خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٤٨
-يس

تفسير صدر المتألهين

كلمة "متى" ها هنا للاستعلام عن وقت قيام الساعة، وهي في عرف أهل الحكمة، سؤال عن نسبة الشيء إلى زمانه المعين أو حد منه، والزمان كالمكان من موجودات هذا العالم، لأنه كما ثبت في مقامه، مقدار الحركة السريعة اليومية يتحدد به سائر الحركات المستديرة والمستقيمة، وما يطابقها من الأزمنة والزمانيات، كما أن بموضوعه يتحدد سائر الأبعاد والأمكنة والمكانيات، والقيامة خارجة عن هذا العالم لأنها واقعة في مكمن حجب السماوات، فزمانها ومكانها نوعان آخران لا يمكن السؤال عنهما بـ "متى" و "أين"، كما لا يمكن السؤال بـ "ما هو" عما لا ماهية له، كالواحد الحقيقي والمقدس القيّومي، بل أمور القيامة كلها أسرار على العلم الإنساني بحسب طور هذه النشأة الدنيوية.
فلا يتصور أن يحيط بها أحد ما دام في الدنيا، ولم يتخلص عن قيد الوهم وأسر الطبيعة وزمانة الهوى، ولكل موطن ونشأة نوع خاص من الشعور والإدراك، كما أن لكل محسوس من المحسوسات حاسّة مخصوصة، فعلم المبصرات عند البصر، وعلم المسموعات عند السمع، فكذا علم الساعة مردود إلى من كان عنده تعالى وحشر في حضرته، وليس للكفار قوة إدراك الساعة، كما ليس للأكمه قوة إدراك المبصرات.
فقولهم: "متى هذا الوعد"؟ سؤال عما يستحيل الجواب عنه على موجبه، كما أن سؤال فرعون: "وما رب العالمين"، سؤال عما يستحيل الجواب عنه على موجبه، فإن أمر الساعة إذا كان كلمح البصر أو هو أقرب، وكان "متى" سؤالاً عن الزمان استحال جواب السائل عنه، وهو كقول الأكمه إذا وصف له المبصرات المتلونة، فقال: "كيف تشم هذه المبصرات"؟ أو "كيف تلمس هذه المتلونات"؟ والجواب الحق معه: أن علم المبصرات يوجد عند البصر، لا يمكن طلبها بالذوق واللمس.
فالجواب الحق مع الكفار إذا قالوا: { مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }؟ أن يقال لهم: "العلم بذلك عند الله"، كما وقع في القرآن من قوله تعالى:
{ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } [لقمان:34] فمن يرجع إلى الله عزّ وجلّ، وحشر إليه وكان عنده، فلا بد وأن يعرف حينئذ حقيقة الساعة بالضرورة، لأنه عند الله، وعنده علم الساعة، فإذن بالضرورة، لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول "الله"، كما روي في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
فثبت وتحقّق تحقيقاً لا شك فيه، أن علم الساعة مردود إلى الله تعالى كما قال سبحانه:
{ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } [فصّلت:47]. وسؤال الكفرة والجهّال عن ذلك نوع من الضلال والإضلال، وليس لك أيها المؤمن بالله واليوم الآخر أن تعلم من أسرار القيامة وأغوارها، ما دمت في هذه النشأة البشرية، إلاّ أن إيمانك بالغيب وتصديقك بما جاء في الشريعة الحقة، تصديق الأكمه بوجود الألوان من جهة الخبر والإيمان بالغيب، لا من جهة الإدراك واليقين.
وإياك أن تستشرف الإطلاع عليها من غير جهة الخبر والإيمان بالغيب، بأن تريد أن تعلمها بعقلك المزخرف ودليلك المزيّف، فتكون كالأكمه الذي يريد أن يعلم الألوان بذوقه أو شمّه أو سمعه أو لمسه، وهذا عين الجحود والإنكار لوجود الألوان، فكذلك الطمع في إدراك أحوال الآخرة بعلم الاستدلال وصنعة الكلام، عين الجحود والإنكار لها، فمن أراد أن يعرف القيامة بفطانته المعروفة وعقله المشهور، فقد جحدها وهو لا يشعر.
