خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٢
-السجدة

تفسير صدر المتألهين

خبر مبتدأ محذوف، أو هو مبتدأ خبره "لا ريب فيه" ويكون "من رب العالمين" حالاً من الضمير في "فيه" لأن المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً، وعلى تقدير كون" تنزيل الكتاب" خبر مبتدأ محذوف يجوز أن يكون "من رب العالمين" خبراً ثانياً، و "لا ريب فيه" حال من الكتاب المنزل أو اعتراض. والأوْلىٰ ان يرتفع "تنزيل" بالإبتداء، وخبره: { مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }، ويكون { لاَ رَيْبَ فِيهِ } اعتراض لا محل له، كما وجهه صاحب الكشّاف.
واعلم أن الضمير المجرور راجع إلى مضمون الجملة، أي لا ريب في كونه مُنْزَلاً من رب العالمين، ويدل عليه قوله:
{ { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } [السجدة:3] لأن هذا القول منهم في المفهوم، يساوق لإنكارهم كون القرآن مُنزلاً من الله تعالى، للتقابل الحقيقي بين كون الكلام مفترى، وبين كونه مُنْزلاً من رب العالمين.
ويحتمل أن يكون معنى " تنزيل الكتاب" من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، فيحتاج في تعلق ضمير "فيه" إليه إلى ارتكاب حذف مضاف، كالتنزيل ونحوه.
ويحتمل أن تكون الجمل الثلاث أخباراً متبادلة لمبتدأ محذوف، وفي الآية احتمالات أخرى بحسب الإعراب كما لا يخفى على أُولي الآداب.
والمعنى - والله أعلم - أنه لا ريب لأهل الكشف واليقين العارفين بمقامات الواصلين إلى مقام اللوح النفساني والقلم العقلاني والعلم السبحاني، ان هذا الكتاب الذي هو العقل الفرقاني والوجود المحمدي (صلّى الله عليه وآله وسلم) الذي هو لوح المعارف الإلهية، وقلم العلوم اللَّدُنِيَة، فائض من رب العالمين بلا وسيلة من خلقه، أو ذريعة من غيره، بل الله قد أنشأه وأغناه من غيره، وربّاه من مرتبة إلى مرتبة، وعرج به من عالم إلى عالم، وأسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، حتى بلغ الغاية القصوى وارتفع إلى مقام أو أدنى، وحيث كانت مرتبته مشتملة على جميع مراتب العوالم، لوروده على كل نشأة وعالم، فكان المربي له (صلّى الله عليه وآله وسلم) رب العالمين، فوقعت الإشارة إلى هذه الدقيقة في قوله: { رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } تعظيماً لشأنه وتكريماً لامتنانه.
فالكتاب إشارة إلى ذات النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، المعبر عنه تارة بالقرآن لمقامه الجمعي الإجمالي العقلي، وتارة بالفرقان لمقامه الفرقي التفصيلي النفسي، وهما مقامان باطنيان فوق ساير المقامات النزولية والإنزالية السماوية والدنيوية، وإطلاق الكتاب على الجوهر العقلي القلمي القرآني، أو النفسي اللوحي الفرقاني شائع ذائع في كلام الله تعالى وكلام انبيائه وأوليائه (عليهم السلام)، كقوله تعالى:
{ أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [المجادلة:22] وقوله تعالى: { { ٱقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء:14] وكقول أمير المؤمنين (عليه السلام):

وأنت الكتاب المبين الذي بآياته يظهر المضمر

وحقيقة القرآن عند المحققين من العرفاء، هو جوهر ذات النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وقد سئلت بعض أزواجه عن خُلُقه، فقالت في الجواب: "كان خُلُقُه القرآن".
ومن تأمل وتدبر في ألقاب كتاب الله في عدة مواضع من المصحف، يعلم إن هذه الأوصاف تكون لذات روحانية مجردة عن الأجسام بحسب مرتبة ذاته، فكما أن الإنسان حقيقة واحدة، وله مراتب كثيرة وأسامي مختلفة يسمى في كل عالم باسم خاص مناسب لمقامه الخاص في الصعود، فكذلك القرآن حقيقة واحدة وله مراتب كثيرة وأسامي مختلفة، يسمى في كل عالم باسم خاص مناسب لمقامه الخاص في النزول.
أما أسامي القرآن: ففي عالم يسمى "بالمجيد":
{ { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ } [البروج:21] وفي عالم آخر اسمه "عليّ": { { وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ } [الزخرف:4] وفي نشأة أخرى اسمه "مبين": { { وَكِتَابٍ مُّبِينٍ } [النمل:1] وفي مقام آخر اسمه "نور": { وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا } [التغابن:8] { { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [المائدة:15] وفي منزل اسمه "عظيم": { { وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ } [الحجر:87] وفي مرتبة "عزيز": { { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } [فصّلت:41]، وفي مظهر "كريم": { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } [الواقعة:77] وفي طَوْر "حكيم": { يسۤ * وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ } [يس:1 - 2] وهل شاع إطلاق اسم الحكيم إلاَّ على ذوي العقول؟ وكذا الكريم والعلي والعزيز؟
وأساميه غير محصورة، ولو كنتَ ذا سمع باطني في عالم العشق الحقيقي والحِكَم الإلهية، لكنت ممن تسمع أسماءَه وتنكشف لك بطونه، إن للقرآن ظهراً وبطناً وحَدّاً ومطلعاً كما ان للإنسان ظاهراً وباطناً، ولباطنه باطن آخر إلى سبعة أبطن، وهي المقامات الباطنية الجملية المشهورة عند العرفاء، هي الطبع والنفس والعقل والروح والسر والخفي والأخفى، وإلاَّ فتفاصيل المقامات وخصوصيات الأطوار الإنسانية غير محصورة في حد وعَدّ، فكذا قياس القرآن المساوق للإنسان الكامل في الكمال والنقصان، والصعود والنزول، وفي المثنوي المولوي المعنوي قدس سره:

