خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ
١٢
-السجدة

تفسير صدر المتألهين

جزاء "لو" محذوف، وهو مثل "لرأيت أمراً فظيعاً" إن كانت امتناعية كما عليه الأكثرون، والخطاب حينئذٍ إما للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)، أو لكل أحد، كما يقال: "فلان لئيم إنْ أكرمتَهُ أهانك" مِن غير أن يقصد مخاطب مخصوص.
"ولو"وإذ" وان كانتا للمضي، إلاَّ أنه ساغ وشاع استعمالها في كلام الله للترقب، لأنه بمنزلة المتحقق الوقوع.
وفيه سر آخر. ويحتمل أن يراد به التمني، ونسبة التمني ها هنا للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) كنسبة الترجي له في قوله تعالى:
{ { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [الأنبياء:31] لتجرعه منهم كاسات الغَصَص لأجل تكذيبهم إيّاه وعداوتهم وضرارهم، فجعل الله له تمني أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من انتكاس رؤوسهم وحزنهم وغمهم وتأسفهم، ليشمت بهم.
هذا ما في الكشّاف. وفيه: أن هذا لا يلائم كونه (صلّى الله عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين، وجلالة قدره أرفع من الشماتة والانتقام للتشفي لسَوْرَة الغضب، لأن هذا من انفعالات القوى الجرمانية المتعلقة بالمواد، وله مقام العِندية إلى فوق كل غرض جزئي وجراحة قلبية، سيما وسياق الآية يدل على كون المجرمين ممن لهم شائبة نور الإيمان، إذ لو سقطوا بالكلية عن نور الفطرة واحتجبوا رأساً، وانطمست نفوسهم لغلبة الكفر، وزالت أنوارهم العقلية بالرَّيْن، وانغلقت أبواب المغفرة في حقهم، لم يقولوا: "أبصَرْنا وسمعنا"، ولم يتمنَوا الرجوع لأن يعملوا العمل الصالح، ولم يكونوا موقنين، فهؤلاء وإن احتجبوا عن لقاء الله بسبب شدة ميلهم إلى الجهة السفلية، وانتكاس رؤوسهم إلى الجرميات والظلمات، لكنهم لبقاء الاعتماد بالمبدأ والمعاد، ومرتبة الرسالة الحاصلة لخير العباد، وتمنّيهم الرجوع للعمل الصالح، لا يخلدون في العقاب، كما توهمه المعتزلة كالزمخشري وأترابه، بل يعذّبون حيناً بحسب رسوخ الهيآت، ثم يرجعون إلى الفطرة - كما عليه أكثر الأمة وأصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم -، وشأن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعادته بالقياس إلى مثل هؤلاء ومن هو أبعد منهم عن الحق، ما أفصلح الله عنه بقوله:
{ { أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ } [عبس:5 - 6]. وقوله: { { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف:6].
أثر تَبَصُّري
فإن قلت: إن هذا الانكشاف ربما يحصل للمجرمين بعد الموت عند مشاهدة الأحوال ومعاينة الأهوال، فيعلمون بصدق الوعد والوعيد، ويصدّقون خبر الرسالة.
قلت: هذا القدر من الإيقان لا يحصل للكفّار المطموسة أبصارهم وأسماعهم بالكلية، المحتجبة نفوسهم بالرَّين والظلمة الدائمة، لقوله تعالى:
{ { وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [الإسراء:72]، فبحكم عكس النقيض: كل من كان في الآخرة بصيراً سميعاً، فله في الدنيا شيء من نور البصيرة الإيمانية، وان كان في غاية الضعف والقصور والآفة والمرض والعَمَش والسبل، لا العمى والكَمَه.
سِرُّ إفاضيّ
