خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ
٣٦
-يس

تفسير صدر المتألهين

وقد نزَّه الله سبحانه ذاته وعظمها أولاً، عن نسبة النقص في الذات، والشَّين في الصفات، والفتور والتقصير في الأفعال، وأوضح دليله ثانياً، بأنه هو الذي يستحق منتهى الحمد وغاية الشكر، فيكون الكلام كدعوى الشيء بِبيِّنَتهِ، أي تنزيهاً وتعظيماً وبراءة عن الآفة والنقص والسوء، للذي خلق الأنواع والأشباه والأشكال والأمثال من كل نوع، أي كل طبيعة متكثِّرةِ الأفراد، كأنواع الكائنات من أصول ثلاثة، هي الموضوعات والقوابل.
لأن الأنواع المتكثِّرة الأفراد، الحاصلة بالقوة والإستعداد، الناشئة في سلسلة العائدات إلى الباري تعالى، المتعاكسة في الوجود لسلسلة الباديات منه: لا بد لوجودها من مادة تقبل تكثُّر نوعيتها وتعدُّد أفرادها.
وذلك لأن التكثُّر في مَالَهُ حدٌّ نوعي، وتأحّد طبيعي، يحتمل بحسب الفرض، أن يكون اما بالماهية، أو لازمها، أو عارضها، والقسمان الأولانِ يوجبان انحصار النوع في شيء واحد، وهو خلاف المفروض، فتعيَّن القسم الثالث، فلا بد من مادة قابلة، ينفعل عن الفاعل البريء عن التغيّر أحوالاً وأغراضاً: حادثة تحتاج في حدوثها وتجددها إلى قوة إنفعالية، وحركات استعدادية سُفْلية، تابعة لحركاتٍ ومحصّلات فلكية لأغراض عُلْوية، تلحق تلك الحركات إلى فاعلٍ غير متناهي القدرة في التأثير، وقابلٍ غير متناهي القوة في الإنفعال، فتنفتح أبواب نزول الرحمة والخيرات، وأسباب ورود النعمة والبركات، لقوله تعالى:
{ { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم:34] وقوله: { قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } [الكهف:109] الآية.
وهي على كثرة أفرادها وأنواعها منحصرة في ثلاثة أجناس:
أولها: ما لا شعور لها، ولا نفس حساسة فيها في حد حقيقتها، وهي مما تنبت من الأرض، والمراد منها ما يندرج فيه المعادن والنباتات، إذ جميعها "مما يخرج من الأرض" وينشأ منها.
وثانيها: ما له نفس شاعرة مريدة للحركات إقداماً وإحجاماً، جلباً ودفعاً، طلباً وهرباً، شهوة وغضباً، ولا يخلو منه حيوان، إذ أدنى مراتب الحيوانية فيما له قوة اللمس، وهذه القوة موجودة لكل حيوان حتى الدود والخراطين التي تكون في الطين، فإنها إذا غرز فيها إبرة انقبضت للحرب، لا كالنبات فإنه يقطع فلا ينقبض لعدم احساسه بالقطع، ومادة تكوّن الحيوان وأصل خلقته إنما هي مواد فضلية منوية، موجودة في أبدان الحيوانات، حاصلة من فضلة الهضم الرابع، باستخدام النفوس الحيوانيّة للقوى النفسانيّة والطبيعيّة، كالجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة المحركة للغذاء في عروق البدن وأعماقه المخرجة للفضلة إلى أطراف البدن ومخارجها، مستقرة في قرار مكين بوسيلة حركات وانفعالات جماعية، واقعة من نفوس الآباء والأمهات على أغراض حيوانية، طلباً للشهوة واللذة التي هي الغاية القصوى لأفاعيلها، فأشار إلى ذلك بقوله: "ومن أنفسهم".
وثالثها: ما له إدراكات كلية، وهي عقول مجردة وموجودات مستقلة في الوجود البقائي والكمال الأخروي، حاصلة من الأفكار والتأملات القدسية الواردة على العقول الهيولانية، وإليها أشار بقوله: { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }.
واعلم أن جوهر الناطق الذي به تكون هوية الإنسان، ذو حالتين: حالة بها يكون نفساً، وحالة بها يكون عقلاً، فهو بحسب الحالة الأولى داخل في النفوس الحيوانية، مبدؤه المزاج، ومنتهاه الموت بالإنحلال. وبحسب الحالة الثانية داخل في قسم الملائكة المقربين والعقول المقدسين، فمبدء تكونه من عالم الأمر ومرجعه إلى الله، فقوله: { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }. إشارة إلى مادة تكوّن الأرواح الإنسية الكاملة في العلم والعمل، لأنها ليست من عالم الشهادة ومن مدركات الحواس، ولا مما يعلَمُه جميعُ الناس.
