خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ عَلِمْنَا ٱلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا ٱلْمُسْتَأْخِرِينَ
٢٤
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
٢٥
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ
٢٦
وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ
٢٧
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ
٢٨
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ
٢٩
-الحجر

الصافي في تفسير كلام الله الوافي

{ (24) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ }.
العياشي عن الباقر عليه السلام المؤمنون من هذه الأمّة.
{ (25) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمُ }.
{ (26) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ }.
القميّ قال هو الماء المتصَلْصِل بالطين { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } قال: قال حَمَأ متغيّر وفي حديث خلق آدم فاغترف جلّ جلاله غرفة من الماء فصَلْصَلها فجمدت الحديث وقد مضى في سورة البقرة والصّلصال يقال للطين اليابس الذي يصلصل يصوت إذا نقر وهو غير مطبوخ فاذا طبخ فهو فخّار والحمأ الطين الأسود المتغيّر والمسنون يقال للمصّور وللمصبوب المفّرغ وللمنتن كأنّه أفرغ الحمأ فصوّر منها تمثال انسان أجوف فيبس حتى اذا نقر صلصل ثمّ غيرّ فصيّر انساناً.
وفي نهج البلاغة ثم جمع سبحانه من حَزْن الأرض وسهلها وعذبها وسبخها تربة سنّها بالماءِ حتى خلصت ولاطها بالبلّة حتى لزبت فجعل منها صورة ذات أحناءٍ ووصول وأعضاء وفصول أجمدها حتى استمسكت وأصلدها حتى صلصلت لوقت معدود وأجل معلوم ثمّ نفخ فيها من روحه فمثّلت انساناً ذا أذهان يخيلها وفكر يتصرف فيها وجوارح يختدمها وأدوات يقلّبها ومعرفة يفّرق بها بين الأذواق والمشام والألوان والأجناس معجوناً بطينة الألوان المختلفة والأشباه المؤتلفة والأضداد المتعادية والأخلاط المتباينة من الحر والبرد والبلّة والجمود والمساءة والسّرور الحديث.
{ (27) وَالْجَانَّ } يعني أبَا الجانّ.
القميّ قال أبو إبليس { خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ } من قبل خلق الإنسان { مِن نَّارِ السَّمُومِ } من نار الشّديد الحِّر النافذ في المسامّ.
في الخصال عن الصادق عليه السلام الآباء ثلاثة آدم ولد مؤمناً والجانّ ولد مؤمناً وكافِراً وابليس ولد كافِراً وليس فيهم نتاج إنّما يبيض ويفرخ وولده ذكور وليس فيهم إناث.
والقميّ قال الجنّ ولد الجانّ منهم مؤمنون وكافرون يهود ونصارى ويختلف أديانهم والشياطين من ولد ابليس وليس فيهم مؤمنون إلاّ واحد اسمه هام بن هيم بن لاقيس بن إبليس جاء إلى رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم فرآه جسيماً عظيماً وأمرءً مهولاً فقال له من أنت قال أنا هام بن هيم بن لاقيس بن إبليس كنت يوم قتل قابيل هابيل غلام ابن أعوام أنهى عن الإعتصام وآمر بافساد الطعام فقال رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم
"بئس لعمري الشاب المؤمّل والكهل المؤمّر" فقال دع عنك هذا يا محمّد فقد جرت توبتي على يد نوح ولقد كنت معه في السّفينَةِ فعاتبته على دعائه على قومه ولقد كنت مع إبراهيم عليه السلام حيث القي في النار فَجَعَلَها الله برداً وسلاماً ولقد كنت مع موسى حين أغرق الله فرعون ونجّى بني إسرائيل ولقد كنت مع هود حين دعا على قومه فعاتبته ولقد كنت مع صالح فعاتبته على دعائه على قومه ولقد قرأت الكتب فكلّها يبشّرني بك والأنبياء يقرؤنك السلام ويقولون أنت أفضل الأنبياء وأكرمهم فعلِّمني ممّا أنزل الله عليك شيئاً فقال رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام علّمه فقال هام يا محمّد انّا لا نطيع إلاّ نبيّاً أو وصيّ نبيّ فمن هذا قال هذا أخي ووصيّي ووزيري ووارثي عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال نعم نجد اسمه في الكتب عليا فعلّمه أمير المؤمنين عليه السلام فلمّا كانت ليلة الهرير بصفّين جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام.