إعلم أن الله تعالى لما ذكر مبدأ خلقة الإنسان بحسب كل من أصلَيْه الروحاني والجسماني، وبيّن كيفية معاده، بأن توجه معنوي لنفوسهم، وسلوك طريق في الباطن إليه تعالى، إما بالوصول والرجوع إليه تعالى وإلى رضوانه - ان كانت من السعداء، وذلك يتوفى مَلَك موكل على جذب الأرواح إليه تعالى بطريق مستقيم - وإما بالانحراف عن الصراط المستقيم، والانتكاس إلى أسفل الجحيم، وذلك يتوفى ملائكة العذاب، فحسب إياها على ما ذكر، فأراد أن يبين أن استيناف هذه الحركة المعنوية للنفوس الغير البالغة حد الكمال، هل هو متصور أم لا؟ فكشف قناع الإبهام عن وجه هذه المسألة على وجه ظهر استحالة رجوع النفس إلى مبدأ تكونها، كي ينقطع طمع بعض الناس في تجويز العود إلى الدنيا مرة أخرى، كما ذهبت إليه طائفة من التناسخية.
وهذه الاستحالة لا تظهر حق الظهور إلاَّ بنور الرسالة، وما ينتهي إليه، لأن عقول العقلاء وأذهان جماهير الحكماء الغير المقتبسين أنوار حكمتهم من مشكاة النبوة والولاية، قاصرة عنها، والدلائل على أبطال التناسخ غير قاطعة، ولهذا وقع الخطاب للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) لاختصاصه بمشاهدة أحوالهم على وجه يمتنع لهم الرجوع إلى الدنيا، لصيرورة نفوسهم مصوّرة بهيآت رديّة خرجت بها عن أصل الفطرة والاستعداد، وبقيت فيها داعية الاستكمال مع بطلان الآلة المعدّة للكمال.
ومما ينبهك على بطلان التناسخ واستحالة الرجوع إلى الحالة الأولى، مقايستك حال النفس في تطوراتها وشؤوناتها بحال البدن في تدرجاته وترقياته من حد الطفولية، بل من أول قرار المني في الرحم إلى غاية الشيخوخة، فكما أن للبدن بعدما خرج من القوة والاستعداد اللذين كانا له حال كونه منياً وفي كل حالة من حالات الطفولية والصَبَوية والمراهقية والشباب والكهولة والشيخوخة طوراً إذا بلغ إليه، يستحيل له بحسب الطبع أن يرجع إلى حالة سابقة له، فكذلك قياس النفس في أوقات تكوّنها وبلوغها إلى مرتبة من الفعلية بعد كونها أمراً ساذجاً ولوحاً صافياً وعقلاً هيولانياً، يكون بالقوة من كل الوجوه، فإذا خرجت عن الهيولانية وصارت بالفعل بسبب اشتغالها بالبدن، وبسبب استعمالها للحواس والمشاعر والآلات، سواء فيما خلقت لأجله، حتى تكون شاكرة، أم لا حتى تصير كفورة، فلا يمكن رجوعها إلى حالتها التي كانت بحسبها بالقوة.
وبهذا الأصل، دفعنا شبهة التناسخ بإذن الله وتأييده، فإن من جوّز انتقال النفس بعد موتها إلى جسد مّا يتكون في الرحم من المني، يلزم عليه أن يكون شيء واحد بالقوة وبالفعل في مرتبة واحدة، فتمنّي الرجوع إلى أول الخلقة وحالة الترابية والهيولية للإنسان، كما وقع للكفار على ما حكى الله عنهم بقوله:
{ { يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } [النبأ:40]، تمنى أمر مستحيل الحصول.
وفي قوله تعالى:
{ { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } [السجدة:11] إشارة لطيفة إلى أن التوجه من هذه النشأة إلى نشآت أخرى، أمر منوط بالأسباب القاصية الفاعلية، والعلل الذاتية السابقة القضائية، فيكون التوجه إلى عالم الموت والنشأة الثانية أمراً طبيعياً، والحركات الطبيعية المنوطة بالأسباب العالية يستحيل عليها الرجوع كما في حركات الأفلاك.
ورأيت في خُطب أمير المؤمنين صلوات الله عليه ما ترجمته هذا البيت الفارسي:

سوى مرك است خلق را آهنك دم زدن كام وروز وشب فرسنك