صورت قرآن جو شخص آدمى است كه نقوشش ظاهر وجانش خفى است
نزد عاقل زان برى كه مضمر است آدمى صد بار خود بنهان تر است

ومما روي عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم): أنه قال: "إقرؤا القرآن والتمسوا غرائبه" .
ومن تدبر في أسامي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأوصاف من كونه: نوراً وسراجاً ومحموداً ومحمداً وأحمد وقاسماً وحاشراً وماحياً وهادياً ومبشراً وبشيراً ومنذراً ونذيراً إلى غير ذلك مما لا يمكن حصره - وجدها بحسب المعنى والمفهوم مشتركة بينه (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبين حقيقة القرآن، واتحاد اللوازم يدل على اتّحاد الملزوم، والأسماء المشتركة بينهما لفظاً، ومعنى كثيرة، كلفظ النور والهادي والسيد والرسول والنبي.
ولو تدبرت فيما أفدناك سابقاً من قاعدة اتّحاد الموصوف بالصفة التي وصف بها، ومن قاعدة اتّحاد العاقل بالمعقول التي ذهب إليها أكثر الحكماء المشّائين الذين مقدمهم فرفوريويس، وهو أعظم تلامذة أرسطو، ومن قاعدة ذهب إليها محققو أهل الإسلام وعرفاؤهم من صيرورة الإنسان بحسب النشأة الآخرة عين حقيقة ما غلب على باطنه من الأخلاق والملكات، لانكشف عليك حقيقة ما ذكرناه من كون باطن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) كتاباً إلهياً مرسلاً مُنزلاً من الله لنجاة المقيدين في سجن هذا العالم الأدنى، وباطن القرآن خلقه، وظاهره الملفوظ هو كظاهر شخصه المطهر المزكّى.
ويستفاد من قوله تعالى:
{ { وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [البقرة:129] أن صفته وخلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان تعليم الكتاب والحكمة، فكان ذاته المقدسة عين الكتاب والحكمة.
وقد عبّر قوم من أهل الله عن لفظ القرآن ومعناه بالوجه الحسن، والشعر المستحسن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المكنى عنهما بقوله تعالى:
{ وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } [الضحى:1 - 2].
والقرآن حبل الله المتين النازل من سماء الرحمة لنجاة المقيدين في السجن، ولما كانت الدنيا مرآة الآخرة، والأرض حكاية الجحيم، فانظر كيف روعيت الموازنة بين العالمين فيما وقع من الأخبار في أحوال الآخرة من الجنة والنار، أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أذن له في الشفاعة يوم القيامة، فورد في الجحيم لإخراج من في قلبه ذرة من الإيمان، فأخرج منها ما شاء الله من عصاة أمته المؤمنين. ومما يؤيد كون الأرواح والقلوب بمنزلة الكتب والصحائف، ويصحح إطلاق الكتاب والصحيفة عليها، قوله تعالى:
{ { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [المجادلة:22].
وهل الكتاب إلاَّ ما كُتب فيه شيء، سواء كان كتابه عقلية أو حسية، وهل الكتاب إلاَّ تصوير الحقائق، سواء كان بآلة القصب والمداد في قرطاس أو جلد حيوان، أو بواسطة المَلَك الملهم الملقي للحقايق في صفحة الدماغ أو النفس بمداد الفيض الإلهي، ومن يحجبه الظاهر المحسوس عن الباطن المستور ولا يفهم من الميزان إلاَّ ما له كَفّتان، ولا خبر له من موازنة العالَمين وتطابق النشأتين، فلا يمكنه التصديق بوجود كتب الله المنزلة على انبيائه تصديقاً عرفانياً إيمانياً، بل تصديقاً لسانياً أو تقليدياً، وشيء منهما لا يسمن ولا يغني، ويحرم أيضاً عليه معرفة صحائف الناس يوم العرض الأكبر، وكذا الفرق بين كتاب الأبرار الأخيار، وبين كتاب الفجار الأشرار، المشار إليهما بقوله تعالى:
{ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } [المطففين:7 - 8] وقوله: { { إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [المطففين:18 - 21].
وأما قوله: { رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }، ففيه إشارة إلى أن كل انسان كامل حكيم عالم تام في نفسه، إذ فيه صور جميع ما في العالم على وجه ألطف، وقد ذكر الحكماء في معنى الحكمة انها صيرورة الإنسان عالماً معقولا مضاهياً للعالم المحسوس، وقال أبو يزيد البسطامي: "لو أن العرش وما حواه دخل في زاوية من زوايا قلب أبي يزيد لما أحسّ به"، فكل عالم رباني في الآخرة عالم تام لا يعوذه شيء من الأشياء، ولا يفتقر إلى شيء خارج عنه وعن ملكه وعالمه وسلطانه، ولا يبعد أن يكون هذا سر إيراده بصيغة الجمع الموضوعة لذوي العقول، فافهم وانتبه.