خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ
٦٩
-يس

تفسير صدر المتألهين

وهي أن جماعة من المشركين الجاهلين بأساليب كل طبقة من الكلام، وبأحوال كل طائفة من اللئام والكرام، العاطلين عن التمييز بين ملفقّات الهوى والشيطان، وبين ما أفاضه الله على أرواح أحبائه وأيدهم بنور منه، وكتب على ألواح قلوبهم تعلّم الحق من العلم والإيمان، وعلمّهم ما لم يكونوا يعلمون، لقوله: { { عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العلق:4 - 5] كانوا يقولون لرسول الله (صلى الله عليه وآله): "إنه شاعر" - وقيل: إن القائل "عقبة بن أبي معيط" - فقال سبحانه رداً عليهم، وتسفيهاً لعقولهم: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ } أي: ليس ما فاض على قلبه بإذن الله من قبيل القياسات الشعرية، ولا ما أجرى على لسانه أشعاراً موزونة، وأين المعاني التي يتخيلها الشعراء ويتقوَّلُها الأدباء عن حقائق الإيمان؟ وأين عبارات أهل النظم وأساليبهم عن بدائع ألفاظ القرآن؟- وما ينبغي له - أي: لا يليق به الشعر، لأن مأخذ معارفه ومنبع مكاشفاته مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلاّ هو، ومخزن معلوماته خزائن معرفة الله التي لا تنزل إلاّ بقدر معلوم بواسطة بعث ملائكة الله المقدسين عن تصرفان الوهم، والهوى، ومأخذ المعاني الشعرية هو مخزونات الوهم والخيال مما تستنبطها النفس منها بوسيلة تلفيقات المتخيلة ودعابات الوهم، فأين أحدهما من الآخر؟
وفي قوله: { وَمَا يَنبَغِي لَهُ } اشعار بأن شأنه أجلّ ومرتبته أعلى من أن يتصور منه ذلك، لا أنه لا يتسهل له ذلك.
وقيل معناه: ما يتسهل له الشعر وما كان يتزين له بيت شعر، حتى أنه إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسراً، كما روي عن الحسن
"أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يتمثل بهذا البيت: كفى الإسلام والشيب للمرء ناهياً فقال أبو بكر: يا رسول الله إنما قال الشاعر:
*كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً*
أشهد أنك رسول الله، وما علّمك الشعر وما ينبغي لك"
.
"وعن عائشة أنها قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتمثّل ببيت أخي بني قيس:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً * ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل يقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار فيقول أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله فيقول: إني لست بشاعر وما ينبغي لي"
.
وقال صاحب الكشّاف: "ما ينبغي له وما يصح له ولا يتطلب لو طلبه، أي جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يتسهل، كما جعلناه أميّاً لا يهتدي للخط ولا يحسنه، لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض".
وعن الخليل: كان الشعر أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى له، وأما قوله: (صلى الله عليه وآله):

أنا النبي لا كذِب أنا بن عبد المطلب

وقوله (صلى الله عليه وآله):

هل أنت إلاّ إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت

فقد قال قوم: إن هذا ليس بشعر، وقال آخرون: إنما هو اتفاق منه وليس بقصد إلى قول الشعر، وما هو إلاّ كلام من جنس كلامه الذي كان يرمي به على السليقة من غير صنعة فيه ولا تكلّف، إلاّ أنه اتفق - من غير قصد إلى ذلك ولا التفات منه إليه - أن جاء موزوناً، كما يتفق في كثير من الإنشاءات والخطب والرسائل للفصحاء بل كثيراً ما يتفق في محاورات الناس عبارات موزونة وألفاظ منظومة من غير قصد ولا خطور بالبال - لا مِنَ المتكلم ولا مِنَ السامع - إنها شعر.
وذكر صاحب الكشّاف أن الخليل ما كان يعد المشطور من الرجز شعراً.
