هذه النشأة، لم يطلع على معاني رموز القرآن، ولم يحدث معه حروفه المقطعة، ولم يتجل له وجه صاحبه وقائله، وعظمة منشئه ومبدعه وممليه. واحسرتا على ما فرَّطنا في جنب الله.
انتبه يا مغرور! وقم من مرقدك يا ممكور، حتى نسافر معك في سبيل الله، ونتجامع بالجمعية الوفاقية، فإن المسافر يحتاج إلى رفيق معه يصدّقُه أداء لقوله (صلّى الله عليه وآله وسلم):
"يد الله مع الجماعة" ، وكن معنا في جميع ما هدانا الله إليه في سفرنا، وما هدانا إليه رسلنا من رزق ربنا، حتى لا ينال بما يحيد عن المشهور، ويخالف ما عليه الجمهور كما هو دأب المسافرين، واركب معنا في سفينة النجاة التي بسم الله مجراها ومرساها، ولا تجلس مع هؤلاء الذين اتخذوا القرآن مهجوراً، وهم كالذين وبخهم الله تعالى بقوله: { فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } [النساء:78] واشتكى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى ربه بقوله: { يٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِي ٱتَّخَذُواْ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ مَهْجُوراً } [الفرقان:30].
وقال بعض أصحاب القلوب: "انزل القرآن لتعملوا به فاتخذتم دراسته".
وإليهم الإشارة في حديث أبان بن تغلب، عن أبي جعفر (عليه السلام)، أنه سئل عن مسألة فأجاب فيها، فقال الرجل: إن الفقهاء لا يقولون هذا، فقال (عليه السلام): يا ويحك! وهل رأيت فقيهاً قط؟ ان الفقيه حق الفقيه، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المتمسك بسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وروى عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث طويل - قال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد.
رب رجل أديب أريب، له اطّلاع تام على علم اللغة والفصاحة، والاقتدار على صنعة البحث والمجادلة مع الخصام في علم الكلام، وهو مع براعته في فصاحته، لم يسمع حرفاً من حروف القرآن بما هو قرآن، ولا فهم كلمة واحدة، وكذلك أكثر المشتغلين بالبحث البحت، المغترّين بلا مع سراب الحكمة، المحرومين من شراب المعرفة في كأس القرآن المبين، لكونهم صماً بكماً عمياً لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون سبيلاً، لعدم حواسهم الباطنية التي تكون هذه الحواس الدنيوية قشوراً لها، وبالقشر لا ينال إلاَّ القشر، وأما اللباب فلا يناله إلاّ أولوا الألباب، وما يذكّر إلاّ أُولوا الألباب: إن في ذلك لآيات لأولي الألباب.