خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ
٦٢
-يس

تفسير صدر المتألهين

قرأ أبو عمرو وابن عامر "جُبْلاً" بضم الجيم وسكون الباء، وقرأ أهل المدينة وعاصم "جِبِلاًّ" بكسر الجيم والباء وتشديد اللاّم، وقرأ روح وزيد "جُبُلاًّ" بضم الجيم والباء وتشديد اللاّم وهو قراءة الحسن والأعرج والزهري، وقرأ الباقون من القرّاء "جُبُلاً" بضمهما وتخفيف اللام، وهذه اللغات كلها واردة في معنى الخلق، وقرئ "جِبَلاً" بكسر الجيم وفتح الباء، جمع "جِبْلَه" بكسر الأول وسكون الثاني كفِطْر وخِلْق، جمع فطرة، خِلْقَة.
وروي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قرأ: "جيلاً" واحد "الأجيال" وهم أصناف الترك والروم.
مكاشفة
معناه: ولقد أضل الشيطان الرجيم كثيراً من خلائق الله بكيده ومكره وحبائله وخُدَعه وشَرَكه وأحزابه وأتباعه، وَوَعْدِه بالشر ووعيده على الخير وتمنيته، كما قال تعالى:
{ { وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } [الإسراء:64] وترويجه الباطل في صورة اليقين وقبولهم دعوته بسبب انحرافهم عن الصراط المستقيم، وتركهم طريق المجاهدة معه بإبطال كيده ودفع معارضته بقوة البراهين، وإعراضهم عن الحكمة الإلهية، ورفضهم بالكلّية اقتناء المعارف الربوبية، وإفسادهم أذواقهم الفطرية عن ذوق المشرب وفهم المطلب.
كما حكى الله عنهم بقوله:
{ { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ ٱلأَنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } [النساء:119] وإلاّ لكان يجب أن يسهل عليهم دفع كيد اللعين ويهون عندهم الدنيا، وتنكشف لهم حقارتها ودثورها وفناؤها، وعظمة الآخرة وبقاؤها ودوامها، ويظهر لهم كيفية الإرتقاء إليها والصعود إلى منازلها ومدارجها، وكيفية التخلص عن سجن الدنيا وحبس النفوس، والتباعد عن دار الجحيم ومهاويها ودركاتها.
فإن قلت: فما الحكمة في إيجاد مثل الشيطان، وتسلّطه على أفراد الإنسان حتى أغوى كثيراً منهم، وأهلكهم وأوقعهم في سخط الله وغضبه؟
قلنا: الحكمة فيها كثيرة لا يحيط بها إلاّ الله، من جملتها أنه كما ينتفع الإنسان من إلهام الملك، قد ينتفع من وسوسة الشيطان، فإن اتباع الشيطان وأهل الضلال كلهم تبعة الوهم والخيال، ولو لم يكن أوهام المعطلين وخيالات المتفلسفين والدهريين، وسائر أولياء الطاغوت ومراتب جربزتهم وفنون إعوجاجاتهم وضلالاتهم وانحرافاتهم وخيالاتهم، لما انبعث أولياء الله في طلب البراهين، لبيان علة حدوث العالم على نهج الكشف واليقين.
وهكذا في الأعمال، لو لم يكن اغتياب المغتابين وتجسّس المتجسّسين بعيوب الناس، لم يجتنب الإنسان كل الإجتناب من العيوب الخفية، التي قد لا يراها الأصدقاء، وإنما يظهر لهم تحققها من تدقيقات الأعداء، وفحصهم والتماسهم ظهورها عليه وعلى غيره.
فكم من عدو انتفع العبد من عداوته أكثر مما ينتفع من محبة الصديق، فإن المحبة مما تورث الغفلة عن عيوب المحبوب، والعمى عن رؤية نقائصه، والصمم عن سماع مثالبه.
ومن ها هنا يظهر أن لوجود الأفاعيل الشيطانية - كإظهار العداوة والبغضاء والحسد والغدر من الأعداء - فوائد كثيرة عائدة إلى المؤمنين، ومن فوائد عداوة الأعداء وكيد الخصماء وضرر الأشقياء للعبد في هذه الدنيا، سرعة رجوعه وعوده إلى الله فراراً من أعداء الله، امتثالاً لقوله:
{ { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } [الذاريات:50].

