خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ
١٨
-السجدة

تفسير صدر المتألهين

وكلمة "مَن" في الموضعين مفرد لفظاً مجموع معنى، فبالاعتبار الأول أورد: "كان مؤمناً" و "كان فاسقاً" محمولين على اللفظ، وأورد: "لا يستوون" حملاً على المفهوم كما يدل عليه قوله: "أما الذين آمنوا"، "وأما الذين فسقوا"، ومثله قوله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ } [محمد:16].
والمراد "بالفاسق" هنا: الكافر، لخروجه عن الإيمان، لما في الآية التالية من ذكر عدم الخروج والتكذيب.
قال ابن أبي ليلى: نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) ورجل من قريش.
وقال غيره نزلت هذه الآية إلى قوله: "لعلهم يرجعون" فيه (عليه السلام) والوليد بن عقبة، فالمؤمن علي (عليه السلام) والفاسق الوليد، وذلك أنه قال لعلي (عليه السلام): "أنا أَبْسَطُ منك لساناً وأَحَدُّ منك سِناناً" فقال (عليه السلام): "ليس كما تقول يا فاسق".
قال قتادة: "لا والله ما استويا، لا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة".
مكاشفة
إنه لما علم مما سبق غاية خسّة الكافر والفاسق، بحيث تنزل درجتهم عن درجة الأنعام والبهائم لقوله:
{ وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [السجدة:14]، وغاية درجة المؤمن بحيث يعلو ويفوق على كثير من خلقه تعالى، حتى ضروب من ملائكة الله لقوله تعالى: { { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [السجدة:17]، فيتوهم ها هنا للنفوس الغير المتدربة في العلوم الدقيقة والأنظار اللطيفة العميقة، أن أفراد الإنسان لمّا كانت متساوية الحقيقة، فيمتنع أن يصير بعضهم أعلى علّيين، وبعضهم أسفل سافلين.
والجواب: بأن هذا التفاوت إنما يكون بالعوارض الغريبة التي لا مدخلية لها في تقوّم شيء من الافراد غير منجّح (صحيح - ن)، ولا تقبله الطبائع السليمة، كيف والسبب الاتفاقي لا يكون دائمياً ولا أكثرياً، فلا بد أن يكون علة خلود المؤمن في الجنة، وعلة خلود الكافر في النار، أمراً داخلاً في تجوهر العبد وحقيقته وذاته، بل الحق الحقيق بالتصديق، إن الإنسان بحسب النشأة الأخروية أنواع مختلفة حسب اختلاف الأخلاق والملكات الراسخة في باطنه، وستظهر في القيامة بصورها المناسبة لمعانيها المتخالفة الحقائق.
وممن تفطن بهذا المطلب المنكشف بنور القرآن، واحد من الفلاسفة المعروف بفرفوريوس، القائل باتحاد العاقل والمعقول، لكن لم يبلغ نظره إلى مرتبة البالغين من رجال هذا الدين المتين، الذي هو صراط السالكين إلى عالم الحق واليقين، فالله سبحانه رفع نقاب الاختفاء، وكشف غطاء الامتراء عن المحجة البيضاء، وبيّن ها هنا نفي المماثلة بين المؤمن والكافر في الذات والحقيقة، وسلب المساواة بين العارف والمنكر في درجة الماهية، كما في قوله تعالى:
{ { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر:9].
وفي القرآن آيات كثيرة دالّة على أن الإنسان بحسب النشأة الباطنية، متخالف النوع متبائن الحقيقة والصورة، سيّما التخالف بين المؤمن والكافر، والعالم والجاهل، مثل قوله تعالى:
{ { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } [يس:59]. وكقوله: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَـٰئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ * إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } [البيّنة:6 - 7]. وقوله تعالى: { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [القلم:35 - 36].
ومن الشواهد الدالة على هذا المطلب قوله سبحانه في حق المؤمنين:
{ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [البقرة:257].
وفي حق الكافرين:
{ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة:257]. وكذا قوله في حق المؤمنين: { { أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } [البلد:18] وفي حق الكافرين { { أَصْحَابُ ٱلْمَشْئَمَةِ } [البلد:19]، تنبيه بليغ على إثبات ما ادّعيناه.
ومما يدل أيضاً في الحديث قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم):
"يُحشر الناس على صور نيّاتهم" وقوله (صلَّى الله عليه وآله وسلم): "يُحشر بعض الناس على صورة تحسن عندها القردة والخنازير" .
ولولا مخافة الإطناب، لأوردتُ ها هنا برهاناً تفصيليا على هذا المطلب ممّا ألهمني الله به، نبيِّن منه كون الإنسان متخالف الماهية في الباطن بحسب ما يخرج عقله الهيولاني من القوة إلى الفعل، وإن كان نوعاً واحداً في الظاهر بحسب ما تخرج مادته الجسمانية من القوة إلى الفعل، ويتبيّن أن نفسه الناطقة صورة الصور في هذا العالم ومادة المواد في عالم آخر، إن هذا لبلاغاً لقوم عابدين.