خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ
٥
-السجدة

تفسير صدر المتألهين

{ ٱلأَمْرَ } هو وجود الأشياء في أنفسها، وتدبير الوجود المطلق من الله تعالى هو إفاضته بالفيض الإيجادي المعبر عند بعض العارفين بالنفس الرحماني، فإن علمه تعالى بالأشياء عين موجوديته لها.
وقوله: { مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ } إشارة إلى الموجودات الواقعة في سلسلة البدو، والصادرة على سنّة الإبداع، من غير مدخلية الحركات والاستعدادات، إذ الوجود ابتدأ منه بأن أبدع أولاً عقلاً قدسياً مع ما يتلوه في الشرف من العقول القدسية، وعالمها عالم القضاء وعالم القلم الأعلى، ثم أبدع نفساً كلياً متعلقاً بالفلك مع سائر النفوس الفلكية التي دونها في الشرف، وعالمها عالم القدر وعالم اللوح المحفوظ، ثم الصور النوعية وقواها وكيفياتها، ثم الصور الجرمية الامتدادية، ثم الهيوليات الفلكية والعنصرية، واحدة للعنصريات، والتسع الباقية للفلكيات، لأنها تَسعُ جُمَل، كما بيّن عددها وترتيبها بالرصد والحساب في علم الهيئة.
وقوله تعالى { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } إشارة إلى وجود سلسلة العود إليه ورجوع الأشياء إلى فطرتها الأصلية، وذلك بتمزيج العناصر الحاصلة من هيولى هذا العالم وتحصيل مزاج متوسط بين الأضداد، معتدل بعيد عن الفساد، مظهر اسم الله الجامع المستحق لخلافته تعالى، فيبتدئ الوجود فيها من أخس الموجودات رتبة إلى الأشرف فالأشرف، وهي الهيولى الأولىٰ، ثم الجسم المطلق، ثم المركب المعدني، ثم النبات، ثم الحيوان، ثم الإنسان، ثم ذو العقل الهيولانى، ثم ذو العقل بالملكة، ثم ذو العقل بالفعل، وهلّم جراً إلى مرتبة الأنبياء والاولياء الواصلين إلى عالم الربوبية ومجاورة الحق الاول والملائكة المقرّبين.
وقوله تعالى: { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } يحتمل أن يكون ظرفاً لقوله: { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ } مع ما يتلوه، أو لقوله: { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ }، وعلى الوجهين، لا تفاوت في التقدير، لأن التقدير بالزمان يختص بسلسلة العائدات، وأما البادئات فوجودها عنه تعالى دفعي كلمح البصر لا يتقدر بالزمان أصلاً.
تبصرة
قيل: "الأمر"، هو المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة، ينزله مدبراً من السماء إلى الأرض، ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصاً كما يريده ويرتضيه، إلاَّ في مدة متطاولة لقلة عمّال الله والخلّص من عباده، وقلة الأعمال الصاعدة، لأنه لا يوصف بالصعود إلاَّ الخالص، ودل عليه قوله تعالى على أثره:
{ { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [السجدة:9] أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض لكل يوم من أيام الله، وهو ألف سنة كما قال: { { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [الحج:47].
{ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } أي يصير إليه ويثبت - عنده ويكتب في صحف ملائكته كل وقت من أوقات هذه المدة ما يرتفع من ذلك الأمر ويدخل تحت الوجود، إلى أن تبلغ المدة آخرها، ثم يدبر أيضاً ليوم آخر وهلم جراً إلى أن تقوم الساعة.
وقيل: ينزل الوحي مع جبرئيل (عليه السلام) من السماء إلى الأرض ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحي أو رده مع جبرئيل (عليه السلام)، وذلك في وقت هو بالحقيقة كألف سنة، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمأة سنة، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبرائيل (عليه السلام)، لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد، وقيل: يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة ثم يعرج إليه ذلك الأمر كله، أي يصير إليه ليحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة - وهو يوم القيامة -.
