خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ
٤٢
-يس

تفسير صدر المتألهين

وَخَلَقْنا لهم، من مثل الفُلْكِ مطلقاً ما يركبون من الإبل التي هي سفائن البر، وعلى الوجه الأول معناه: وخلقنا لهم من مثل ذلك الفلك المشحون وصورته من السفن والزوارق، التي عُمِلت بعد سفينة نوح (عليه السلام)، ما يركبون فيها كما ركب فيه.
انظر كيف روعِيَتْ المناسبة اللفظية والمعنوية أولاً بين لفظي "الفلك"، و "الفلك" في الآيتين القرينتين.
أما المناسبة اللفظية فهي ظاهرة، أما المناسبة المعنوية فمنها ما نقلناه أوَّلاً في تفسير الفَلَك - بفتحتين -، ومنها ما ذكرناه ثانياً في تفسير الفُلْك - بالضم -.
ومنها: أنه لا بُدَّ لحركة كل منهما، بل لحركة كل من الثلاثة من محرك نفساني ذي إدراك ونُطْق، أما في الأخيرين فظاهر مشهور للعامة، وأما في الفَلَك بمعنى السماء، فهو أيضاً مبيَّن مكشوف للخاصة.
ومنها: أنه لا بُدَّ لِحَرَكَة كلٍ منها إلى محرك ملاصق هو طبيعة أو صورة، فيحتاج كل منهما إلى المُحَرِّكين المباشِرين للتحريك: أحدهما: المحرّك المدبِّر المفارِق - من نَفْس فَلَكي أو إنساني - وثانيهما: المحرك المباشر من طبيعة طائعة مجبورة، أو كارهة مقسورة.
ومنها: أنها تحتاج فوق المحرِّكَين المذكورَيْن، إلى محرِّك آخر مباين مفارق، هو من رياح رحمة الله، وبوارق ألطافه الخاصة والعامة، العقلية والحسية، فإن النفوس الفَلَكيَّة، كما بُرْهِنَ في الحكمة، لا تُحَرِّك الأفلاك حركة دائمة إلاّ بإمداد العقول القادسة، التي هي بوارق لطف الله، وجهات جوده ورحمته، بتجَدُّدِ اشراقاتها، وتوارُدِ رياح رَحَمَاتها، كما في قوله:
{ { هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ } [الرعد:12].
وكذا النفوس الإنسانية، التي هي عمّال السفائن، لا تنفع دقائق حِيَلِها وتدابيرها، في جَرْي السفن من دون هبوب الرياح من رحمة الله المالكة لجهات حركاتها، كما قال:
{ { هُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [الأعراف:57] وكذا الحال في "فَلَكَة المغزل" فاعْرِفْه.
ثم انظر كيف تحققت المشابهة ثانياً، بين "الفُلْك المشحون" و "ما يركبون"، أي: مراكب البحار، ومراكب البراري في الشكل والهيئة، ثم الخِلْقَة والطبيعة، ثم القوائم والأعمدة، ثم الجَرْيُ والحركة، ثم الآلات من الطناب والحبال والأعصاب وغير ذلك، مما يحتاج بيانه إلى التفصيل، ويؤدي ذكره إلى التطويل، فاقْضِ العَجَبَ حامداً لله، مثنياً عليه في خلقه تعالى هذه المخلوقات العجيبة، والعظيمة المنافع، ثم في إخباره تعالى عنها، وعن منافعها بأوْجَزِ عِبَارَة وأنور إشارة.
تلويح تأويلي
واْعلَمْ أصْلَحَكَ الله، أن مثلك في هذه الدار، وبحر الهيولى الموّاجة بما فيها من الصُّوَرِ والآثار، مثل السفينة في البحر، المُحْكَمَة الآلة، المُتْقَنَة الأداة خَلَقَها الله بِحِكُمَتِه، وسخَّرها لك بعنايته، وأجْراها برياح عنايته، فإنها لا يتهيأ لها السير إلاّ بِهُبُوبِ الرياح المحرِّكة إياها إلى الجهات، فإذا سكنت الريح، وقفت السفينة عن ذلك الجَرْي، ولا ينقص شيء من آلاتها إلاّ ذهابُ الرياح، كذلك جسد الإنسان إذا فارقته النفس وانقطعت عنه الإفاضة، لا يُتهيأ له تلك الحركة، ولم يُعْدَم من الله ولا ذهب من أعضائه شيء، إلاّ ذهابُ الريح وانقطاع الفَيْضِ عنه فقط.
ومعلوم بالبرهان، أن الريح ليس من جوهر السفينة ولا السفينة حاملة لها، بل هي محرِّكة لها، ولا تقدر السفينة ومَنْ عليها على استرجاع الريح بعد ذهابها، بحيلة يعملونها أو صنعة يصنعونها، كذلك الروح الذي من أمر ربه، ليس من جوهر الجسم ولا الجسم حامل للروح، ولا يقدر أحد من العالَم على استرجاع النفس إذا فارقت.
