خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ
٣٩
-يس

تفسير صدر المتألهين

"والقمر" قريء مرفوعاً، إما على الإبتداء، أو عطفاً على الليل، أي: ومن آياته القمر، وقريء منصوباً بفعل يفسّره "قدّرناه"، ولا بد حينئذ من ارتكاب حذف مضاف، أي: قدرنا مسيره منازل، إذ لا معنى لتقدير نفس القمر منازل.
والمقر جُرْم كروي غير مشف، مركوز في سخن فلكه، يستضيء أكثر من جرمه من نور الشمس، لكثافته وصقالة سطحه، الواقع دائماً في محاذاة الشمس من غير حجاب، إلاّ عند مقاطرته الحقيقية أو ما يقرب منها مع الشمس، فتحجبه الأرض عند ذلك عن مواجهة الشمس، ووقوع ضوئها عليه، فيُرىَ مظلماً منخسفاً كله أو بعضه.
وإنما هدى الناس الحكم بأستنارته من الشمس، مشاهدة التشكلات النوريّة، والاختلافات الهلالية والبدرية، مع مشاهدة الخسوف له عند المقاطرة، فيعلم بِضَرْب من الحَدْس، أن نوره مستفاد من الشمس.
"والمنازل" ثمانية وعشرون منزلاً، وهي التي يقطعها القمر في كل شهر بحركته الخاصة لفلكه، فَيُرَى كلَّ ليلة نازلاً بمحاذاة واحد منها، وهذه المنازل، هي مواقع النجوم التي نَسَبَتْ إليها العرب "الأنواء المستمطرة"، لأن "النَّوء" سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه من المشرق، يقابله من ساعته في كل ليلة إلى ثلاثة عشر يوماً، وكل نجم منها هكذا إلى انقضاء السنة، ما خلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوماً.
وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، فيقول: "امطرنا بنَوْء كذا" والجمع "أنواء" وهي: الشرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العوّا، السماك، الغفر، الزباني، الأكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، فرغ الدلو المقدم، وفرغ الدلو المؤخر، الرشا.
وهذه الأسامي مشهورة فيما بين العرب، متداولة في محاوراتهم وعشقياتهم، مذكورة في قصصهم وأشعارهم، وبها يتعرفون أوقات الليل وأقسام الفصول، فإن سنينهم لمّا كانت مختلفة الأوائل، لكونها باعبتار الأهلّة، حيث وقع أولها تارة في وسط الصيف - مثلاً - وتارة في وسط الشتاء، احتاجوا إلى ضبط السنة الشمسية ليشتغلوا في استقبال كل فصل بما يهمهم في ذلك الفصل، فوجدوا القمر يعود إلى وضعه الأول من الشمس، في قريبٍ من ثلاثين يوماً، فيسير في المنازل الثمانية والعشرين من ليلة المستهلّ إلى الثامنة والعشرين، ثم يختفي في أواخر الشهر، ليلتين أو ما يقاربها إذا نقص الشهر، فأسقطوا يومين من زمان الشهر، بقي ثمانية وعشرون، وهو زمان ما بين أول ظهوره بالعشيّات في أوائل الشهر، وآخر رؤيته الغَدَوات في أواخره، كما دلّ عليه بقوله: { حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ }، فقسموا أدوار الفلك على ذلك، فكان كل قسم من الأقسام الثمانية والعشرين، اثنتي عشرة درجة وإحدى وخمسين دقيقةً، حاصلةً من قسمة درجات تمام الدور - أعني ثلاثمائة وستين درجة -، على عدد الأقسام المذكورة فسمّوا كل قسم منزلاً، وجعلوا لها علامات من الكواكب التي تقرب منطقة البروج، لانطباق مدار فلكه الكلي عليها، ولهذا أصاب كلَّ برج من البروج الإثني عشر منزلان وثلثُ منزل.