فتأمل أولاً في حال الأكمه كيف ينبغي له أن يؤمن بالألوان من طريق الغيب، بأن يقطع نظره عن الحواس الأربع ومدركاتها، وعزلها عن أحكامها، حتى يمكن ويتصور له أن يؤمن بالغيب من غير تشبيه ولا تعطيل، ثم طالب بعد ذلك نفسك بمثل هذا الإيمان حتى تكون مؤمناً بالغيب، فتستعد لأن تصير موقناً بالآخرة، كما قال سبحانه:
{ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ } [البقرة:3] - إلى أن قال -: { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة:4] فكانوا أولاً مؤمنين بالآخرة إيماناً بالغيب، وهذه المرتبة في الإيمان بالله واليوم الآخر، تتأدى بالمؤمن إلى العمل بالأركان من الصلاة والزكاة وغيرهما، والأعمال الصالحة بصدق النية وصفاء الطويّة، ينجر به إلى مرتبة الإيقان لقوله تعالى: { { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } [الحجر:99].
اشــارة
نسبة قيام الساعة إلى أزمنة الدنيا، ليست كنسبة طرف الزمان إلى الزمان، ولا كنسبة شطر لاَحِقٍ إلى سابقه - كالجمعة مثلاً إلى الخميس وما قبلها - فان الدار الآخرة ليست منسلكة مع هذه الدار في سلك واحد، وكذا ليس حيّز الآخرة الى احياز الدنيا كنسبة فوق هذا العالم إلى ما هو دونه، لأن كلا منهما عالم آخر، والآخرة عالم تام برأسه لا يعوزه شيء من أشياء هذا العالم، ولا يتصل بغيره، ولا هو واقع في جهة من جهات هذا العالم بحسب الزمان والمكان، بل نسبة متاها إلى متى هذه الدنيا، أشبه بنسبة محيط الدائرة إلى مركزها من نسبة بعض الخط إلى بعض آخر أو حدّ منه إلى غيره، وكذلك الحال في قياس أيْنِها إلى أيون هذا العالم.
لأن القيامة لو كانت واقعة في آخر شطر من أجزاء هذا الزمان الدنياوي، أو في أبعد شطر من أبعاض هذا المكان الحسي - كما زعمه أهل الظن والتخمين -، لكان بعيداً غاية البعد من النفوس الإنسانية وهو باطل، لأن الله تعالى وصفها بالقرب منّا بحسب الزمان والمكان جميعاً.
أما الأول: فلقوله تعالى:
{ ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ } [القمر:1]. وأما الثاني: فلقوله تعالى: { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } [سبأ:51] { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } [المعارج:6 - 7] فكان نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم)، يشاهد خازن الجنة ويتناول بيده من ثمارها وفواكهها، وكذلك علماء أمته، وهم المؤمنون حقاً بأحوال الآخرة، كانوا مشاهدين للقيامة، وهي كانت قائمة في حقهم، لأنهم كانوا محشورين في دنياهم إلى الحق، راجعين إلى الله.
"ولم يحكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكون حارثة مؤمناً حقيقياً ما لم يكن مشاهداً يوم الآخرة، ناظراً إلى أحوالها، حيث قال: أصبحت مؤمناً حقاً قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: رأيت أهل الجنة يتزاورون، ورأيت أهل النار يتعاوَوْنَ ورأيت عرش ربي بارزاً فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أصبت فالزم" .
وهذا الحديث متفق عليه بين الفريقين، وإن اختلف في صورة الألفاظ، فثبت أن قيام الساعة قريب عند أهل الحق، وأما أهل الظن والتخمين، وأرباب المجازفة في الكلام من غير خوض في المعارف، وتثبّت في الإيقان، فهم الذين يزعمون يوم القيامة بعيداً عن الإنسان بحسب الزمان { { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً } [الكهف:36] بحسب المكان { { وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [سبأ:53].