كشف حال وتزييف مقال
هذه كلها تكلفات مستغنى عنها، وتمحلات لا تعويل عليها، مبناه على الغفلة عن هذا المرام، وعدم تحصيل الغرض المسوق إليه الكلام، وعدم التفطن بالجهة التي بها يشين صنعة الشعر ويذم الشاعر، وذلك لأن المذموم من الشعر ليس الوزن والتقفية، ولا معانيه الحقة التي فيها تأثير في النفس بالإنذار والموعظة، بل لعمري لحري أن تعد سليقة الوزن من عداد الفضيلة لا الرذيلة، وظلا من ظلال الوحدة الجمعية كالعدالة، ولائق بالمعاني الحقة أن تعد من الحكمة لا الوسوسة.
بل المذموم من الشعر التخييلات الكاذبة الباعثة على الرغبة والرهبة والمبالغات المهيجة للنفوس على الإقدام والإحجام من غير محافظة على الصدق والحقيقة، وأما المكالمات المشتملة على المقاصد الصحيحة الثابتة في ألفاظ منظومة من غير مبالغة تزيد على ما هي عليها، ولا تمزيج لها بالتخيلات الباطلة فليست بضائرة.
وكان الشعر عند الحكماء الأوائل مجرد كلام تخييلي مفيد للتخيل المحض من غير اشتراط وزن ولا قافية، وبهذا المعنى كان "هوميروس" معدوداً من الشعراء، وكذا في اصطلاح المنطقيين إحدى الصناعات الخمسة بلا شرط الوزن والتقفية.
نعم شأن النبي أجلّ من أن يلتفت ويتوجه إلى تحصيل الوزن والقافية كما أنه أجلّ من أن يلتفت إلى إزالة البيت عن نظمه الذي كان له، وشيء من الروايتين المنقولتين ما دلّ على أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان متعمداً في تغيير النظم، بل على أنه جرى على لسانه غير النحو الذي قاله الشاعر، فإذا اعترض عليه بذلك قال:
"إني لست بشاعر وما ينبغي لي" ، أي: ليس لي قصد إلى صورة هذا المنظوم وسائر المنظومات، بل إلى معناه إذا كان حقاً، وما ينبغي لي أن أكون شاعراً، أي مُنْشياً للمعاني المتخيلة الشعرية، ولا متعمداً إلى ملاحظة الأوزان والبحور والقوافي، لجلالة شأني ورفعة مكاني عنه، لا أنه حرم الله عليه الشعر وجعله عاجزاً عن الإتيان به، بحيث لو أراد لم يتأت له - كما ذكره الخليل وغيره - حاشاه عن ذلك.
كيف والذوق السليم يحكم بأن القصور عن الإقتدار على إنشاء الشعر وانشاده نقص في الفطرة، فيستحيل على من كان في حاقّ الاعتدال الإنساني، وبحبوحة العدالة النفسانية من غير انحراف واعوجاج أصلاً.
وأما علم الخط والسواد، فيحتاج إلى تعمّل واكتساب وتكلّف خارج عما فطر الله النفس عليه، وكذا سائر الصناعات العملية الغير الكمالية، المفتقرة إلى معاونة الآلات الخارجية، وهذه بخلاف العلوم الحقيقية والأخلاق الكريمة والنبوة والحكمة، فإنها مع كونها كمالات نفسانية، ليست مما يفتقر تحققها إلى التعمّلات والاكتسابات كل الإفتقار، بل قد يتحقق بمحض الموهبة الربانية، لأنها ليست أموراً جسمانية متعلقة بالحركات والتعمّلات على سبيل الوجوب والإضطرار.
وبالجملة - الشعر يطلق على معنيين:
أحدهما: الكلام المنظوم المعتبر فيه أحد الأوزان العروضية، وترجيع القوافي، وهو قد يشتمل على الحِكَم والمواعظ، وقد يشتمل على المجازفات الخيالية.
وثانيها: الكلام التخييلي المؤثر في النفس بسطاً وقبضاً، الموقع لها ترغيباً وتنفيراً، وإقداماً وإحجاماً، كما في قولك: "الخمر ياقوتة سيّالة" حيث يفيد النفس ترغيباً كاملاً في الإقدام على شربها مع ظهور كذبه، وقولك: "العسل مرة مقيئة" ينفر الطبع عن تناوله، مع العلم بأنه كذب، تنفراً موجباً للإحجام عنه، فالمذموم هو الثاني لا الأول مطلقاً، بل القسم الثاني منه.
وعلى هذا يحمل ما ورد في الأخبار، من النهي عن انشاد الشعر في المساجد وفي الصيام، لا ما كان في مدح أهل بيت النبي (عليه وعليهم السلام)، وهو منشأ تهجين الشعراء في قوله تعالى:
{ وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } [الشعراء:224 - 226] لأن الغالب على أكثرهم إنشاء الجزافيات المضلّة والمخيلات الوهمية الكاذبة، ولهذا استثنى عن ذلك بقوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } [الشعراء:227].
والشعراء المؤمنون الذين يُكثرون ذكر الله وأحوال الآخرة والملكوت، وغالب أشعارهم في توحيد الله والثناء عليه بما هو أهله ومستحقه، والحكمة والموعظة الحسنة، والمدح لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وأولياء أهل بيته وأمته الصالحين، وما لا بأس به من المعاني التي لا يتلطخون فيها بذنب، ولا يمزجون بشائنة وعيب، وكان هجاؤهم على سبيل الإنتصار ممن يهجوهم، كما قال الله تعالى:
{ { لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [النساء:148].
وحق القول (الكلام) فيه: أن الشعر باب من الكلام الحسن، فحسنه كحسن الكلام وقبحه كقبح الكلام ولقد كثر الله من الشعراء الذين كانوا من الفضلاء الممدوحين والحكماء المقبولين بل الأولياء المرضيين.
والأول كحسّان بن ثابت، وكعب بن زهير، وكعب بن مالك، من الذين كانوا ينافحون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويكافحون هجاة قريش.
والثاني: كابن فارض، والشيخين: أبي علي وأبي نصر - ثم الشيخين - شهاب الدين السهروردي، ومحي الدين بن عربي، ومن شعراء العجم: النسائي والعطّار ومولوي وسعدي ونظرائهم.
وأما الثالث: فأمام الكل في الكل أمير المؤمنين علي وأولاده الأطيبين سلام الله عليهم أجمعين.
"وعن كعب بن مالك: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال له: اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل وكان يقول (صلى الله عليه وآله) لحسان بن ثابت: قل وروح القدس معك" .
ولما نفى الله تعالى أن يكون القرآن من جنس الشعر بالمعنى الذي مرّ ذكره، قال: { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } يعني: ما هو إلاّ ذكر من الله يوعظ به الجن والإنس، كما قال: { { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [يوسف:104] وما هو إلاّ كتاب سماوي يقرء في المعابد، ويتلى في المساجد، ويتبرك بتلاوته، وينال الفوز بدراسته، فيه شفاء للصدور، ونجاة للنفوس، ودواء للأسقام، وهداية للأنام، ومزيل للأوهام، ومصفاة للإفهام، ومصيدة للطيور السماوية، ومطردة للأغوال المضلة، ومرقاة إلى السموات العُلىٰ ومنازل الروحانيين هو حبل من الله متين إلى أعلى شواهق عليين، كتاب مرقوم يشهدة المقرّبون، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين وأوهام الموسوسين، وسلسلة من سلاسل المقيدين في مجالس أهل سجيّن، وهو كتاب فيه دواوين الفجّار الضالين المكذبين.
اشارة أخرى
في قوله تعالى: { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ }، إشارة إلى قسمين من الأقسام الخمسة المشهورة من الكلام، وهما أشرف الصناعات المنطقية وخير الطرق العلمية، يعني: الحكمة والموعظة الحسنة فان الذكر يعني به الخطابة المفيدة للظن، والقرآن يعني به البرهان المفيد لليقين.
وذلك لأن أحد قسمي البرهان - وهو الذي يعطي اللّم - ما كان المفيد للتصديق، وهو الوسط في القياس علة لثبوت الحكم في الخارج، أي اتصاف الموضوع بصفة كاتصاف الإنسان بالوجود، كما أنه علة للعلم به وثبوته في النفس، فالمبرهِن ها هنا من لاحظ ماهية العلة المعطية لوجود الشيء وجَعَلَها مقدمة للوصول إلى المطلوب.