فإذا تَحَقَّقَ ذلك، وَثَبَتَ أن جسمك كسفينة مُعَدَّة لهبوب الرياح بها، وورودها عليها، عُلِمَ أن هلاك السفينة إذا هلكت من أحد الحالين:
إما بفساد جُرْمِها، وانحلال تركيبها فيدخلها الماء، ويكون ذلك سبباً لغرقها وهلاك من فيها إن غفلوا عنها، ولم يتداركوا بالإصلاح لها والتفقد لحالها، كهلاك البدن من غَلَبةِ أحَدِ العناصر، ودخول الرطوبة المعفّنة في البدن من بحر الهيولى، من تهاون صاحبه به وغفلته عنه، فلا تبقى الروح معه إذا فسد مزاجه، وتعطّل نظامه، وتَعَوَّجَتْ نِسْبته، وضَعُفَتْ آلته، كما لا تبقى الريح للسفينة، والريح موجودة في هبوبها غير معدودة، كما أن الروح باقية ببقاء علَّتها في انعقاد معادها.
وأما القسم الثاني: فهو أن يكون هلاك السفينة بقوة الريح العاصفة الهابّة الواردة منها على السفينة، ما ليس في وسع آلتها حملُها ولا القدرة عليها، فتضعف الآلة وتكسر السفينة، فإن كان من فيها عارفين بعلم السباحة، اطمأنت نفوسهم، ورضوا بقضاء الله فيهم، وَوَعَظَ بعضهم بعضاً، فنجوا عن ذلك من الهلاك في البحر.
كذلك حال الحكماء العارفين بأحوال المبدء والمعاد، والكاملين في العلم والعمل، الناجين من غرق بحر الهيولى، العالمين بِعلم السباحة، بل الطيران في جوّ عالم القدس، بجناحي المعرفة والتقوى.
فإذا علمت هذا فنقول لك: "الذرية" في قوله تعالى:
{ { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } [يس:41] إشارة إلى الروح الإنسانية، و "الفلكِ المشحون" إشارة إلى البدن المخلوق كالسفينة، لأجل استكمال النفس وإخلاصها من هذه الدار، ومنزل الأشرار، لكونها في أول الفطرة أمراً ضعيفاً شبيهاً بالعدم، وعقلاً هيولانياً يكون كمالاته بالقوة، فيحتاج كالطفل إلى ما يكون له بمنزلة المهد.
فَكَوْنُه "مشحوناً"، إشارة إلى كون البدن مملوءاً بالقوى المدركة والمُحَرِّكة، التي هي بمنزلة سكّان السفينة وعمّالها، ولكلٍّ منهم عمل خاص، وآلة مخصوصة لجريان السفينة.
وقوله: { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } إشارة إلى البدن المثالي البرزخي، الذي تتعلق به النفس، وتَرْكَبُ عليه، ما دامت تكون في عالم البرزخ عند القبر قبل البعث، كما ذهب إليه الأقدمون من الحكماء، ومال إليه كثير من الإسلاميين، ودلَّ عليه الكتابُ والسُّنة، وأيّدته الإمارات والشواهد، كانذارات النبوة والرؤيا الصالحة في حكايات الموتى وغيرهما، مما يؤدي بيانه إلى التطويل، وموعد ذكره مقام أَلْيَقُ من هذا في التنزيل.
تنبيه عِرْفاني
هذه الدنيا الفانية المهلكة، الداثرة الملهية، هي بعينها طريق إلى الآخرة في حق مَن عَرَفَها، وعَرَفَ درجاتِ العبد إلى الله سبحانه، إذ يعرف بنور البصيرة، أنها منزل من منازل السائرين إلى الله، وهي كجزيرة في البحر، أُعِدَّ فيها العَلَفُ والزاد وأسباب السفر إلى المقصود، فمن تَزَوَّدَ منها لآخرته، واقتصر منها على قدر الضرورة، فقد ربحت تجارته، وفاز بنعيم الآخرة، ومَن عَرَّجَ عليها، واشتغل بلذّاتها، هَلَكَ وخسر خسراناً مبيناً.
ومثال ذلك، الخلق فيها، كَمَثَل قوم رَكِبوا في سفينة، فانتهت السفينة بهم إلى جزيرة، فأَمَرَهُم الملاّح بالخروج لقضاء الحوائج، وخّوفهم المقام واستعجال السفينة فتفرقوا فيها، فبادر بعضهم، وقضى حاجته ورجع إلى السفينة، فوجد مكاناً خالياً واسعاً.
ووقف بعضهم ينظر في أزهار الجزيرة وأنوارها، وطرائف أحجارها وأصنافها، وعجائب غياضها ونَغَمَات طيورها، فرجع إلى السفينة فلم يجد إلاّ مكاناً ضيِّقاً.
وأكبّ بعضهم على تلك الأصداف والأحجار، وأعجبه حُسْنُها، فلم يسمح لنفسه إلاّ بأن يستصحب شيئاً منها، فلم يجدْ في السفينة إلاّ مكاناً ضيِّقاً، وزادته الأحجار ثقلاً على ثقل، وضيقاً على ضيق، فلم يقدر على رميها، ولم يجد لها مكاناً فحملها على عنقه وهو ينوء تحت أعبائه.
وَوَلج بعضهم الغياض، ونسي المركب، واشتغل بالتفرّج على تلك الأزهار، والتناول من تلك الثمار، وهو في تفرّجه غير خال من خوف السِّباع، والحذر من السَقَطَات والظلمات، فلما رجع إلى السفينة لم يصادفها، فبقي على الساحل فافترسته السباع ومزَّقته الهَوَامّ.
فهذه صورة أهل الدنيا بالإضافة إلى الدنيا، وأصنافهم بالنسبة إلى العُقْبى، فتأمَّلْهَا واستخرج وجه الموازنة إن كنت ذا بصيرة، والمطابقة بين هذه الآية والآية الآتية من قوله:
{ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ * إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ } [يس:43-44]: