خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ
٢٣
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ
٢٤
-السجدة

تفسير صدر المتألهين

قرأ حمزة والكسائي ويونس عن يعقوب: لِمَا صبروا - بكسر اللام -، والباقون بفتح اللام وتشديد الميم، فعلى الأول "ما" مصدرية، والجار متعلق "بجعلنا" أي: جعلنا منهم أئمة لصبرهم، وعلى الثاني "لما" للمُجازاة، وحذف الجزاء لإغناء الفعل المتقدم عنه. و"الكتاب" للجنس، والضمير في "لقائه": إما لموسى (عليه السلام)، أي من لقائك موسى ليلة الإسراء. أو يوم القيامة. أو للكتاب، أي: من لقاء موسى الكتاب، يعني: إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب، ولقيّناه مثل ما لقيناك من الوحي، فلا تكن في شك من لقائك مثل لقائه كقوله: { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } [يونس:94]. ومثل قوله: "من لقائه"، قوله: { { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [النمل:6]. وقوله: { { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } [الإسراء:13].
وقيل: "من لقائه" معناه: من لقاء موسى إيّاك في الآخرة.
وقيل: معناه فلا تكن - يا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) - في مرية من لقاء موسى الكتاب، أي: من تلقيه بالرضاء والقبول - عن الزجّاج -.
وقيل معناه: فلا تكن في شك من لقاء الأذى كما لقي موسى الأذى - عن الحسن.
والضمير في "جعلناه"، إمّا للكتاب، لما في التوراة من الأحكام وبيان الحلال والحرام، أي: وجعلنا موسى هادياً لبني إسرائيل - عن قتادة -، أو وجعلنا الكتاب هادياً لهم - عن الحسن -، وجعلنا منهم أئمة يهدون الناس ويدعونهم إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه لما صبروا عليه من مشاق التكليف وتثبتهم على اليقين، كما نجعلنَّ من أمتك أمه يهدون مثل تلك الهداية لما صبروا عليه من نصرة الدين، وتثبتوا عليه من اليقين -. وعن الحسن: صبروا عن الدنيا.
ونقل في الكشاف: إنما جعل الله التوراة هدى لبني إسرائيل خاصة، ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل (عليه السلام). وهذا النقل أيضاً يدل على أن الغالب فيها الأحكام العملية التي يتطرق إليها النسخ والتغيير، دون المعارف والربوبيات المحفوظة عنها.
مكاشفات سريّة ونفثات رُوْعِيَّة
إعلم أن الفرق بين القرآن المجيد وسائر كتب الله المنزلة على الأنبياء، بأن القرآن كلام الله وكتابه جميعاً، وغيره كتاب فقط، وكلام الله أشرف من كتابه بوجوه:
أولها: إن كلامه تعالى قوله، وكتابه فعله، والقول أقرب إلى القائل من الكتاب إلى الكاتب، فكلام الله أشرف من كتابه.
وثانيها: إن الكلام والقول من عالم الأمر:
{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل:40]، والكتاب من عالم الخلق، وعالم الأمر كله علوم عقلية وحقائق معنوية، بخلاف عالم الخلق، لأن العلوم والمعاني زائدة فيه على صحائف مداركها وألواح مشاعرها.
وثالثها: إن كلام الله نزل على قلب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وسره، وكتاب الله نزلت صورة ألفاظه على ألواح وقراطيس.
ورابعها: إن تَلَقّي الكلام وتعلّمه بأنّ تتجلى حقيقته وينور معناه على قلب من يشاء من عباده، لقوله تعالى:
{ { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [الشورى:52]، ومن علّمه الله تعالى القرآن بهذا التعليم، كان ذلك عليه من الله فضلاً عظيماً، كما قال لحبيبه بعد تعليمه: { { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [النساء:113]. فتلقيه (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن من حيث هو قرآن بأن يتخلق به، إذ كان القرآن خُلُقَه، كما هو المروي عن بعض أزواجه حين سُئلت عن خلقه (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فإن الله يقول: { { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم:4]، قالت: "كان خُلُقُهُ القرآن". وأما تَلَقّي الكتاب وتعلّمه فبالدراسة والقراءة والتلاوة، فالأنبياء (عليهم السلام) يتدارسون الكُتُب لقوله تعالى { { كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } [سبأ:44].
وخامسها: إن تنزيل القرآن على قلب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ومكاشفة أسراره منه، وتجلّي أنواره له، أمر بينه وبينَ الله لا يطّلع عليه مَلَك مقرّب ولا نبي مُرسل، وأما إنزال الكتب على سائر الأنبياء فهو مما يقرؤه كل قارئ.
وسادسها: إن سائر الكتب يستوي في هداها الأنبياء ولأمم، لقوله في هذه الآية: { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ }، وقوله:
{ هُدًى لِّلنَّاسِ } [البقرة:185]. وأما القرآن من حيث هو كلام، فالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) مخصوص بالهداية به عند تجلّي أنواره في التنزيل على قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما قال: { { وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [الشورى:52]، وقال: { { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [النساء:113]، أي خصصك بهداه وعلمه.
وسابعها: إن الكتب المنزلة عليهم كانت تصرف فيهم، بأن يكون الكتاب مع أحدهم نوراً من الله يجيء به إلى قومه ليكون هدى لهم، كما قال:
{ { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى } [الأنعام:91]، وأما تنزيل القرآن على قلب الخاتم (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فكان تصرفه فيه بأن جعله نوراً من الله، يجيء ذلك النور إلى الأمة ومعه القرآن، كما قال تعالى: { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ } } - وهو محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) - { وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [المائدة:15].
وثامنها: قد فرّق الله بين ما شرف النبي الخاتم (صلّى الله عليه وآله وسلم) بإنزال الكلام على قلبه، وبين ما شرفوا به من إنزال الكتاب، فقال تعالى تشريفاً لموسى (ع):
{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً } [الأعراف:145]. وقال تعالى تشريفاً لنبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلم): { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } [النجم:10]. وانظر وتدبّر كيف قال: { { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [المجادلة:22]. فشتّان بين نبي تشرّف بكتابه الموعظة له في الألواح، وبين نبي تشرّفت أمته بكتابة الإيمان لهم في قلوبهم.
وتاسعها: إن من خصائص إنزال القرآن بما هو كلام الله، أنه متى نزل على قلب أحد صار خاشعاً متصدعاً من خشية الله لقوله سبحانه:
{ لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [الحشر:21]، ولمّا نزل على قلب الرسول صار قلبه خاشعاً خاضعاً من خشية الله، حتى قال كما هو المروي عنه: "أنا أَعْلَمُكُم بالله وأخْشاكُم منه" .
وأما إنزال الكتب فليس من لوازمه الخضوع والخشوع والتخلّق بأخلاق الله، ولذا قيل: لو كانت التوراة أنزلت على قلب موسى (عليه السلام) لا في الألواح، لعلّه ما ألقى الألواح في حال الغضب، وما احتاج إلى صحبة الخضر (عليه السلام)، لتعلّمه العلم كما حكى الله تعالى عنه بقوله: { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } [الكهف:66-67].