خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ
١٣
-السجدة

تفسير صدر المتألهين

لما ظهر مما سبق، أن رجعة النفوس إلى فطرتها الأصلية بعد اكتسابها طريقة الخذلان والشقاوة والحرمان أمر مستحيل، وقعت ها هنا للأذهان الوهمانية مظنة شبهة هي: أنه لماذا لم تخلق النفوس كلها من الله سعداء من أهل الهداية والرحمة؟ حتى لا يكونوا مجرمين محرومين عن درجات الجنان والسعادة والرضوان؟
فأزال تعالى هذا الوهم، وأزاح إمكان وقوعه في الخارج، لأن ما هو الواقع على أشرف الإمكانات وترجيح الأخس على الأشرف، مستحيل الوقوع من الواهب الحق، والمحال لا يكون مقدوراً عليه، لأنه لا شيء محض لا ماهية له، وإنما هو أمر يخترعه الوهم الكاذب.
فقال: { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا }، بالتوفيق والإيمان وإلجائها لسلوك سبيل الرحمة والرضوان، ولكنه ينافي الحكمة والمصلحة الكلية المقتضية لحفظ النظام على أفضل ما يمكن من الوجود والقوام، إذ لو كان الأمر كما توهم، لبقيت النفوس كلها على طبقة واحدة، وفات بقاء سائر الطبقات المتصورة في حيز الإمكان من غير أن يخرج من الكمون والبطون إلى منصة البروز والظهور، والرحمة مقتضية لايصال كل مستحق إلى ما يليق به، لئلاّ تخلو أكثر مراتب هذا العالم عن أربابها، فتبقى في العدم أمور جمة غفيرة، ولا تتمشى الأمور الخسيسة، التي يحتاج إليها في بقاء النفوس الشريفة، كيف ولو لم يكن الكنّاس والحجّام في العالم، لاضطر الحكيم إلى مباشرة الكنس والحجامة.
ولا بد أيضاً في ظهور بعض صفات الله الجلالية من وجود أهل الحجاب والذلة والقسوة والظلمة، البعداء عن الرحمة والمحبة والنور، وإلاَّ فلا ينضبط نظام العالم، ولا يتم صلاح المهتدين لوجود الاحتياج إلى سائر الطبقات، كما لَوّحْنا إليه من أن المظاهر لو كانت كلها أنبياء وأولياء وأخياراً لاختل بقاؤهم بعدم النفوس الغلاظ والشياطين من الإنس والجن القائمين بعمارة هذا العالم، ألا ترى إلى ما ورد في قوله تعالى: إني جعلت معصية آدم سبباً لعمارة العالم.
فوجب في الحكمة الحقّة الإلهية، التفاوت في الاستعدادات بالقوة والضعف، والصفاء والكدورة، وترتب الدرجات على حسبها، والحكم بوجود كل طبقة من السعداء والأشقياء في الفضائل والرذائل، لتجلّي الله سبحانه بجميع الصفات، ويظهر منه جميع أسمائه الحسنى، فإن الغفور، والعفو، والعدل، والمنتقم، والتوّاب، والمضلّ وأمثالها أسماء لا يتجلّى الحق بها إلاَّ إذا جرى على العبد ذنب.
ولذلك وقع في الحديث:
"لولا أنكم تذنبون لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون" وعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): "أنين المذنبين أحبّ إلي من زجل المُسَبّحين" .
وإليه الإشارة بقوله: { وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي } أي بحسب اقتضاء العناية الأزلية والقضاء السابق، وكثيراً ما أطلق القول والكتابة من قبل الله سبحانه، ويراد الفعل من جهة ما يوجبه التقدير الأزلي المنوط بالأسباب القصوى الإلهية، كقوله تعالى: { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } [فصّلت:25]، وقوله: { { كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } [الأنعام:12].
{ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ }: أي جهنم الطبيعة السفلية التي ستطلع نيرانها ويبرز إيلام عذابها في الآخرة، فإن حقيقة نار الجحيم، إنما نشأت من هذا العالم، وأما ظهورها على الأفئدة، فهو مختص بيوم الآخرة، فكما أن الدنيا مملوءة من الكفار والفجار، فكذا جهنم الآخرة مملوءة من الجن والإنس أجمعين، وهم أكثر عمّار هذا العالم من النفوس المكّارة الوهمانية والأرضية الجاسية الغليظة الطبايع لما مر أن النظام لا ينصلح إلاَّ بأن لا يكون هذا العالم مشحوناً بالجهلة والأرذال والكفرة والمنافقين، وأن أهل الله لا يكونون إلاّ الأقلّين، مع أن غيرهم من أشخاص المواليد ما خلقت إلاَّ لأجلهم، لأنهم اللب الأصفى من شجرة الطبيعة، والباقي بمنزلة القشور على مراتبها، فحقّت عليهم كلمة العذاب، كما حَقَّ على العود والحطب الاحتراق بالنار، لمّا صدر عنهم ما يؤدي إلى ذلك على وجه الاختيار المنبعث عن الأسباب الغائبة لا على وجه الإلجاء والاضطرار، لأنهم استحبّوا العمى على الهدى، فوقعوا باختيارهم في المحنة والبلوى، والقَوا أنفسهم بأيديهم إلى الهلكى.
فإن قلت: إذا كان الكل بقضاء الله وقدره، فلماذا يعاقب الله من ساقه القدر إلى ارتكاب الجرائم والخطيّآت؟
قيل: هذا السؤال منك ناش من جهلك بحقيقة العقوبات الإلهية، فإنك لاعتيادك بأفاعيل الناقصين من المختارين، كإنعامهم على الصديق، وانتقامهم من العدو، الناشئَين من اعتقاد النفع ودفع الم الغضب والغيظ، تعتقد أن العقوبات الأخروية من باب الانتقام للتشفي الحاصل منه للمنتقم، فيتخلص به عن ألم التهاب نار الغضب، هيهات، إنما العقاب أمر يتعقب على فعل الخطيّات، وهو من اللوازم والتبعات التي يتأدّى إليه اقتراف السيئات، وبالحقيقة، النفوس العمّالة في الدنيا هي بعينها حمّالة حطب نيرانها يوم الآخرة: "رب شهوة ساعة أورثت حُزناً طويلا"، بل نفس الشهوة ها هنا تتصور بصورة النار المضرمة هناك.
وقد أفصح الله تعالى عن هذا المعنى في قوله:
{ { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الأعراف:180]، وقوله: { { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } [النحل:34]، وقوله: { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } [الكهف:29]، وقوله: "إنما هي أعمالكم تُرَدّ إليكم" .
ولهذا عقّب هذه الآية بقوله سبحانه:
{ فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [السجدة:14].