خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢٠
-يس

تفسير صدر المتألهين

هذا الرجل، هو "حبيب بن إسرائيل النجّار"، وكان في سابق الزمان ينحت الأصنام، وهو كناية عن اشتغاله سابقاً بالإعتقادات الجزئية، والصور الخيالية والوهمية، التي يتصور وجودها في الخيال بتصرف القوة المتفكّرة، وهي التي من شأنها تصوير الحقائق في كسوة الحكاية الخيالية، وإنكار العقائد الحقة الإلهية، إلاّ في صور المحسوسات، فصاحب العقيدة الوهمية، لقصور علمه ما يعتقده إلهاً، وليس إلهه ومعبوده - على حسب اعتقاده - إلاّ ما يوجده بوهمه، ويصوِّره بقوته المتصرّفة، فهو الذي ينحت صَنماً، ويعتقده إلهاً، ويتخذه معبوداً، كما في قوله تعالى: { { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية:23].
وأكثرُ الناس - إلاّ مَنْ أيّده الله بالتقديس الأتَمّ، والتنزيه الأكمَل - عابدون لأصنام العقائد الجزئية، ومعتقدون للصوَر الوهمية، حتى أن عبدة الأصنام الخارجية، الحَجَرية والخشبية والمعدنية، إنما عبدوها لإعتقادهم معنى الالوهية في تلك الأجساد، من الجماد وغيره، فَهُم أيضاً بالحقيقة، قد عبدوا معتقداتهم، وما حصل في أوهامهم، فالهوى معبودهم جميعاً أوّلاً وبالذات، والصنم الخارجي معبود لهم بالعرض، فعلى هذا، غير الموحّد العارف، لهم جميعاً اشتراكٌ في الإشراك، واتفاقٌ في طلب الهوى وعبادة غير الحق وما سوّى.
وَمَا مِن مؤمن، إلاّ وَلَهُ عُبورٌ عن هذه الإعتقادات الجزئية، فَورودُ الصُّوَرِ الوهمية، أو الأصنام الخيالية، لا عَلَى وجه الإذعان، بل على مسلك التفتيش وتصوير الاحتمالات البعيدة، لِيُقامَ على نَفيِها البُرهان، كما وقع للخليل - على نبينا وآله وعليه السلام - من العبور على آلهة عبدة الكواكب، لزيادة الكشف واليقين، في تنزيه الحق الأول عن مماثلتها، ولإقامة البرهان، على فسادَ تَوَهُّم المحجوبين، وإخراج تلك الصور، التي هي إله سائر المعتقدِين، من المشركين والمعطّلين، من أن تستأهل اعتقاد الألِوهيَّة فيها، فإنه يوجب العذاب الأليم، ويستدعي عقوبة الاحتجاب من الله، والتَّردِّي إلى أسفل دَرْك الجحيم.
فقد ظهر أن أهل البصيرة الإلهية، يَعْبُرونَ عنها في أسرع زمان، مِن غير أن يتضرروا بها، كما قال واحد من أهل البيت (عليهم السلام): "جزناها وهي خادمة"، وإليه الإشارة في قوله سبحانه:
{ { إِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [مريم:71 - 72].
فكان حبيب النجّار، من جملة أهل البصيرة، الذين نوَّرَ الله بواطنهم بِكَشْف الحقائق، والارتقاء من عالم الوهم والخيال، إلى عالم التقديس بنور المعرفة والحال، وهو أحد السبّاق الثلاثة، المذكورة في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"سبّاق الأمم ثلاثة، لم يكفروا بالله طرفةَ عَيْن: علي بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون" . وفي تفسير الثعلبي بزيادة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "وَعَليٌّ أفضلُهم" .
وهم ممن آمن برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبينهما ستمائة سنة، كما آمن به تُبَّعٌ الأكبر وَوَرَقَة بْنُ نَوفَل وغيرهما، وهذه إحدى خصائص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ لم يؤمن احد بنبي غيره إلاّ بَعْدَ ظهوره، وفيه سرُّ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "كنتُ نبيّا، وآدم بين الماء والطين" .
وها هنا سر آخر، وهو أنه قَدْ وَرَدَ في الحديث عنه (عليه السلام): "إن لكل شيء قلباً، وقلب القرآن يس" فلعل ذلك لما قد ذكر الله فيها "حبيب"، المشهور "بصاحب يس"، وَوَصفَه بما يدل على قربه ومنزلته عند الله، من التوحيد والكرامة والنصيحة لقومه، وهو ممن آمن بنبينا قبل بعثه بستمائة سنة، ففي ذلك آية عظيمة لنبوته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكونه حبيب الله، الذي آمن به حبيبٌ قبل ظهوره هذا.
وقيل: كان في غار يعبد الله، فلمّا بَلَغَه خبرُ الرسل، أتاهم، وأظهر دينه لهم، وقاوَلَ الكفرة الجحدة، فقالوا: "وأنت تخالف ديننا؟" فوثبوا عليه فقتلوه، وقيل: توطّئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه، وقيل: رَجَموه وهو يقول: "اللهم اهدِ قومي"، وقبره في سوق انطاكية، فلما قُتِل، غضب الله عليهم، وأُهلِكوا بصيحة جبرئيل (عليه السلام).
ويفهم أيضاً من قوله تعالى: { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ }، أنه ممن كان مستوحشاً عن الخلق، مؤثِراً للعزلة والخلوة.
وقيل: كان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان قد آمن بالرسل عند ورود اثنين منهم القرية، كما نقلنا من قصتهما، وسبب إيمانه برسالتهما، فلما بلغه أن قومه قد كذبوا الرسل وهمّوا بقتلهم، جاء يعدو ويشتد، قال: "يا قوم اتبِعوا المرسلين، الذين أرسلهم الله إليكم، وأقِرّوا برسالتهم".
وعن ابن عباس: أنه كان به زَمانة وجذام فأبرأوه، فآمن بهم، وقيل أنه إنما علِم بنبوَّتهم لأنهم لمّا دَعوه قال: "أتأخذون على ذلك أجراً؟" قالوا: "لا" ويؤيده قوله تعالى:
{ ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } [يس:21]: