خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
٧٩
-يس

تفسير صدر المتألهين

قل يا محمد، لهذا المتعجب من الإعادة: إن المحيي لهذه العظام، المعيد لها يوم القيامة، هو الذي أنشأها أول مرة من المادة الترابية ثم المنوية، والتراب أبعد مناسبة إلى الصورة الإنسانية، وكذا النطفة الذائبة الواهنة الأساس، أبعد استعداداً في قبول التقويم من العظم الرميم، فمن قدر على اختراع شيء أولاً فهو على اعادته أقدر، وإنشاؤه عليه ثانياً أسهل وأيسر وهو بكل خلق عليم، سواء كان ابتدائياً أو إعادياً، فيعلم به قبل أن يخلقه أنه إذا خلقه كيف يكون، ويعلم به قبل أن يعيده أنه إذا أعاده كيف يكون، فيكون قادراً عليه.
اشارة
لا يعبد أن يكون المراد من قوله: وهو بكل خلق عليم، أن مجرد علمه تعالى بوجه الخير في كل شيء، هو السبب الداعي لوجود ذلك الشيء، ومن جملة الأشياء المعلومة له تعالى، إعادة الإنسان، فتكون لا محالة واقعة، لكون علمه تعالى فعلياً.
اشارة أخرى
يحتمل أن يراد أن أحياء العظام وردها إلى ما كانت غضّة رطبة ذات حياة وحسّ بعد موتها ويبسها وتفتّتها وإن كان بعيداً عن استعدادها واستحقاقها في نظر العقول البشرية، إلاّ أن لكل مادة من المواد يتصور بينها وبين أيّة صورة شريفة أو خسيسة تراد، أموراً متوسطة متلاحقة متفاوتة في القرب والبعد إلى تلك الصورة، ويكون لحوق تلك الأمور واحداً بعد آخر، مقرباً لها من الفاعل الواهب للصور، وطريقاً منها مؤدياً إلى قبول القدرة من خالق القوى والقدر، تسلكه وتنتقل إليه من درجة إلى درجة، حتى تصل إلى مرتبة يشتد بها الإستعداد لقبول تلك الصورة، وتتقرب بها من المعطي الجواد، فلكل شيء طريق خاص إلى الله تعالى إذا سلكه يصل إلى رحمته وفيض وجوده، إذ وجوده منبع كل الكمالات والخيرات - ولكل وجهة هو موليّها -.
فقوله: { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }، أي أنه سبحانه عالم بكيفية خلق كل شيء، وبالطريق التي يتهيّأ بها وجوده، فيسبب أسبابه من تلك الطرق، فيوجده بعد تحصيل أسبابه، ففيه إشارة إلى إحاطة علمه بطرق تأدية الأشياء إلى ما قدّر لها في القضاء السابق، فيعلم طريق كل أحد إلى سعادته وخيره، وطريق كل أحد إلى شقاوته وضره، إلاّ أن الأول منوط بتوفيقه وتسديده، والثاني مترتب على ما كسبته أيدي الناس عند انحرافهم عن الصراط بمتابعة الناس والوسواس.
اشارة أخرى
هي أن الإنسان لا يحيط علمه بجميع وجوه المناسبات بين الأشياء، فلو اجتمع العقلاء وجمعوا عقولهم في أن يدركوا جهة المناسبة بين المغناطيس وجذبه للحديد لَمَا قدروا على ادراكها، فعلم أن في الطبيعة عجائب غريبة، وللقوى العالية الفعالة والقوى السافلة المنفعلة اجتماعات واتفاقات على أسياء نادرة، فلكل معلول أسباب خفيّة لا يعلمها إلاّ الله.
والإنسان لجهله بوجود الأسباب ووجوه المناسبات بين كلّ حادث وسببه، أخذ يتعجب من حدوث الآثار الغريبة عن بعض الأشياء، لكونها غير معهودة الحصول عنده عن هذه الأشياء - كما في هذه المسألة -، فان المعهود عنده حصول الإنسان من مادة منويّة حاصلة من فضول رطوبات الأبوين، ولم يعهد عنده حصول الإنسان مرة ثانية من عظامه الرميمة، فليستبعد غاية الاستبعاد ويتعجب غاية التعجب، على أن أكثر الأشياء لو قطع النظر عن تكرر مشاهدة الإنسان حدوثها، يكون حالها هذا الحال:
منها: حدوث الإنسان بعينه عن هذه الأسباب، فإن أحداً لو لم يكن رأى تولد الإنسان، وحكي له كيفيّة تولده عن الأبوين بعد اجتماعهما وانفصال شيء قليل المقدار من أحدهما في جوف الآخر، ثم خروجه بعد تسعة أشهر من مسلك ضيق شخصاً متكثّر الأعضاء، مختلف الأشكال، ذا حواس مختلفة وحركات متفننة، مبائن الحقيقة لتلك الرطوبة في جميع صفاته سوى الجسميّة، ثم بعد خروجه اهتدائه بمصّ الضّرع وبكائه أن منع منه ساعة، ففيه شهوة وغضب، ومحبّة وخصومة، وكذا سائر صفاته وآثاره المعلومة وغير المعلومة، فلا يكاد أن يذعن به.
فهكذا حال المنكر للبعث، وتعجبه عن إعادة الإنسان مرة أخرى في دار القيامة، فالله تعالى نبّه على أن تعجبه إنما يكون لجهله بوجه المناسبة بين كل مادة وما يخلق منها، فقوله تعالى:
{ { أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ } [يس:77 - 78] إشارة إلى أن التعجب في تولده ابتداءاً أكثر من التعجب في إعادته ثانياً، ففي كون الإنسان موضع التعجب بحسب خلقته من النطفة أولاً، أليق وأولى من كونه كذلك بحسب نشوّه الأخروي من أعضائه البالية ثانياً.
وقوله: { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }: إشارة إلى أن جهة الإرتباط بين كل مادة وما يطرء عليها من الصور، لا يعلمها إلاّ هو، فيجب على المكلف أن يؤمن بما أخبر به الصادق المصدّق عن ربه.
ومما يؤيد هذا الوجه ويؤكده، تعقيب هذه الآية بما يتلوها وهو قوله سبحانه:
{ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ } [يس:80].