هذا شأن الحكماء في اكتسابهم العلوم الإنفعالية الإرتسامية الذهنية، وأما العلوم الشهودية الاشراقية كما هو شأن الأنبياء، فهي إنما تحصل لهم بمشاهدة المبدء الفعّال، وملاحظة العين الجمعي والعقل البسيط الذي هو فعّال الصور الفعلية الموجودة، وخلاّق العلوم التفصيلية الاشراقية، وهو مفتاح خزائن الأشياء، المشار إليها بقوله:
{ { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } [الحجر:21]، وحقيقة القرآن عند أهل الله بحسب المعنى هو هذا العقل البسيط، وهو مفتاح المفاتيح الغيبية المشار إليها في قوله: { { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [الأنعام:59].
فقد ثبت أن القرآن من جهة المعنى المعقول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أشرف ضروب البرهان، وأكسير سعادة الإنسان، وأما الأقسام الثلاثة الأخيرة - وهي الجدل والشعر والمغالطة -، فلا يفيد شيء منها اليقين ولا الظن إلاّ في قسم من الجدل، وهو الذي يؤول إما إلى البرهان أو الخطابة، ولهذا أضافه الله إليهما في قوله:
{ { ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل:125] وهي المجادلة التي ترجع إلى أحدهما مع عموم اعتراف الخلائق فيه المعتبر في مطلقه.
وأما ها هنا لم يعدها من أقسام كتاب الله الذي فيه جوامع الكلم وأصول الحِكم، لما عرفت من أن الفائدة فيها من حيث هي مجادلة ليست تكميل النفوس بانفرادها مع قطع النظر عن الهيئة المدنيّة الجمعية، وإنما المقصود الأصلي من الأنظار العلمية، هو تكميل جواهر النفوس بحسب ذواتها، وفيما بينها وبين الله، مع قطع النظر عن النَسَب والأوضاع المنقطعة آخر الأمر، لقوله تعالى:
{ فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [المؤمنون:101] وفي الحديث: "كل نَسَب منقطع إلاّ نسبي" .
وأما الشعر: فلما عرفت من أن مداره على الأكاذيب، ومن ثمة قيل: "أحسن الشعر أكذبه".
وأما المغالطة: فالفائدة فيها تغليط الغير أو الإحتراز عن تغليطه، ومرتبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينافي الأول ويتعاظم عن الثاني، فيستحيل أن يكون النازل عليه شعراً أو مغالطة، فبقي أن يكون النازل من الأقسام الثلاثة الباقية، كما دلّ عليه قوله:
{ ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ } [النحل:125] - الآية -.
وأما الإنحصار المستفاد من هذه الآية في الآيتين، فلما عرفت من رجوع الجدل بحسب الذات إلى أحدهما، فلا منافاة بين الأثنين، والدليل على أن الجدل من حيث هو جدل ليس مما له دخل في حصول الهداية العلميّة وتكميل النفوس الآدمية، بل ليس الغرض فيها شيء إلاّ غلبة الخصم والظفر على العدو، وهو يشبه الحرب "والحرب خِدعة"، وليس صناعة برأسه ولا علماً ولا أدباً، وينبهك عليه مشاهدة ما يعرض لأهله والمشتغلين به، لا على وجه الضرورة، من الحيرة والدهشة والشكوك والظنون والعداوة والبغضاء بينهم مثل ما يعرض لأهل صناعة الجدل، فشكّك الماضي منهم الآتي، وطعن اللاحق منهم السابق، كقوله تعالى:
{ { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [الأعراف:38].
والعلّة الموجبة لذلك أمور شتى، أعظمها أنهم ربما يكونون مقلدين في أصول يجادلون فيها من المذاهب فينظرون في الفروع، ومن يكون مقلّداً في الأصل كيف يمكنه أن يكون محققاً في الفرع؟ ومن يكون ذاهباً إلى الأصل بالتقليد لقائد يقوده، كمن يقود أعمى في ليل مظلم، متى يكون ناظراً إلى الفرع بعين البصيرة المستضيئة بنور الله؟.
وخصلة أخرى: أن أكثرهم ربما جادل فينصر المذاهب لا على سبيل الورع والتدين، ولكن على سبيل التعصّب والغرض النفساني، وحب العشيرة والقوم، فيعمى عن الحق ويضلّ عن الصواب.
واعلم أنه ليس من طائفة تتعاطى العلم والأدب والكلام شرّ على العلماء، ولا أضرّ على الأنبياء، ولا أشد عداوة لأهل الدين، ولا أفسد للعقول السليمة للمسلمين، من كلام هؤلاء المجادلة وخصوماتهم في الآراء والمذاهب.
وذلك إن كانوا في زمان الأنبياء فهم الذين يطالبونهم بالمعجزات ويعارضونهم بالخصومات، مثل ما قالوا لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم):
{ { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } [الإسراء:90] الآية، وقالوا لنوح: { { وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ } [هود:27] وهم الذين كانوا إذا مروا بالمؤمنين يتغامزون، وهم الذين أخبر عنهم في هذه السورة بقوله: { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [يس:30] وبقوله: { { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } [البقرة:13] وفي ذلك آيات كثيرة من هذا الباب، وقال الله تعالى في ذمّهم وتوبيخهم: { { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [الزخرف:58] فهذه حال من كان منهم في زمان الأنبياء، وأما إذا كانوا في غير زمانهم، فهم الذين يجادلون أهل الدين والورع بالشبهات، وينبذون كتب الأنبياء وراء ظهورهم، يفرغون إلى المذاهب والآراء بعقولهم الناقصة وفطانتهم البتراء، ويضعون لمذاهبهم قياسات تناقضية وأحتجاجات ممّوهة، ويعارضون عقولاً سليمة من الأحداث والعامة فيغيرون فطرهم الأصلية، ويضلّونهم عن سنن الحق وسواء السبيل ويحرفون الكم عن مواضعه ويميلون طبائع أهل الديانات النبوية عن موضوعات الشرائع الناسوسية وإنك تجد فيهم من له جودة عبارة فصاحة بيان، وسحر كلام ما يقدر أن يصوّر بالوصف البليغ الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق وهو مع ذلك جاهل القلب ميّت الروح عن فهم حقائق الأشياء، بعيد الذهن عن درك المعارف، كما يروى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنه كان يقول: "أخوف ما أخاف على أمتي منافق القلب عليم اللسان، غير حكيم القلب، يغيرهم بفصاحة بيانه، ويضلّهم بجهله وقلة معرفته" .
.. وتجد فيهم من يجادل ويحتج ويناظر، وكلامه ينقض بعضه بعضاً، ولا يتفطن ولا يحس بذلك، فإذا تنبّه عليه لم يشعر به، وربما يصلح فاسده بما هو أفسد وأسخف وأسقط من الأول.
وتجد فيهم الرجل العاقل (الغافل) المحصّل، الركين في أشياء كثيرة من أمور الدنيا وزينة أهلها، وفي علوم جزئية مثل الطب والبيطرة والنجوم والنحو واللغة وغيرها، فإذا فتّشت اعتقاده فيما هو أهل وأَوْلىٰ من أمور دينه وأحوال مذهبه، وجدت رأيه واعتقاده في تلك الأمور، أسخف وأقبح من رأي كثير من الجهّال والصبيان، والعلة في ذلك أسباب شتى:
منها: شدة تعصّبه فيما يعتقده تقليداً وافتخاراً من غير بصيرة، وأخرى: إعجابه بنفسه في اعتقاده، وأخرى: اعتقاده بأصول خفي عليه خطأه فيها، وهي ظاهرة الشناعة في فروعها، فهو يلتزم تلك الشناعات في الفروع مخافة أن ينقض عليه الأصول، ويطلب لها وجوه المراوغة من إلزام الحجة تارة بالشغب وتارة بالتمويه وتارة بالمراوغة، فيروغ كالثعلب عن الجواب والإقرار بالحق، ويأنف أن يقول: "لا أدري" و "الله ورسوله أعلم" اقتداء بأدب الله كما قال:
{ { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ } [الشورى:10] فقال: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء:83] وقال: { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [آل عمران:55] وآيات كثيرة في مثل هذا المعنى، ولكن من هؤلاء من يحتج ويقول: معنى "الرجوع إلى الله" أي: إلى ثوابه.