خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ
٣٣
-يس

تفسير صدر المتألهين

ومن الآياتِ الواضحةِ، والحججِ القاطعة لمنكري البعث والحَشر - كالأطباء والطبيعيين والدهريين والمتفلسفينَ، وطائفة من العوام المقلِّدين لهؤلاء، المتشبّثين بأذيال المتشبّهين بالعلماء والحكماء، ظناً منهم أن الحكمة توجب إبطال الشريعة - المبينةِ على ثبوت قدرة الله تعالى على حشر الأجساد، واحياءِ الموتى من العباد، هي الأرض الميتة، لغلبة جمود البرودة، وضعفِ قوة الحرارة، لفرط انحطاط الشمس عن سموت رؤوس بقاعها، فلا ينبت شيء ولا تتحرك أجزاؤها الكامنة فيها إلى جهة العلو، طلباً للكمال وارتفاعاً إلى العالم الأعلى، كالميت المنقطع عن الروح بحرارتها الغريزية، المستدعية للنمو والحس والحركة، لطلب الكمال اللائق بحاله.
أحييناها: أي الأرض المنقطع عنها أثر الحياة من الحرارة المنشئة للنبات، بنفخ الحرارة السماوية، بارتفاع دائرة الشمس بشعاعها المخروطي الشبيه بهيئة الصور الإسرافيلي، النافخ بإذن الله في النيران الكامنة في عروق الأرض وأعماقها بالقوة، وأخرجنا منها ما كمن فيها من أنواع الأعشاب والحبوب، التي يتقّوتونَه، مثل الحنطة والشعير والأرز وغيرها: فمنه يأكلون.
فهذا ضرب من الاستدلال على ثبوت قدرة الله على إعادة الأمثال، وتوضيحه: أن منكري المعاد، إنما أنكروا إحياء الموتى، لما توهَّموا أن إحياءها يوجب إعادة المعدوم بعينه، وهو مما ثبت استحالته.
والجواب: أن المُعاد في المَعاد هو الروح بعينها وهي باقية غير فانية مع بدن محشور مثل هذا البدن لا نَفْسه، حتى يلزم إعادة المعدوم، فالتمثيل بإنبات الربيع، وإخراج الحبوب من الأرض بعد يبسها، كما في هذه الآية وغيرها، للإشعار بأن المُعَادَ مثل البدن الأول كما دلّ عليه قوله تعالى:
{ { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْييِ ٱلْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [فصّلت:39].
وهذا القدر في معنى المعاد مما اكتفى به جمّ غفير من علماء الإسلام منهم الغزالي، واستدل شارح المقاصد عليه بأن النصوص دالة على إعادة المثل لا الشخص بعينه من البدن، كقوله (صلى الله عليه وآله):
"أهل الجنة جرد مرد" وكون "ضرس الكافر مثل جبل أحد" وبقوله تعالى: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } [النساء:56] وبمثل قوله تعالى: { { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } [يس:81].
واني لا أرتضيه كما بيّنته في مواضع من كتبنا وتفاسيرنا، بل المعاد عندنا هو هذا الشخص بعينه، وهذا الوجه بعينه، وهذه اليد بعينها، وهذه الأعضاء بشخصياتها وتحقيق هذا المعنى يحتاج إلى بسط عظيم خارج عن طور التفسير وإن لم يمكن فهم بعض الآيات التي في بيان الحشر بدونه، وقد بسطنا القول فيه في كتبنا، وسنذكر لمعة من أسرار المعاد في أواخر هذه السورة، فليراجع إليه من أراد ذلك.
فالأولى أن يحمل الآية على أنها لدفع شبهة أخرى لهم في نفي المعاد، هي أن استيناف الحياة في البدن يحتاج إلى استعداد سابق وقبول مادة مستعدة حاصلة بالتوالد والإزدواج الحاصل من الأبوين، ثم حركة في الإنفعال وتدرج في كمال بعد كمال، حتى يحصل الولد ويحيي المني المستعد، وهذه الأسباب مفقودة بعد هلاك الكل، فكيف يوجد الخلائق الكثيرة العظيمة ويحيي عظامها البالية الرميمة دفعة من غير تعاقب وتوالد وتدرج في الاستكمال، وحصول أسباب وانفعالات وسبق استعدادات الكمال بعد كمال؟.
فالله سبحانه أزاح هذه الشبهة وأماط هذه الريبة بأن انشاء الموجودات في النشأة الثانية إنما يكون بمجرد جهات فاعلية وأسباب علوية إلهيّة لا بحركات وانفعالات قابلية وأسباب هيوليّة، كما أن إنشاء الخلائق ابتداءاً لم يكن إلاّ بمجرد جود الله وإبداعه الأسباب الفاعلية، حتى تنزلت بتأثيراتها وإنشاءاتها إلى آخر الموجودات النازلة السفلية من غير سبق وسيلة وتقدمة استحقاق لقوله:
{ { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } [الأعراف:29] وقوله: { { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [الواقعة:62].
فمثَّل الله تعالى لهذا المعنى بمثال إنشاء النبات والأشجار، وإحياء الأرض بها كل سنة، بعد يبسها وموتها بالأسباب العالية، والأوضاع السماويّة، والقوى الفعالة، من قوّة حرارة الشمس بارتفاعها، واستيناف تأثيرها بحرّها وشعاعها، لا بالأسباب الأرضية بقواها المنفعلة في صورة الفاعلة - من بثّ البذور وإجراء المياه على الأرض وسقيها وإصلاحها - فإن شيئاً من هذه الأمور لا يجدي نفعاً في حياتها، لكن إذا حان وقت إرادة الله أحياها.
فكذلك الحال في وقت النشور، وإحياء الله تعالى حياة أخروية كل من في القبور، كما بيّن الله تعالى، وأوضح هذا المعنى في عدة مواضع من القرآن، كقوله:
{ { وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ } [الحج:5 - 7]، وكقوله: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْييِ ٱلْمَوْتَىٰ } [فصّلت:39]. وكقوله: { { وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [النحل:65].
ولما مثّل الله تعالى في إحياء الأموات عند النشور، وبعثة من في القبور، بإحياء الأرض موتها ويبسها، أراد أن يشير إلى أن حشر الناس يوم القيامة، ووقوع الواقعة، على أقسام من الصور والهيآت المختلفة، حسب الأعمال والنيّات، فمثّل إنشاء الخلائق إذا نفخ في الصور، بإنشاء الأزهار والثمار المتلوِّنة بفنون من النباتات، والأشجار المختلفة حسب ما كمن فيها من البذور والأصول، التي هي بمنزلة الأخلاق والإعتقادت الكامنة في الإنسان، التي ستبرز وتظهر منه يوم حشر ما في القبور وتحصيل ما في الصدور.
وفيه إشارة أيضاً: إلى أنموذج من نعم الله الحاصلة من الأرض، لانتفاع عباده منها، واغتذائهم بها، ليتقوّتوا منها ويتهيئوا لشكر خالقهم ومنشئهم، لأن جميعها مما لا يحيط به العد والحصر، فقال:
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } [يس:34].