خلق راباتوجنين بدخوكند تاترا ناجارروزانسوكند

وقوله: { أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ }، كأنه خطاب مع العلماء، الذين كان في استعدادهم إدراك المعقولات فانفسخوا عنه، وهم الذين اشتغلوا بالدنيا وقضاء شهواتها، وتولية موقوفات النفس، والتصدي لمراداتها، والتصدر في تحصيل مرغوباتها ومستلذاتها.
أي: أو لم تتّعظوا وتستيقظوا من رقدة جهالاتكم وسِنَة غفلاتكم، ولم تحيوا بحياة العقل والإيمان من مهالك قلوبكم، وما يكفيكم في هذا الباب وما يحملكم على النفر والنفور، ما سمعتم في القرآن من حكاية "بلعم بن باعور" حيث انسلخ عن الفطرة الموجبة للارتقاء إلى عالم السماء ومعدن النور، إلى فطرة السَّبُع الضاري والكلب العقور، كقوله تعالى:
{ { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِيۤ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } [الأعراف:175 - 176].
أما ينهاكم أيها المكبّون على الشهوات، المتشبّهون بالبهائم والحشرات، ما ورد في حكاية "قارون" وقول الجهّال في حقه وتمنّيهم حاله، وجواب العلماء الربانيين عنهم من قوله تعالى:
{ { قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا يٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ٱلصَّابِرُونَ } [القصص:79 - 80].
أما يشوقكم إلى العروج إلى سماوات عقلية ذات بروج مزينة ما لها من فروج؟
أَمَا يهيّجكم إلى الخروج عن هذه الهاوية المظلمة إلى عالم النور ومعدن السرور أقوال سلاطين الأنبياء والأولياء الربانيين، وحكايات أساطين الحكماء والعلماء المتألهين في معارجهم ومصاعدهم حال التحرير؟ ومواصلاتهم وعشقياتهم عند التقرير؟
أما يطربكم للسير ويطيّركم مثل الطير قول سيدنا ونبينا محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله) من وصفه الجنات العلى، وسِدرة المنتهى عندها جنة المأوى، وذكره الخلود والشهود والمقام المحمود في اليوم الموعود؟
ثم أن ملاك الأمر في تخلص الإنسان من وسوسة الشيطان، والنجاة من شره وضره وشركه وأحزابه وأتباعه ومكائده ومصائده، ليس بصورة الأعمال المستحسنة الظاهرة، ولا بقراءة الكتب المتداولة، ونقل الأحاديث المتواترة، بل بإحكام النيات وصفاء الطويّات، واستفاضة المعارف من ملهم الأسرار، واستماع الآيات من مفيض الأنوار، والشهادة على وحدانية الله وتقديسه، وتصحيح مرتبة متابعة نبي الله وأنبيائه، ودرجة ولاية ولي الله وأوليائه، من غير تعصّب في مذهب، أو غرض نفساني في مطلب، شهادة شهودية ومعرفة وجودية، يحتاج نيلها إلى تصفية صفحة الباطن عن نقوش الأغيار، وتجلية مرآة السّرعَنْ كدورات الأقوال والأنظار، وكنس القلب عن غبار شوائب النفس والآثار، وتخلية بيت الله بحيث لا يكون في الدار غيره ديّار، شهادة خالصة من الشرك الخفي، الحاصل من امتزاج الملاعين وصحبة جنود الشياطين.
واعلم أن الكفر كالإيمان على درجات متفاوتة: إذ بإزاء كل مرتبة من الإيمان مرتبة من الكفر، فمن مراتبه: كفر القالب، وكفر النفسن، وكفر القلب، وقد أوردنا تحقيق هذه المراتب في تفسير بعض الآيات.
فالكفر الأول هو ظاهر معلوم لكل أحد، فمن أنكر شيئاً من ضروريات الدين، أو ردّ علامة من علامات شريعة المسلمين، فقد كفر بفتوى الفقهاء والعلماء.
وأما الكفر الثاني الذي يتعلق بالنفس: فلأن معبودها الهوى، وهو الصنم الأكبر المشار إليه في قوله تعالى:
{ { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية:23]. وفي الحديث المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله): "أبغض إله عُبِد في الأرض الهوى" .