وإني أقول - والعلم عند الله -: يحتمل أن يكون "الأمر" في قوله: { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ } إشارة إلى الروح الإنساني لقوله تعالى
{ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء:85] وذلك لمروره على مراتب الموجودات عند خروجه عن مقام الفطرة الأصلية، ونزوله في العالم الأرضي بحسب الانسلاخ عن عالمه الأعلى، ثم عروجه من هذا العالم الأسفل بحسب العلم والعمل - إن ساعده التوفيق من الأزَل -، إلى مقامه الأصلي، لقوله سبحانه: { { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [التين:4 - 6].
وكون بدو وجود الروح الإنساني من عالم القدس لا ينافي قوله تعالى:
{ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ } [السجدة:7] لأن الخلق لكونه بمعنى التقدير، عبارة عن جسمية الإنسان وقالبه، وفطرة الروح غير فطرة البدن، لأن بداية أحدهما من التراب، وبداية الآخر من رب الأرباب، ما للتراب ورب الأرباب.
تفصيل تنبيهي
إن ما ذكرناه من مرور الحقيقة الإنسانية والفطرة الآدمية على جميع العوالم والنشآت، واستجماعها لجميع الحقائق من أعلى سماء عالم القدس إلى أسفل أرض التجسم، شيء استبشعه ذوق أرباب العلوم الرسمية، لعدم انطباقه على ملفقات أفكارهم القياسية، وأما أرباب الحكمة المتعالية، والناظرون بعقولهم المستفادة من الحق، وعيونهم المكحلة بنور التوحيد في الأسباب الأول والغايات الأخيرة لموضوعات علومهم ومعارفهم، فهم عارفون بأن علة الشيء كما أنها مقوّم وجوده، فهي مقوّم حده الحقيقي، وأن "ما هو"ولِمَ هو" أمر واحد في كل وجود صوري يحتمل البقاء الأبدي، إذ المجعول عندهم نحو وجود المعلول بالجعل البسيط، وهو عين هويته الخارجية التي هي وجه من وجوه علته الجاعلة، والعلة الجاعلة تمام حقيقة المعلول وصورته العقلية.
ثم إن كل موجود من الموجودات الكائنة في هذا العالم، له طور واحد من الأطوار لا يتعدّاه، إلاّ الهوية الإنسانية، فإن لها قابلية الإرتقاء من أسفل الأسافل إلى أعلى الأعالي.
وهذا أيضاً يختص ببعض أفراد الإنسان المسافر إلى ربه في تمام القوس الصعودية من دائرة الوجوب (ظ - الوجود)، دون غيره الذي لا يكون له هذه السعة من القابلية، وإن قطع في سيره الضعيف مقداراً قليلا من تلك القوس النصفية الصعودية منها كباقي الحيوانات، بل ربما يكون أضلَّ سبيلاً وأضيقَ مجالاً منها، كما نطق به التنزيل.
والسر في هذا أن مواطن أفراد الإنسان ومعاد كل صنف منه إلى ما هو مبدأ وجوده - إن لم يمنعه عائق خارجي -، فرب إنسان يكون الحق علة وجوده ومباشر تكوينه بيديه، فيكون إليه معاده كما منه بَدْؤه، ورب إنسان يكون مبدأ وجوده القريب أحد المبادي النازلة التي تكون في آخر المراتب.
بل ربما يكون وجوده بمدخلية بعض الشياطين، الذين هم من عمّار عالم الشر والوسواس، فيكون مثل هذا الإنسان الممسوس بنار الشيطان، راجعاً إلى أصله الذي نشأ منه، فيحترق بالنار التي هي أصل وجوده، مثل هذا الأشرار، فكم بين من باشر الحق تسوية وجوده وتعديله وجمعه بين يديه المقدّسين، ثم نفخ بنفسه فيه من روحه نفخاً استلزم معرفة الأسماء كلها، وسجود الملائكة له أجمعين، وإجلاسه مرتبة الخلافة والنيابة عنه في الكون، وبين من خَلَقَهُ بيده الواحدة، أو بواسطة ما شاء من الوسائط الوجودية الواقعة في سلسلة البدو، فلم يقبل من حكمي التسوية والتعديل ما قبله من اختير واصطفي للخلافة.
