خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ
٧٢
-يس

تفسير صدر المتألهين

من شواذ القراءات قراءة الحسن والأعمش: "ركوبهم" بالضم، وقراءة عائشة وأبي بن كعب "ركوبتهم" أما الركوب فمصدر على حذف مضاف، كذو وأمثاله، ويجوز أن يكون التقدير: "فمن منافعها ركوبهم" كما يقول الإنسان لغيره: "من بركاتك وصول الخير إليّ".
وأما "الركوب" و "الركوبة" فهما ما يركب كالقتوب والقتوبة، والحلوب والحلوبة - لما يقتب ويحلب - وقيل: "الركوبة" جمع.
وذلّلناها لهم - أي: سخّرناها لهم حتى صارت منقادة، ولولا تذليله وتسخيره لها وإلاّ فمن الذي يقدر عليها كما قيل:

يصرّفه الصبي بكل وجه ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوى فلا غير لديه ولا نكير

ولهذا ألزم الله سبحانه الراكب أن يشكر هذه النعمة ويسبّح بقوله: { { سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [الزخرف:13].
فمنها ركوبهم ومنها يأكلون - قسّم الأنعام بأن جعل منها ما يركب، ومنها ما يذبح فينتفع بلحمه ويؤكل.
تبصرة عقلية
لما أشار سبحانه إلى مبدء وجود الحيوان وغايته من ملائكة الله المكرمين وأوليائه الصالحين، أراد أن يشير إلى بعض منافعه العرضيّة وفوائده التبعية، وقد تقرر عند الحكماء في العلوم النظرية، الفرق بين ما هو علّة غائية ماهيّة وغاية ذاتية وجوداً، وبين ما يتبعها - سواء كانت من الضروريات اللازمة أو من التفضلات الزائدة - وبيّنوا ذلك بأدلة موضحة وأمثلة كاشفة، وحكموا بأن أفعال الله تعالى وأن لم يكن لها علة غائية، ولكن ذاته ذات لا تحصل منه الأشياء إلاّ على أتم ما ينبغي وأبلغ ما يتصور من النظام - سواء كان ضرورياً كوجود العقل للإنسان والمعرفة للعقل والنبي للأمة، أو غير ضروري لكنه من التفضلات المستحسنة، كإنبات الشعر على الحاجبين، وتقعير الأخمصين للقدمين -.
فكما أن الماء والنار والشمس والقمر إنما تفعل أفاعيلها - من التبريد والتسخين والتنوير - لحفظ كمالاتها، لا لانتفاع غيرها، ولكن يلزمها انتفاع الغير، وكذلك مقصود الأفلاك في حركاتها هي الطاعة لله والخدمة لما وراءها، والتشبّه بالخير الأقصى بوساطة المعشوقات الكاملة العقلية، فلكل منها مطاع معشوق يخصه - وإلاّ لما اختلفت الجهات والحركات - وللجميع إله واحد ومحبوب واحد، يضمحل تحت نور كبريائه كل خير ومحبوب دونه، هو الذي أدار رحاها وبسم الله مجراها ومرساها، ومطلوبها في الحركات والصلوات والركوع والسجود، وطاعة الله وطلب التقرب منه والتشبّه بما عنده، لا نظام السفليات من الإنسان والحيوان والنبات، إلاّ أنها يترشح منها نظام ما دونها على أبلغ وجه وأتمّه، كما قيل: "وللأرض من كأس الكرام نصيب"، فإن الأرض والأرضيات مما لا قدر لها محسوساً حتى تتحرك لأجلها الفلكيات.
وأما الإنسان الكامل، فإنه وإن كان من جهة جسميته حقيراً سفلياً غاية الحقارة والسفلية، إلاّ أنه من حيث روحه وعرفانه مما يليق أن تطوف عليه العناصر والأفلاك، وتدور حول كعبة قلبه الأجرام العلويّة بما فيها من النفوس والأملاك، لقوله تعالى: (لولاك لما خلقت الأفلاك).
فإذا تقرر عندك ما سردنا لك، ووضح لديك ما مهّدنا لأجلك، فاعلم أن لوجود الحيوان علة غائية هي جهة ماهية الإنسان بحسب وجودها في القضاء الإلهي والعالم العقلي، وله غاية ذاتية هي ثمرة وجوده وتمامه وكماله - وهي وجود الإنسان -، إذ لأجله بنى العالم العنصري وخلق الأكوان، فهو الأصل في القصد من وجود الحيوان، والغرض من حدوث مواد العناصر والأركان، فهو الأول في التصور والتفكر، والآخر في التحصيل والعمل، وهو اللباب الأصفى من خلائق عالم الأركان، ومن فضالة وجوده خلق سائر الأكوان.
وها هنا دقيقة لا ينبغي الذهول عنها، وهي أن المواد الحيوانية كلها متوجهة إلى أن يحصل منها وجود الإنسان - لأن وجوده كمالها وغايتها كما علمت - ولا ينافي هذا المعنى عدم بلوغ أكثرها إلى هذه الدرجة لما فيها من الموانع والصوارف الداخلية والخارجية، الوجودية والعدمية مما يطول شرحها.
فالحيوان الكامل الواصل إلى غايته وثمرته، هو الذي وقع داخل ماهية الإنسان من حصة حيوانيته الموجودة له وفيه، وأما غيرها فهي منقطعة السير منبّتة السفر - لأجل قصور قوتها - دون المرام، وإنبتات مسافتها قبل التمام.
إلاّ أنها وأن تعوقت وتعطلت عن سفرها إلى ذات الإنسان، لكنها بحسب الأكثر غير معوقة ولا معطلة عن خدمة الإنسان، بل مجبولة على طاعته، ساعية نحو الوصول إلى لوازم وجوده وعوارض كونه - من الأكل، والركوب، والمشارب والمنافع -، فغاية بعضها صيرورته غذاء الإنسان، وغاية بعض آخر كونه حاملاً لغذائه، وغاية بعض صيرورته ملاصقاً لبدنه مركوباً له، وغاية بعض آخر كونه حاملاً لما يلاصق بدنه حملاً لمحمول طبيعي كالجلود والأصواف أو لمحمول غير طبيعي كالأثواب وغيرها، إلى غير ذلك من المنافع التي تعود إلى الإنسان بوجه من الوجوه، مما يتعذر ذكرها جميعاً على التفصيل.
والغرض أن وجود الإنسان هو الغاية الذاتية لوجود الحيوان وما يحتاج إليه أو ينتفع به من الأكل والركوب، وسائر المنافع والمشارب وغيرها هي من الغايات العرضية لوجوده، أو من التوابع اللازمة الضرورية أو غير الضرورية له، والجميع راجعة بوجه من الوجوه إلى الإنسان، لأن وجوده غاية الأكوان، وكمال هذا العالم وأجزائه من الأصول والأركان.