ولعل دعاء إبراهيم (على نبينا وآله وعليه السلام) فيما حكاه الله عنه بقوله: { { وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } [إبراهيم:35] مشير إلى هذه الأصنام النفسانية التي عبدتها الخلائق، من الهوى الكائن في باطن كل أحد، وقلّ من العباد من اجتنب عن عبادته، وإلاّ فمثل الخليل وبنيه (عليهم السلام) كانوا أجلَّ شأناً وأعظم مكاناً وأقدسَ طهارة من أن يتصور في حقهم عبادة الأصنام الحجرية والمدرية.
ولو سألت الحق، فما عبد عبّاد الأصنام إلاّ ما حضر عند نفوسهم من صورة الهوى والأوهام، لأن عابد الصنم الحجري إنما يعبده بظن الإلهية له، وتصور الربوبية فيه، وإلاّ فالأجسام متشاركة، فيجب أن لا يكون عنده فرق بين صمنه وغيره من الأجسام، فيلزم عليه أن يعبد كل جسم كان ويكون في العالم - وحينئذ - فلم يبق فرق يعتدّ به في الواقع وعند أهل الآخرة بين الكفّار وعبادتهم المعروفة للصنم، وبين أرباب العقائد الجزئية في حق الله وأصحاب المذاهب الجاهلية سوى الموحدين بالحقيقة، فجميعهم من أهل الهوى والطاغوت، وعبدة الوهم والجهالات وأتباع النفس في الشهوات.
وكذا لا فرق بين نحت الأصنام باليد الجسمانية للعبودية، وبين إنشاء الوهم الصور الوهمية بقوته المتصرفة، لينال بها الوصول إلى البغية الشهوية واللذة الدنيوية.
وقد قلت في المثنوي أبياتاً مناسبة لهذا المعنى.

هركه رانبوددرون باصفا ازنقوش وهم ميسازدخدا
ميتراشد تيشه وهمش صنم مبيرستدآن صنم رادمبدم
وهمها هستند جمله بت تراش خودتراشد صورت وكَويد خداش
بت نباشد غير صور تهاى وهم كى درآيد صورت خارج بفهم
بت برستى خوديرستيدن بود خواه نامش راصنم كن يا صمد
جون توغير ازحق برستى كافرى خواه نامش حق كنى ياديكَرى
خود برستى ميكنى إبليس وار يكزمان ازحق تعالى شرم دار
دردرون سينه بت دارى همى مى برستى دائماً درهردمى
اين درونهاى توهم آميخته كه بود اصنام ازوآويخته
كى شودباك ازبتان شك وريب كى نماي حق دروانوار غيب؟
تاترا برطاق دل هست اين صنم كى شوى ايزدبرست اى متهم؟
تازطاق كعبه أين اصنام را مى نبردازى بنوراهتدا
تا بكتف روح باى عقل را ننهى ازبرهان وكشف اى بينوا
بس نيندازى زطاق دل بفن صورت اين وهمهاى جون وثن
كى شوداندر مدينة نفس تو حق برستيدن ميسّر أى عمو؟
كى شوددر كافرستان درون حق برستيدن ميسّر جزفسون

وأما كفر القلب، وهو أن السالك إذا انجلت مرآة سره بحيث حوذي بها شطر الحق، وتنقى عن عين قلبه الكدورات النفسانية، وارتفعت عنها الغشاوات الدنيوية، فوقع فيها نور الحق ويتجلى لها جمال الأحدية، فإذا غافصه تجليّه فربما نسي هويته الإمكانية وخرج عن رتبة العبودية، ولم يثبت بالقول الثابت فاعتقد لذاته "أنها عين الحق"، وبادر وقال: "إنها فيها"فأنا الحق" و "سبحاني ما أعظم شأني، فقد تدرع باللاهوت ناسوتي" إلاّ أن يُثَبّته الله بالقول الثابت في الدنيا والآخرة، فيعرف أن الصورة الإلهية ليست في مرآة ذاته، بل تجلت فيها، وما حلّت فيها، بل ظهرت منها، ولو حلّت لما تصور أن تتجلى صورة واحدة لمرائي كثيرة في حالة واحدة، بل كانت بحيث إذا حلّت في مرآة واحدة ارتحلت عن الأخرى.