وهذا الذي ذكرناه، من تفاوت خلقة الإنسان بحسب الفطرة الأصلية، مما يستفاد من الأحاديث الكثيرة المختلفة الفحوى في الإخبار عن كيفية بدو الإنسان، وبه أيضاً يحصل التوفيق بين الجميع، لأن اختلاف المعاليل والمسببات في الحقيقة مما يستدعي اختلاف الأسباب والعلل، فإن الذي ينفخ فيه الروح وهو المَلَك بالأذن - كما يدل عليه بعض الأخبار - كيف يكون مساوياً في الحقيقة لمن باشر الحق إنشاءَه بيده.
فانظر فيما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
"يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم أربعين يوماً علقة، ثم أربعين يوماً مضغة، ثم يؤمر المَلَكُ فينفخ فيه الروح. فيقول: يا رب، أذَكّرُ أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ ما رزقه؟ وما أجَلَهُ؟ ما عمله، فالحق يملى والملك يكتب" .
فأين هذا من قوله تعالى: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ص:72]. وشتّان ما بينهما؟ إذ هاهنا أضاف المباشرة إلى نفسه بضمير الإفراد الرافع للاحتمال، ولذلك فرّع بذلك من أبى واستكبر عن السجود له ولعنه وطرده، وقال: { { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ص:75].
وأكد ذلك (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمور كثيرة رويت عنه، منها قوله:
"إن الله خلق آدم على صورته أو على صورة الرحمن" . ولقوله "إن الله إذا خلق خلقاً للخلافة مسح بيمينه على ناصيته" . فنبه على مزيد الاهتمام والتخصيص قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): "لا تسبّوا علياً فإنه ممسوس بنور الله" ، فكيف يكون الممسوس بنور الله كالممسوس بنار الشيطان؟
وفي حديث آخر عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم)
"إن الذي باشر الحق سبحانه إيجاده أربعة أشياء - ثم سردها فقال -: خَلَقَ جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده، وخلق آدم بيده" .
وقال أيضاً: "الإنسان أعجب موجود خُلق" فافهم.
تبيين مقال لكشف حال
فلا يزال الإنسان الكامل مباشراً في ساير مراتب الاستيداع، إلى أن ينزل إلى أسفل عالم الاجتماع، فكان أولاً متعيناً تعينه الخاص في علم الله، ثم انفرز بإرادته تعالى وظهوره في مقام القلم الأعلى، الذي هو العقل الاول المشتمل على عالم العقول، ثم في المقام اللوحي النفسي، ثم في مرتبة الطبيعة باعتبار ظهور حكمه في الأجسام، ثم في العرش المحدد للجهات مستوى اسم الرحمان، ثم في الكرسي الكريم مستوى اسم الرحيم، ثم في السموات السبع، ثم في صور العناصر المتعلقة بهيولى العنصريات، هذه غاية تدبير الأمر النازل من سماء العقل الأول الأعلى إلى أرض الهيولى السفلى، التي هي محض القوة والعدم، المشار إليها بقوله تعالى:
{ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [الإنسان:1].
ثم شرع في الصعود والإرتقاء إلى ما نزل منه والرجوع إلى ما بدأ منه، فصار بالامتزاج وحصول المزاج طيناً، ثم منيا فيه صورة حافظة للتركيب كالمعادن، ثم صار مضغة قابلة للنمو كالنبات، ثم صار عَلَقة قابلة لأن تلجه الروح، ثم صار بشراً سميعاً بصيراً، ثم رجلاً بالغاً انفتح بصره قليلا إلى ما وراء هذا العالم، كما قال سبحانه:
{ إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [الإنسان:2 - 3]. وهلم إلى أن يبلغ درجة العقول، بل العقل الأعظم والقلم الأعلى، لو لم تعقه العوائق وقواطع الطريق.
