خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
٤٦
-يس

تفسير صدر المتألهين

أي ليست تأتيهم آية - أيّة آية كانت من الآيات - إلاّ ذهبوا عنها وأعرضوا عن النظر فيها، بمعنى أنه كلما ورد عليهم أو أُلْقِيَ إليهم ما يدل على أحوال المبدء والمعاد، من برهان علمي، أو موعظة خطابية، أعرضوا عنها وأنكروها، فـ "مِن" الأولى، للإستغراق، لكونها وقعت في سياق النفي. و "مِن" الثانية للتبعيض، وذلك سبيلُ مَنْ ضَلَّ عن الهدى، إما بكثرة حمقه واشتغاله بمشاغل هذا الأدنى، وإما باغتراره بفطانته البَتْراء، وجحوده بما سوى ما أدركه ببصيرته العَمْشاء، أو تَلَقُّفِه من غيره تقليداً وتعصُّباً.
افتتاح كشفي
إعلم أن سبب إعْراضِ الخَلْق عن استماع آيات الله وعن التفكر في أحوال الآخرة، أمور ثلاثة: أحدها: شوائب الطبيعة ومزيِّناتُها. وثانيها: وساوس العادة وملهِياتُها. وثالثها: نواميس الأمثلة وَتَخَيُّلاتها.
أما الأولى: فَكَدَوَاعي الطبيعة وشهواتها، كشهوة البطن والفرج، ومحبة الأهل والمال والوَلَد، وذلك قوله تعالى:
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [آل عمران:14].
وأما الثانية: كَدَوَاعي النفس الحيوانية، وهي أَلذُّ من اللذات الشهوية وأجلُّ رتبة من أغراضها ومقاصدها، وهي لذة الجاه والعلو في عالم الأرض والرياسة على سائر الأقران، فَرُبَّ إنسان سَهُل عليه ترك لذة الأكل والمباشرة، وجمع المال والْيَسَار، إلاّ أنه لا يمكنه ترك العُلوّ والافتخار، وهو آخر درجات الدنيا، الذي لا يمكن الوصول إلى نعيم الآخرة إلاّ بالتجاوز عنه، كما قال سبحانه:
{ تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [القصص:83].
وأما الثانية: فكتسويلات النفس الأمارة بالسوء وتزيينها الأعمال الغير الصالحة وترويجها الكواسد وتحسينها القبائج وإبرازها الباطل في صورة الحق بسبب تخيلات فاسدة وتوهمات باطلة توجب إعجاب المرء بنفسه، منشأها خباثة الباطن ودناءة الهمة وشيطنة الوهم، كما في قوله تعالى:
{ { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [الكهف:103 - 104].
وخصوصاً ما يكون منشؤها هذه العلوم الرسمية، والفنون المشهورة، وهي أغلظها حِجاباً، وأعسَرُها دفْعاً، وأكثرها فساداً، وأقواها إعجاباً للمرء بنفسه، واغتراراً بحاله، فهي ما يقع لأكثر المتشبّهين بالعلماء الحقيقيين، من اغترارهم بظنونهم الفاسدة وأفكارهم الكاسدة، وما سمعوا من ظواهر أحكام الشريعة، وتلقّفوها من غير بصيرة ولا دراية، وضمّوا إليها دعاوي باطلة، ومقاصد شيطانية، ولمقلِّديهم المشغوفين بما عندهم، من سماع الحكايات والأمثال الواردة، وإجابتهم دعوةَ المضلّين البطّالين، الفارغي الهِمَم عن مقاصد الدين، ومتابعتهم استهواء الشياطين من الجن والإنس، والإغترار بخدعهم وتلبيساتهم المُضِلَّة المهلكة، وهم الذين حكى الله عنهم وعن تحسّرهم وندامتهم في العاقبة بقوله:
{ رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ } [فصّلت:29].
فهذه الأمور الثلاثة، هي مجامع أسباب الغواية وأبواب مهالك الخلق، الباعثة لهم على الإعراض عن تدبّر الآيات، لقوله:
{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [يوسف:105] وهي المشار إليها في الحديث النبوي (صلى الله عليه وآله): "ثلاثٌ مُهْلِكات: شُحٌ مُطاع، وهوىً متَّبَع، وإعجابُ المَرْء بنفسه" .
إلاّ أن أعظم هذه الآفات الحاجبة عن مكاشفة أسرار الدين، ومشاهدة أنوار الحق واليقين، الموجبة لإعراض الناس عن سماع الآيات والحِكم، واستئناسهم بالدنيا، ونسيانهم أمرَ المعاد، هو حسبانهم أهلَ الظاهر وعلماء الدنيا - الراغبين في طلب اللّذات الباطلة العاجلة - هداةَ الخلق ورؤساء المذهب، وأهل الاجتهاد في طلب الآخرة والمعاد، وهو أعظم فتنة في الدين، وأشد حجاب في سبيل المؤمنين، لأن هؤلاء قُطّاع طريق الحقيقة واليقين، وهل هذا إلاّ مثل أن يُظَنَّ بالجاهل المريض طبيباً حاذقاً، ويُجْعَلَ السارقُ المفلس أميناً { { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [الروم:7] فلم تزدك متابعتهم والإقتداء بهم إلاّ الغواية والضلال، والتردّي في مزابل الجهّال { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي ٱلأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [الأنعام:116].
إنذار قُرآني
ثم ان نتيجة الإعراض عن سَماع الآيات ونسيانها، وإنكار المعارف الموضحات، هي الظلمة في القلب، والضيق في الصدر، والوحشة في الطبع، والمعيشة الضَّنْك في الآخرة، والعمى والحِرمان في الحشر، وذلك لأن قوام النشأة الآخرة للإنسان، وبقاء حقيقته وروحه بالأغذية العلميَّة العرفانية، والأدوية الإيمانية اليقينية، فَمَنْ لا معرفة له لا حياة له في الآخرة، إذ الآخرة دار الحياة العلمية، لقوله تعالى:
{ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [العنكبوت:64].
فَبِقَدَر نور المعرفة واليقين، وتذكّر أحوال المبدء والمعاد، تزداد قوة حياة الإنسان في الآخرة لقوله تعالى:
{ { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [الحديد:12] ومن لا نور له لا عيش له في الآخرة لقوله تعالى: { { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } [طه:124] وَمَنْ لم يتذكّر آياتِ الله أصلاً، ولم يتدبّر في أسرار الآخرة، يكون يوم الآخرة أعمى لقوله تعالى: { وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [الإسراء:72] ولقوله تعالى: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } [طه:124 - 126].
وأي شقاوة أشد على الإنسان من أن يكون منسياً، والنسيان من قِبَلهِ يوجب العَدَم والهلاك، لأن صدورَ كلِّ شيء منه إنما يكون بعلمه، بل الصدور منه عين المعلومية والمذكورية عنده، كما أوضحه الحكماء في أنظارهم العلمية فافهم.