وهيهات! فإن الله لا يتجلى لجملة من العارفين دفعة واحدة، وإن كان في بعض المجالي أظهر وأصح وأقوم وأوضح، وفي بعضها أخفى وأكتم وأبهم، وأميل إلى الإعوجاج عن الاستقامة، وذلك لتفاوت المرائي في الصقالة والصفاء وصحة الإستدارة والإستواء، في رفع الحجب عن بسيط وجهها كلاً أو بعضاً.
فافهم جداً واغتنم، وتنبّه لما قيل "إن نور إبليس من نار العزة" لقوله تعالى حكاية عنه:
{ { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } [الأعراف:12]. ولو أظهر نوره للخلق لعبدوه: { { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [النحل:100].
وكم من سالك بلغ إلى هذا المقام الذي هو آخر الأقدام في السفر الأول، فوقع في الكفر الأكبر، وضلّ وغوى، وهلك وهوى في الجحيم السفلى والحُطَمَة الكبرى
{ { نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ ٱلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأَفْئِدَةِ } [الهمزة:6 - 7].
والموحّد إذا جاوز عن هذه المزلقة المهوية، وارتفع عن هذه المرتبة يقول:
{ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [الأنعام:79] بعد ما وقع مروره على ملكوت السماوات والأرض، وعبوره على الدرجات العلى من ملكوت ربه الأعلى، لقوله تعالى: { { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } [الأنعام:75].
وفي قوله: "ليكونَ" إشارة إلى أن السالك لا بد له من أن ينظر أولاً في حقائق الأشياء وملكوتها بالنظر الدقيق، واثباتها بالبراهين على وجه التحقيق، ليمكن له أن يرتقي منها إلى ملاحظة الذات الأحدية، والشهادة على وحدانية الباري وصفاته الصمدية.
وذكر بعضهم النكتة - في أنه (عليه السلام) لماذا قال: "هذا ربي"، لمّا جنَّ عليه الليل رأى كوكباً؟ - بما روي عن كعب الأحبار، إنه كان قرء في التوراة: "أن أرواح المؤمنين من نور جمال الله، وأن أرواح الكافرين من نار قهر الله".
وفي الأدعية النبوية: "اللهم إني أعوذ بك من الشرك الخفي"، وفي قوله تعالى:
{ { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر:65].
ونقل عن أبي يزيد البسطامي انه قال: إلهي إن قلت يوماً: "سبحاني ما أعظم شأني"، فأنا اليوم كافر مجوسي، أقطع زنّاري وأقول: "أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمداً رسول الله".
وقال الحلاّج:

كفرت بدين الله والكفر واجب لديّ وعند المسلمين قبيح

وكتب أبو سعيد المهنيّ إلى أبي علي بن سينا: "دلني على الدليل"، فقال في الرسالة على طريق الجواب: "الدخول في الكفر الحقيقي، والخروج عن الإسلام المجازي، وأن لا تلتفت إلاّ بما وراء الشخوص الثلاثة، حتى تكون مسلماً وكافراً، وإن كنت وراء هذا فلست مؤمناً ولا كافراً، وإن كنت تحت هذا فأنت مسلم كافر، وإن كنت جاهلاً من جميع هذا فإنك تعلم أن لا قيمة لك ولا نقد لك من جملة الموجودين" فأورده أبو سعيد في كتاب "المصابيح" وقال: "أوصلتني هذه الكلمات إلى ما لا يوصل إليه عمر مأة سنة من العبادة".
تتمة استبصارية
لمّا تحققتَ أيها السالك كيفية المطاردة بين جند الله وجنود الشيطان في هذا العالم الإنساني، وعلمت أن مناط الغلبة لأحد الحزبين، ومنشأ الفتح عن أحد الطرفين بالحقيقة، ليس إلاّ بأصل واحد حصل على وجه الرسوخ، وهو إما الإيمان أو الكفر، فإن حصل "الإيمان الحقيقي" في القلب، كان الجنود كلهم مطيعين للملك، وان حصل "الكفر" كان الجنود كلهم مطيعين للشيطان، وإن لم يحصل شيء منهما على الحقيقة كانت المحاربة باقية، وأكثر الناس إما كفار محضة، أو ضعفاء العقل والإيمان، مترددون بين الحق والباطل، فقد رجع الأمر كله إلى أصل اليقين وحقيقة المعرفة.