وأما كون زمان هذا الصعود ومدة هذا الإرتقاء يوماً كان مقداره ألف سنة، فهو شيء لا يعلمه بخصوصه إلاَّ علاّم الغيوب، أو من اصطفاه من رسوله، أو من ينتمي إلى وصيّه، فإن مكث الإنسان في كل عالم وحضرة يمر عليها بحسب طول مسافة سفره، وتهيئة أسباب ارتحاله، وانتفاع كل عالم من وجوده، واستتمام أهل كل نشأة ومرتبة به وبخدمته، وإمداده وحسن تلقّيه أولاً ومشايعته ثانياً، هو بحسب ما يدركونه فيه من شيمة العناية وأثر الاختصاص وشرف الاصطفاء، وما من عالم يمر عليه إلاَّ وهو بصدد التعويق في الإنحراف المعنوي، لغلبة صفة بعض الأرواح يتصل حكمه عليه، أو بعض الأفلاك الذي ينوط به طالع ولادته البدنية، أو بحسب دولة بعض الأسماء الإلهية المدبّر له. الذي هو طالعه الأسمائي قبل طالعه السمائي، فيعوق أو ينحرف عما يقتضيه حكم الاعتدال الجمعي الاستقامي الذي هو شأن من يختار النهاية من الأنبياء والاولياء (عليهم السلام)، ثم الأمثل فالأمثل.
فإذا دخل عالم المولدات، سيما من حين تعدى مرتبة المعدن إلى مرتبة النبات وعالمه، إن لم تصحبه العناية بحسن المعونة والمرافقة والحراسة والرعاية حيف (ظ - خيف) عليه، فإنه بصدد آفات كثيرة، لأنه عند دخوله عالم النبات إن لم يكن محروساً معتنىً به، قد ينجذب في بعض المناسبات التي تشتمل عليها جمعيته، إلى نبات ردي لا يأكله حيوان ولا يأكله الأبوان أو أحدهما، ويفسد ذلك النبات فيخرج منه إلى عالم العناصر، ويبقى فيه حائراً عاجزاً، حتى يُعانَ ويُتَدَاركَ بلطف جديد، ويؤذن له في الدخول مرة أخرى بعد دخوله واتصاله بنبات صالح للتغذي، فربما عرضت له آفة من العناصر من برد شديد، أو حرّ مفرط، أو رطوبة زائدة، أو يبس بالغ، فيتلف ويخرج يستأنف دخولاً آخر، هكذا مراراً شتى حسب ما شاء الله وقدّر.
ثم على تقدير سلامته مما ذكرناه بسبب الرعاية والحراسة وباقي النعم التي يستدعيها استحقاقه، ربما تمّ في صورة نبات، لكن تناوله حيوان ولم يقدّر للأبوين أكله أو أكل ذلك الحيوان لمانع من الموانع، لما لم يكن رزق الذين سبق في علم الله أن يكونا أبويه، وإذا قدر مواطأة كل ما ذكرنا، وتناوله الشخصان المعينان في العلم أن يكونا أبويه أو أحدهما، وصار ذلك النبات كيلوساً، ثم دماً ثم منيّاً، فإنه قد يخرج على غير الوجه الذي يقتضي تكوينه، فهو مفتقر إلى نعمة الحراسة الرعاية في كل مرتبة وحال إلى حال مسقط النطفة مدخلاً كريماً، وحال انفصاله ونزوله عن الوالدة منزلاً مباركاً، فإنَّ لمسقط النطفة ومسقط الرأس في أمر الإنسان الكامل الجامع للأسماء مدخلاً عظيماً من حيث ظواهره وباطنه.