وأما كيفيّة تولّدها من الأمور العقلية والأعمال المقرِّبةِ لها من الكمال، المخرجَة إياها من القّوة إلى الفعل، فهي مما يطول شرحه، وليس لكل إنسان نصيب في فهمه، بل المغترُّون بظواهر العلوم، مِمَّن يجحدون وجودَ عالَم الأمر، وبلوغ الإنسان إليه بوسيلة العلوم والتفكرّات، جهلاً بأن هذا البلوغ هو الغرض الأعلى، والغاية القصوى في ارسال الأنبياء، وإنزال الكتب عليهم من السماء.
وتلخيص القول، ان الله تعالى، كما يُصوِّر الجنين بصورة الحيوانية، المرتبة على نطفة سقطت من الأب في الرحم بتدبير الأربعينات، فكذلك إذا سقطت من صلب نبّوة الأنبياء، وولاية الأولياء نُطَفُ العقائد الإيمانية، في أرحام نفوس أهل الإيمان، بتربية تصرفات المعلمين والمشايخ، فالله تعالى يحوّلها من حال إلى حال، ويُكَمِّلها بكمال بعد كمال، ويقلبّها من مقام إلى مقام، حتى ينتهي إلى كمال التهيّوء والإستواء، فيخلق بقدرته وهدايته في رحم النفوس، صورة وليد القدس، وطفل خلفاء الله في أرضه، على الوجه الذي يليق لتحمّل الأمانة، حسب إرادة الله ومشيئته لقوله تعالى:
{ { هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ } [آل عمران:6] فيستحق الآن، أن ينفخ فيه الروح المختص بأنبيائه، وأوليائه، وهو الروح القدسي، الذي هو مجعول إلقائه وصورة كتابته، كقوله: { { يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [غافر:15] وكقوله: { { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } [المجادلة:22].
ولهذه الفائدة العظيمة، والنعمة الجسيمة، أهبط الأرواح من أعلى علّيين القُرْب إلى أسفل سافلين البُعْد كما قال:
{ ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } [البقرة:38] فإذا نفخ فيه الروح القدسي، يكون آدم وقتِه، فيسجد له بالخلافة الإلهية الملائكةُ كلُهم أجمعون، تفهّم إنشاء الله وَتَنبَّه.
والمحجوبُ عن غير هذا العالم كالظاهريين، فسَّر ما لا يعلمون بأزواج من الحيوانات العفنيّة، والجمادات المعدنية، التي لم يجعل الله للبشر طريقاً إلى العلم بها، لأنه لا حَاجَة بهم في دينهم ودنياهم إلى ذلك العلم.
وفيه ما لا يخفى من التعسّف، إذ سَوْقُ الآية يدل، على كون ما لا يعلمون، خلقاً عظيماً وصنعاً بديعاً، أشرف ممّا وجد في البشر في هذا العالم الأدنى، ونفي العلم به، والجهل بحقيقته، إنما هو بالنسبة إلى جمهور الناس وعامَّتِهم، لا الخلّص الكاملين من عباده، وكثيراً ما يستعمل نفيُ العلم، لأجل التعظيم بشيء والترغيب عليه، والمناقشة فيه، كما في قوله تعالى:
{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة:17].
وفي الحديث القدسي:
"أعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين ما لا عينٌ رَأَتْ ولا أُذُنٌ سمِعتْ وَلاَ خَطَرَ على قلب بشر" .
ويُحتمل أن يكون كلمة "من" في المواضع الثلاثة بيانية، فتكون إشارة إلى أعيان أجناس المخلوقات الثلاثة بذواتها، لا إلى موادها وقوابلها وموضوعاتها، إعلاماً بكثرة ما خلق وأنواعها وأصنافها وأعدادها، الخارجة عن ما يحصره علم البشر، وعن ضبطه وإحصائه، دلالةً على عِظَم قدرة باريها، واتساع مملكة خالقها ومنشئها جلّ ذكره، وما ذكرنا أوْلىٰ، لكَوْنِ الحكمة فيه أكثر، والفائدة فيه أشمل، ومعرفة الشيء بأسبابه وأصوله أوثَق.