لأن المجاهدة مع أعداء الله لا يمكن إلاّ بترك الذنوب والمعاصي، وهو لا يتيسّر إلاّ بالصبر، الذي هو عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر قام القتال بينهما لتصادم مقتضياتهما ومطالبهما، والصبر لا يمكن إلاّ بمعونة الخوف من عقاب الله، والخوف لا يحصل إلاّ بالعلم بأن المجاهدة مع أعداء الله واجبة، والعصيان عن أمر من نصبه للخلافة محرم، والفرار عن الزحف كبيرة موبقة، وبالتصديق بأن ضرر الذنوب عظيم.
وهذا هو تصديق الله وتصديق رسوله، والإعتقاد باليوم الآخر، ونشأة الثواب والعقاب والميزان والحساب.
و"الإيمان" عبارة عن هذه المعارف، فكأن من أصرّ على معصية، أو ترك الصبر، أو قعد عن الحرب، فلأنه إما غير مؤمن، وإما ضعيف الإيمان، وكما أن من فقد الإيمان بالكليّة يوجب الإصرار على المعاصي، فكذلك ضعفه.
فإن سبب وقوع أكثر المنسوبين إلى الإيمان في المعصية، مع اعتقاد في الجملة بأن المعصية من أسباب البعد عن الله والعقاب في الآخرة، أمور ثلاثة:
أحدها: إن العقاب الموعود غيب غير محسوس، والنفس جبّلت متأثرة بالحاضر المحسوس.
الثاني: إن الشهوات الباعثة على الذنوب ناجزة آخذة بالمخنق، وقد قويت واستولت بالاعتياد - والألف والعادة طبيعة خامسة - وليس كل من شرب في مرضه ماء الثلج لشدة عطشه مكذباً بأصل الطب، وبأن ذلك مضر في حقه، ولكن الشهوة تغلبه وألم الصبر ناجزة، فهّون عليه الألم الموعود.
الثالث: انه ما من مذنب لقلبه رائحة من الإيمان، إلاّ وهو في الغالب عازم على التوبة وتكفير السيئة بالحسنة، وقد وعد بأن ذلك منشأة المغفرة، إلاّ أن طول الأمل غالب على الطباع، فلا يزال تسّوف التوبة والتكفير، فمن سبب رجاء توفيق التوبة رمبا يقدم عليه مع الإيمان.
الرابع: انه ما من مؤمن إلاّ وهو معتقد أنّ الذنب لا يوجب العقوبة إيجاباً لا يمكن العفو عنها - خلافاً للمعتزلة -، فهو مذنب ينتظر العفو اتكالاً على فضل الله.
فهذه أسباب أربعة موجبة للإصرار مع بقاء أصل الإيمان، نعم ها هنا سبب خامس يقدم المذنب به، وهو يقدح في أصل إيمانه، وهو كونه شاكّاً في صدق الرسل في انذارهم، وهذا هو الكفر، كالذي يحذره الطبيب تناول ما يضرّه، وهو ممن لا يعتقد فيه أنه عالم بالطب، فيكذبه أو يشك فيما يقوله، فما يبالي.
ويمكن علاج جميع هذه الأسباب الخمسة بالفكر الصحيح:
أما الأول: فلما تقرر أن كل ما هو آت آت، وإن غداً للناظرين قريب، وقد مرّ تحقيق قُرْب الساعة، وإن الموت أقرب من كل أحد من شِراك نعله
{ { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ } [الشورى:17].
وأما الثاني: ان المتأخر إذا وقع صار ناجزاً، ويذكر نفسه أنه أبداً في دنياه بتعب في الحال لخوف أمر في الاستقبال، وهذا ألمه ليس أقل من ألم الصبر عن المعاصي.
وأما الثالث: فبأن أكثر صياح أهل النار وحسراتهم وزفراتهم من التسويف، لأن المسوّف بنى الأمر على ما ليس إليه - وهو البقاء - ولعله لا يبقى، وإن بقي فلا يقدر على الترك غداً، كما لا يقدر عليه اليوم، ثم ليت شعري هل عجز في الحال إلاّ لغلبة الشهوة، والشهوات لا تتفارق بالإصرار، بل تتضاعف سَوْرَتُها ويترسّخ أصلها بالتكرار، ويتأكد خلقها بالإعتياد، وما مثال المسوّف إلاّ مثال من احتاج إلى قلع شجرة فرآها قوية لا تنقطع إلاّ بمشقة شديدة، قال: "أُأَخّرها سنة ثم أعود عليها"، فلا حماقة أعظم من حماقته.