وجملة القول: إنه ما من مرتبة من هذه المراتب التي ذكرت ولم تذكر، إلاَّ ويتصور للإنسان تعوقات عما بصدده من السلوك إلى عالم الربوبية بحسب أمور شتى، من عدم توافق الأسباب الأرضية، وعدم اجتماع المعاونات الفلكية على وضع يؤدي إلى وجود مثل هذا الإنسان الذي يستحق الإرتقاء إليه تعالى، وقطع القوس الصعودية تماماً، أو الحِكَم والمصالح التي تترتب على مُكْنَته في كل مرتبة وعالم من التي يعلمها علاّم الغيوب، حتى يخلص من الجميع ويصعد إلى الله في الترقي من مقام إلى مقام، ومن عالم إلى عالم، بأن يترقى من مقام الطبايع إلى مقام المعادن بالاعتدال، ثم إلى مقام النبات، ثم إلى الحيوان، ثم إلى الإنسان في مدارج الانتقالات المترتبة بعضها فوق بعض، ثم في منازل السلوك: كالإنتباه، واليقظة، والتوبة، والإنابة، إلى آخر ما أشار إليه أهل السلوك من منازل النفس ومناهل القلب، ثم في مراتب الفناء في الأفعال والصفات إلى الفناء في الذات بما لا يحصى كثرة.
ثم اعلم أنه ليس في قوله تعالى: { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } نص صريح على أن كل روح من الأرواح المقدسة لا بد وأن تكون مدة مكثه نزولاً وصعوداً ما بين البدو والانتهاء هذا المقدار، بل يحتمل أن يكون بعضها هكذا وبعضها يقطع المسافة العروجية في أقل مدة تتصور، لأن ذلك يتفاوت في الناس بحسب مراتب جوهر أرواحهم، لطافة وكثافة، ومراتب توافق المعاونات والمعدّات كثرة وقلة، وتطابق الأوضاع للطالع السماوي ومقتضيات الطالع الأسمائي من حيث توجه الحق إليه شدة وضعفاً بحسب ضَرْب من أعداد من الأسماء التي تقتضي سرعة العود لمظهرها إليها أو أقل منها أو بخلافها، فرب إنسان يقول: الآن في أذني قول الحق في الأزل:
{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُم } [الأعراف:172]، وذلك لقلة الحجاب وشدة الصفاء في الفطرة.
كشف استفادي
لا يبعد أن يكون اليوم المذكور المقدر بألف سنة من أيام الدنيا، إشارة إلى آخر الأيام الأسبوعية الدنيوية التي ستة منها مضت وانقضت قبل هذا اليوم الآخر المسمى بالجمعة، وهي الستة التي كان كل واحد منها ميلاد واحد من الأنبياء العظام الستة، الذين بهم وبمتابعتهم صعدت النفوس الشريفة الإنسانية من أسفل سافلين إلى أعلى علّيين، وهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وعليهم أجمعين)، وأما اليوم السابع وهو الذي للمحمديين من أولاده المعصومين سلام الله عليهم أجمعين، وورّاثة الراسخين في العلم، الكاملين في العمل، القائمين بأمر الله، المعلنين كلمة الحق، المستحفظين دينه إلى زمان ظهور المهدي (عليه السلام)، الذي به يكون غاية ارتفاع نهار هذا اليوم، وغاية سطوع شمس الحقيقة في وسط سماء الاستقامة الحقيقية، ومعدّل النهار الاعتدال الجمعي الكمالي، فيه ظهور نور دين التوحيد الإلهي، وانفلات ظلام الشرك الإبليسي، وانقماع الباطل الوهمي بالكلية، إذ به يملأ الله الأرض قسطاً وعدلاً، بعدما مُلئت ظلماً وجوراً، وعند ذلك تقوم الساعة، لأن وجود الدنيا مبني على الحجاب والاحتجاب، وحيث رفع النقاب وانقشع السحاب، فلا وجود للامع السراب، لشدة إشراق الحقيقة الموجبة لاضمحلال الرسوم والأطلال والسحب والظلال، اضمحلال الجميد وذوبان الثلوج عند ارتفاع الشمس في رابعة النهار.
وأما اليوم المقدّر بخمسين ألف سنة في قوله تعالى:
{ تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج:4]، فهو يوم من أيام الله تعالى العليّ بالذات، ذي المعارج العلى التي يعرجها أهل القيامة الكبرى إلى حضرته الذاتية، وهي أيام السنة السرمدية من ابتداء الأزل إلى انتهاء الأبد، وهو غير هذا اليوم، لأنه يوم من أيام الرب، المقدر بألف سنة الذي وقّت به التدبير في قوله تعالى: { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }، ووقّت به العذاب وانجاز الوعد في قوله تعالى: { { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } [الحج:47]، وهو اليوم الآخر (ظ - الأخير) من الأسبوع الذي هو مدة الدنيا، المنتهية بنبوة خاتم الأنبياء (صلوات الله عليه) وظهور دينه وانتشار نوره الذي يكمل في آخر الزمان لقوله تعالى: { { وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ } [التوبة:32]، وإن كان أول بعثته في آخر اليوم السادس، وإلى هذا السابع أشار بقوله: (صلى الله عليه وآله وسلم): "إن استقامت أمتي فلها يوم وإن لم تستقم فلها نصف يوم" مع قوله: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ، كما مرَّ ذكره.
وبالجملة، فهذا يوم من الأيام الألوهية، وهو مقدار اقتضاء الربوبية بظهور أسماء الله الغير المتناهية التي يندرج مع لا تناهيها في الأئمة السبعة، وهي: الحي، العالم، القادر، السميع، البصير، المتكلم، المريد. ولكل من هذه السبعة ربوبية مطلقة بالنسبة إلى ربوبيات الأسماء المندرجة تحته، مقيدة بالنسبة إلى ربوبية كل واحد من إخوانه إلى انتهائه بالتجلّي الذاتي، وكما أن هذا اليوم المذكور سُبْعٌ من أيام الدنيا، فمدة الدنيا سُبْعٌ من ذلك اليوم الإلهي، الحاصل من ضرب أيام الدنيا في عدد أسماء الربوبية، وهو تسعة وأربعون سنة، وآخره الخميس (الخمسين - ن) الذي هو يوم واحد من أيام الله، وهو يوم القيامة الكبرى، والله أعلم بحقائق الأمور.
تنوير تمثيلي
إعلم أن الله تعالى وضع العالم على هيئة مدينة كاملة، فيها مساجد وبِيَعٌ وصلوات، ولأهل الدين فيها مجالس ومجامع وجُمُعات وأعياد، وكما أن للمدينة صنّاع وعمال لهم أجره وأرزاق، وفيها بَيْعٌ وتجّار يتعاملون بموازين ومكائيل، ولهم مظالم وخصومات، ولهم فيها قضاة وحكام وعدول، ولهم فقه وأحكام وفصول، وان من سنّة القضاة والحكام البروز والجلوس لفصل القضاء في كل سبعة أيام يوم واحد، فهكذا يجري حكم القضاء الإلهي في كل سبعة آلاف سنة مرة، لعرض النفوس الجزئية لدى الملك الحق المبين، لفصل القضاء بينها:
{ { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء:47].
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
"عمر الدنيا سبعة آلاف سنة بعثتُ في آخرها ألفاً" .
وقال: "لا نبي بعدي على هذه الأمة" .
يقوم القيامة وهو يوم العرض الثاني، كما أن يوم العرض الاول ما أشار تعالى إليه: { { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } [الأعراف:172]، وبين اليومين سبعة أيام، كل يوم كألف سنة مما تعدّون.