ثم توصّلوا إلى ضَبْط السنة الشمسية، بكيفية قطع الشمس لهذه المنازل، فوجدوها تقطع كل منزل في ثلاثة عشر يوماً تقريباً، وذلك لأنهم رأوها تستر دائماً ثلاثة منها، ما هي فيه بشعاعها، وما قبلها بضياء الفجر، وما بعدها بضياء الشفق، فوجدوا الزمان بين ظهوري كل منزلين ثلاثة عشر يوم بالتقريب، فأيام المنازل ثلاثمأة وأربعة وستون، لكن الشمس تعود إلى كل منزل بعد قطع جميعها في ثلاثمأة وخمسة وستين، وهي زائدة على أيام المنازل بيوم، فزادوا يوماً في منزل "الغفر"، وانضبطت لهم السنة الشمسية بهذا الوجه، وتيّسر لهم الوصول إلى زمان الفصول وغيرها من الأوضاع والأصول.
واعلم أن القمر إذا أسرع في سيره، فقد يتخطى منزلاً في الوسط، وإن أبطأ فقد يبقى ليلتين في منزل واحد، وقد يُرَى في بعض الليالي بين منزلين، فما وقع في عبارة الكشّاف وتبعه البيضاوي، من "أنه ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه" ليس له وجه.
وإنما شبّه الله تعالى القمر، عندما كان في آخر منازله "بالعرجُون" وهو "عود العِذْق" ما بين شماريخه إلى مَنْبِته من النخلة، لدقتّه واستقواسه، وَوَصَفَهُ "بالقديم"، زيادة في وجه الشبه، فإنه إذا قدم ازداد دقة، وانحناءاً، واصفراراً، فشبه القمر به من وجوه ثلاثة.
وقريء "العِرجون" بوزن "الفرجون" وهما لغتان كالبِزيون والبُزيون في السندس.
وفي الكشّاف: "قيل: إن أقل مدة الموصوف بالقدم الحَوْل، فلو أن رجلاً، قال: "كل مملوك لي قديم فهو حر" أو كتب ذلك في وصية، عتق منهم من مضى له حول أو أكثر".
وفيه، أن هذا المنقول غير معلوم الثبوت بحسب اللغة، لأن أمثاله أمور نسبيّة، فرُبَّ قديم بالقياس إلى أمر كان جديداً بالقياس إلى غيره، ثم على تقدير صحته، إنما كان إذا لم يكن هناك قرينة دالة على تعيين المدة تحقيقاً أو تخميناً، كما في الأقارير والوصايا، ولهذا اختلفَ الفقهاء في تعيين ما يطلق عليه اسم "القديم"، واحتاجوا إلى المرجِّحات، فلو كان أمراً ثابتاً في اللغة، لما وقع منهم الاختلاف.
والظاهر أن فيما نحن فيه، ليس من هذا القبيل، كما دلَّ عليه ما نقله صاحب مجمع البيان أبو علي الطبرسيرحمه الله ، وهو قوله: "قيل: إن العذق يصير كذلك في كل ستة أشهر".
ومن الشواهد المنقولة عن بعض ساداتنا وموالينا (صلوات الله عليهم أجمعين) ما رواه علي بن إبراهيم بإسناده، قال: دخل أبو سعيد المكاري - وكان واقفياً - على أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، فقال له: أبَلَغَ من قدرك أنك تدّعي ما ادّعاه أبوك؟ فقال له أبو الحسن (عليه السلام): مالك اطفأ الله نورَك، وأدخل الفقر بيتك، أما علمتَ أن الله عزّ وجلَ، أوحى إلى عمران: "إني واهب لك ذَكَراً يُبْرِيء الأكْمَهَ والأبرص" فَوَهَبَ له مريمَ، وَوَهَبَ لمريم عيسى، فعيسى من مريم، ومريم من عيسى، وعيسى ومريم شيء واحد، وأنا من أبي، وأبي مني، وأنا وأبي شيء واحد.
فقال له أبو سعيد: فأسألك عن مسألة. قال (عليه السلام): سَلْ، ولا أَخَالُك تقبل منّي، ولست من غنمي ولكن هلمّها.
قال: ما تقول في رجل قال عند موته: "كل مملوك لي قديم فهو حر لوجه الله"؟.
فقال أبو الحسن (عليه السلام): ما مَلَكَهُ لستة أشهر فهو قديم وهو حر.
قال: وكيف صار كذلك؟
قال: لأن الله تعالى يقول: { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ }، سمّاه "قديماً" ويعود كذلك لستة أشهر. قال: فخرج أبو سعيد من عنده وذهب بصرهُ، وكان يسأل على الأبواب حتى مات.