خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ
٦٨
-يس

تفسير صدر المتألهين

قرئ "ننكسه" من "التنكيس" و "ننكسه" من "الانكاس" وقرئ "أفلا تعقلون" بالتاء والياء.
وفي الآية إشارة إلى أن الانسان كلما أمعن في السنّ، نكس قواه البهيميّة والسَّبُعِية، وأخذت البنية في الذبول والخلقة في النقصان، وشرعت الصفات والهيئات الباطنية في التأكد والرسوخ، وابتدأت أحوال الضمائر والبواطن في الانكشاف والظهور، وقد جاءت أشراط الساعة للقيامة الصغرى، وبرزت علامات السعادة والشقاوة لذوي البصائر العقلية، أفلا تعقلون أيها العاقلون.
أو ما تستحيون من استبطائكم هجوم الموت اقتداءاً برعاع الغافلين الذين لا ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يَخِصِمّون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، فتأتيهم الأمراض نذيراً من الموت فلا ينزجرون، ويأتيهم الشيب رسولا منه فلا يعتبرون، فيا حسرةَ على العباد ما يأتيهم من رسول إلاَ كانوا به يستهزئون!.
أفيظنون أنهم في الدنيا خالدون؟ أو لم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون إنهم إليهم لا يرجعون؟ أم يحسبون أن الموتى الذين سافروا من عندهم فهم معدومون؟ كلا، إنْ كلٌ لمّا جميع لدنيا محضرون، ولكن ما يأتيهم من آية من آيات ربهم إلاّ كانوا عنها معرضين، وذلك لأنا جعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون، فسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون.
اشارة أخرى
لما ذكر في الآية السابقة نفي استطاعة الرجوع للأشقياء إلى الفطرة الأصلية التي كانت لهم بالطمس والمسخ، وإن كان أكثر الذين (الناس) ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم كانوا لغاية الحمق والجهالة والغرور يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً، ويتمنون آخر الآمر ومنتهى العمر حين انكسار قواهم وقصور دواعيهم الجسمانية، وظهور أسباب المذلّة والهوان، وأشراط ساعة الموت والحرمان، الرجوع إلى أول العمر، وحين أوان القابلية والإستعداد قبل إفناء الآلات، وصرفها في غير ما خلق الله لأجله وكلّف به العباد، وتحسّر وتأسف على تضييعها لغير طائل وصرفها من غير حاصل، قائلاً:

نهاية اقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال

وكثيراً ما بعض الكفّار يتمنّون الرجوع إلى حالة الصبوية - بل الترابية - عند ظهور أهوال القيامة وشدائد الساعة عليهم، كما في قوله تعالى: { وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } [النبأ:40] فأشار إلى دفع هذا التمنّي، ونفي هذا الوسواس، وكشف فساد هذا التشهّي الفاسد، واستقباح هذا التصوف البارد بعد الأربعين.
يعني: متى لم يتيسّر لهم قبل انطماس عيونهم القلبية، وانمساخ صورتهم الباطنية، إدراك علم التوحيد، وملاحظة عالم المعاد، والسعي في طريق العبودية لإدراك شواهد الربوبية، فبعد زوال الاستعداد، وفساد أكثر القوى والآلات، وانتكاس الخلقة من أعلى درجة الاعتدال والاستواء إلى أدنى رتبة الإعوجاج والانحناء، وانقلاب نور الحواس من غاية الاشتعال والذكاء إلى غاية الخمود والإنطفاء، أنّى يتصور لهم الشروع في طلب الاهتداء وسلوك سبيل الله بهذه القوى، فمن مضت عليه أدوار السنين، وعمّره الله إلى أربعين أو خمسين من غاية أشده المعنوي، أخذت خلقته في الذبول والانحلال، وقواها في الانتكاس والإضمحلال.
وذكل لأن لكل أجل كتاباً، ولكل مدة وفصل من فصول العمر خاصية في ظهور الآثار، فسن الطفولية لحصول أصل الخلفة وحدوث القوى، وسنّ الشباب لاستعمال القوى والأعضاء وصرفها في سبيل الله وطلب الكمال، وسن الكهولة لظهور آثار التحصيل والتثبّت بالقول الثابت والتحقق بحقائق الإيمان، وسن الشيخوخة لإفاضة نور المعارف على المستعدين والقيام على مسند الإفادة والإرشاد، فالأول "قوة"، والثاني "استعداد"، والثالث "كمال" و "تمام"، والرابع "فوق التمام".
وهذه المراتب كما يتصور في السعادة، وهو صيروة الإنسان من جملة الملائكة، كذا يتصور في الشقاوة، وهو صيرورة الإنسان إما من جملة الشياطين - إن كان الغالب على نفسه الجربزة والمرك وطلب العلوّ والاستكبار -، أو من جملة أنواع البهائم والسباع - إن كان الغالب على نفسه طلب الشهوة والغضب والصفات المشعّبة عن هاتين الصفتين - فيحشر على صورة حيوان غلبت على جوهر ذاته صفات ذلك الحيوان كما مرّ مراراً.
وعلى أي تقدير، إذا استحكم الباطن، وقويت النفس، وخرجت من حد القوة إلى حد الفعلية في أي صفة وجودية وصورة باطينة، توجهت النفس توجهاً فطرياً إلى عالم الآخرة، وأعرضت عن استعمال القوى، فأخذت الخلقة في الانتكاس، والأعضاء في الإندراس شيئاً فشيئاً إلى أن يحلّ الأجل.
اشارة أخرى
لما كانت النفس في أول الخلقة ممنوّة بتدبير البدن، وتحصيل مقدار المادة، لأن المادة الحاصلة بالتوليد من فضل خلقة الوالد، لم يكن أولاً على مقدار لائق بحال الشخص المولود، فلا محالة وجب على النفس مما أودعه الله فيها وغرز في جِبِلّتها، أن يشتغل أولاً بإكمال المادة قبل الاشتغال بكمالها، لتوقف كمالها على استعمالها إياها، فاستكمل أولاً صورتها الحسية، واشتعل أنوار حواسها الظاهرة، وبلغ أشدها الصوري، وهو وقت نكاحها الجسماني.
ألا ترى أن الطبيعة من وقت الطفولية إلى هذا الحد لا تفرغ عن تحصيل المادة وإيراد ما يزداد في الإقطار زائداً على البدل المتحلل من البدن، لضعف الأعضاء ونقصان القوى، وشدة الحاجة إلى النمو والمتطلب، فانغمست عند ذلك في البدن، مستعملة للطبيعة في ذلك، فلم تنفتح بصيرتها، ولم يشتعل نور فطرتها، ولم يتبيّن رشدها إلاّ وقت بلوغ أشدها المعنوي - وهو سن الأربعين - كما أشير إليه بقوله تعالى:
{ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ } [الأحقاف:15].
وذلك أوان نكاحها العقلي مع أبكار أفكار المعارف الأخروية، التي لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جانّ، وزمان استحقاقها لدفع أموالها العلمية الموروثة من الآباء العقلية والأمهات النفسية، المشار إليها بقوله تعالى:
{ { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [النساء:6].
فلما قربت الآلات من حد كمالها، ووصلت إلى ما يصلح لاستعمالها في تصرفاتها، وانتقص الاحتياج إلى ما يزيد في أقطارها، فتفرغت إلى تحصيل كمالها، فانفتحت بصيرة عقلها، فظهرت أنوار فطرتها واستعدادها، وتنبّهت عن نومها في مهد بدنها، وتيقّظت عن سِنَة غفلتها، وتفطنت بقدس جوهرها، فطلبت مركزها وغايتها لأمرين، صلاحية الآلات للاستعمال في الاستكمال، وفراغها عن تكميل البدن بالإقبال لقلة الإشتغال.
لكنها ما دام سن النمو باقية، وزيادة الآلات في الكمية والقوة والشدة ممكنة، ما توجهت بالكلية إلى الجهة العلوية، وما تجردت لتحصيل الكمالات العقلية والمطالب الأخروية للاشتغال المذكور - وإن قلّ -، وذلك إلى منتهى الثلاثين من العمر، وهو أول سن وقوف القوى - كما تبين في علم الطب -.
فلما جاوزتها وأخذت في سن الوقوف، أقبلت - إن كانت في السعداء - إلى عالمها، وأشرقت أنوار فطرتها، فاشتدت في طلب كمالها لوقوع الفراغ لها إليه، ورسخت فيها الهيئات العلمية والكمالات التجردية الشهودية.
وإن كانت من الأشقياء اشتدت فيها نيران الشهوات، ورسخت فيها اليهئات الجهلية والسبعية والبهيمية، وتوجهت ذاتها بحسب ما كسبت يديها إلى مهوى السفليات، وكلما ضعفت آلاتها تضاعفت شهوتها وحرصها في طلب اللذات، وكلما نقصت جسميتها وانكسرت قواها قويت نفسانيتها واشتعلت نار قلبها واحترقت فتيلة طبعها، وكلما قصر عمرها طال ألمها، وكلما شاب بدنها شبت هوى نفسها كما ورد في الحديث:
"يشيب ابن آدم، ويشبّ فيه خصلتان الحرص وطول الأمل" .
فقوله: { وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ } إشعار على أن من لم يتوجه إلى طلب الآخرة، ولم يسلك صراط الله العزيز الحميد، بصرف الآلات حين أشدها الصوري في طلب الحقائق والكمالات، بل سلك سبيل الطاغوت في الانهماك إلى اللذات وصرفها في طلب الهوى والشهوات، فإذا تجاوز عمره حدّ الأربعين وأخذ خلقتا بدنه وأعضائه في الانتكاس والذبول، وشرعت قواه في النقصان، حان وقت ظهور النتائج عن مكامن غيب القلب، وآن زمان استضاءَة مشكاة القلب بنور معرفة الله من مصباح الروح، إذ توقد فتيلة النفس من شرارة نار الهوى الكامنة في الطبيعة النطفية قبل ذلك بالرطوبات الغريزية، واحتطب المواد الشهوية، وإنما خرجت من القوى إلى الفعل بكثرة النفاخات الشهوية والغضبية، فإن لم يترسخ في القلب حب المعرفة وطلب الآخرة ورفض البدن وترك اللذة والزهد في الدنيا، فلا يتصور بعد هذا استئناف طريق الآخرة، وابتداء نشوء المعرفة عند بطلان الحواس وفقد الآلات، وقد قيل: "من فقد حساً فقد علماً"، والعود إلى الفطرة الأصلية بعد عدمها، وقد قيل: "المعدوم لا يعاد".
وقوله: "أفلا تعقلون": يحتمل أن يكون معناه: أفلا تتدبرون في أن من قدر على كسر القوى الجسمانية للإنسان، وإضعاف بنيته وأعضائه بالذبول والتحليل مع بقاء نفسه وذاته، وتأكد صفاتها وأخلاقها، وزيادة هيئاتها النفسانية ودواعيها الباطنية، فهو قادر على إعادتها في النشأة الثانية وبعثها، فإن تلك الأمور من علامات وقوع الساعة ومقدماتها وأشراطها، - كما يعرفه أهل الكشف واليقين -، إن في هذا لبلاغاً لقوم عالمين.