وأما الرابع: فعلاجه بأن يتفكر في حال من يمكّن العدو على نهب جميع أمواله، ويترك نفسه وعياله فقيراً مستنظراً من فضل الله، راجياً أن يرزقه العثور على كنز في أرض خربة، فإن إمكان العفو عن الذنب مثل هذا الإمكان، والله قادر عليه، إلاّ أن هذا الرجل مما يحكم عليه كل عاقل بأنه في غاية الحماقة.
وأما الخامس: فعلاجه التأمل في أسباب المعرفة بصدق الرسل، وذلك أيضاً ركن عظيم من أركان حكمة الله ومعرفته، وأكثر الناس غافلون عنه، ذاهلون عن معرفة ماهية الرسالة وحقيقة الرسول، بل أكثرهم مستهزؤون بالأنبياء باطناً، وإن أقروا بالرسالة لساناً وقولاً، كما مرّ من قوله تعالى:
{ { مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [الحجر:11] وأكثرهم معرضون عن آيات الله فَهْماً ودراية، وإن تلوها قراءة ودراسة: { { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [يوسف:105].
فقد رجع الأمر في مجاهدة النفس والشيطان كله إلى تحصيل المعارف الإلهية والعلوم الربانية، ثم المصابرة عليها بترك اللّذات، والتقوى عن المحارم والسيئآت، لقوله تعالى:
{ إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [الأعراف:27]، وقوله: { { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ } [البقرة:257] فإذا تنّور الباطن بنور المعرفة والإيقان، وتطهّر القلب بطهارة الورع، زالت عنه نجاسة الشرك والكفر، فيسري أثره في جميع القوى والجنود والأحزاب، فتصير كلها مسلمة متوافقة متعاضدة متظافرة في سبيل الله والسفر إليه، وكل منها ينقلب إلى أهله مسروراً.
وكما أن في الظاهر، إذا أسلم مشرك تزول عنه النجاسة وعن جميع بدنه وأعضائه وملبوساته وما يلتصق به، فكذلك إذا حلّ معنى التوحيد الحقيقي في القلب، وتقرر فيه المعارف الإيمانية بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين، وصدّق بكلماته، وآمن بكتب الله المُنْزَلة على رسله وأوليائه (عليهم السلام)، تنورت القوى كلها بأشعة نور الإيمان الحقيقي، وتطهرت الجنود كلها من رجس الشرك الخفي، ونجاسة الجهالة الشيطانية والكفر الوهمي، فصارت النفس روحاً، والوهم عقلاً، والسفسطة برهاناً، والشهوة شوقاً إلى العبودية، والغضب عزماً على الطاعة، واللذة محبة، والحسد غيرة، والقنوط رجاءاً، والكفران شكراً، والحرص توكلاً، والقسوة رأفة، والحمق فهماً، والتهتك عفة، والكِبْر تواضعاً، والسَّفَه علماً، والهذر صمتاً، والاستكبار استسلاماً، وبالجملة، جميع أجناد الشيطان تصير من توابع الملك وجنود الرحمان، وهكذا جميع أفراسه ورواحله وشركه وحبائله ومنازله ومواضعه تصير متعلقة بحزب الله، والمَلَكة مسخرة لخليفة الله في أرض الباطن، وأهلا ساجدة له خاضعة إياه، مطيعة لأوامره ونواهيه، قائلة كلهم بألسنة أحوالهم:

صحى القلب عن سلمى وأقصر باطله وعري أفراس الصِبىٰ ورواحله

ولقد أطنبنا الكلام، وقد بقي بعد خبايا في زوايا القلب لتبيين المرام وتحقيق الكلام، تركناها لضيق المقام وقصر العمر عن التطويل في كل مقصد على وجه التمام، على أن الصادّ الشديد عنه موجود، والباعث القوي عليه مفقود، وهما قصور الإفهام من الطلبة المحصلة، وشنعة اللئام من الجهلة المطلعة.