{ (28) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ } واذكر وقت قوله { لِلْمَلاَئِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَراً مّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ }.
{ (29) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } عدّلت خلقته { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } حتى جرى آثاره في تجاويف أعضائه فيحيى { فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ }.
في العلل والقمي والعياشي عن أمير المؤمنين عليه السلام وكان ذلك من الله تقدمة في آدم قبل أن يخلقه واحتجاجاً منه عليهم الحديث وقد سبق مع صدره وذيله في سورة البقرة عند قوله تعالى
{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30].
وفي التوحيد عن الباقر عليه السلام أنّه سئل عن قوله تعالى ونفخت فيه من روحي فقال روح اختاره الله واصطفاه وخلقه واضافه إلى نفسه وفضّله على جميع الأرواح فنفخ منه في آدم.
وفيه والعياشي عن الصادق عليه السلام أنّه سئل عنه فقال إنّ الله خلق خلقاً وخلق روحاً ثم أمر ملكاً فنفخ فيه فليست بالتي نقصت من الله شيئاً هي من قدرته.
وفيه وفي الكافي عن الباقر عليه السلام أنّه سئل كيف هذا النفخ فقال إنّ الروح متحرك كالريح وإنّما سمّي روحاً لأنّه اشتقّ اسمه من الريح وانّما أخرجت على لفظة الروح لأنّ الروح مجانس للريح وانّما اضافه إلى نفسه لأنّه اصطفاه على سائر الأرواح كما اصطفى بيتاً من البيوت فقال بيتي وقال رسول من الرّسل خليلي وأشباه ذلك مخلوق مصنوع محدث مربوب مدّبر.
أقول: لما كان الروح يتعلق أوّلاً بالبخار اللطيف المنبعث من القلب ويفيض عليه القوة الحيوانية فيسري حاملاً لها في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن جعل تعليقه بالبدن نفخاً فهو تمثيل لما به يحصّل الحياة وذلك لأنّ الروح ليس من عالم الحس والشهادة وانّما هو من عالم الملكوت والغيب والبدن بمنزلة قشر وغلاف وقالب له وإنّما حياته به وهو الخلق الآخر المشار إليه بقوله سبحانه ثم أنشأناه خلقاً آخر أي خلقاً لا يشبه هذا الخلق.
العياشي عن الصادق عليه السلام أنّه سئل عن الروح فقال هي من قدرته من الملكوت ومّما يدل على ذلك ما سبق من الأخبار في آل عمران عند قوله سبحانه ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء.
وفي البَصائر عن الصادق عليه السلام مثل المؤمن وبدنه كجوهرة في صندوق إذا أخرجت الجوهرة منه طرح الصندوق ولم يعبأ به وقال انّ الأرواح لا تمازج البدن ولا تداخله إنّما هي كالكلل للبَدَن محيطة به.
وفي الإحتجاج عنه عليه السلام الروح لا يوصف بثقل ولا خفّة وهي جسم رقيق ألبس قالباً كثيفاً فهي بمنزلة الرّيح في الزق فاذا نفخت فيه امتلأ الزق منها فلا يزيد في وزن الزّق ولوجها ولا ينقصه خروجها وكذلك الرّوح وليس لها ثقل ولا وزن قيل أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق قال بل هو باق إلى يوم ينفخ في الصور فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى فلا حسّ ولا محسوس ثم أعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها وذلك أربعمئة سنة نسيت فيها الخلق وذلك بين النفختين.
وقال عليه السلام أيضاً إن الرّوح مقيمة في مكانها روح المُحسن في ضياء وفسحة وروح المسيء في ضيق وظلمة والبدن يصير تراباً الحديث.
وروي أنه قال وبها يؤمر البدن وينهى ويثاب ويعاقب وقد تفارقه ويلبسهَا الله سبحانه غيره كما تقتضيه حكمته قوله وقد تفارقه ويلبسها الله غيره صريح في أنّها مفارقة عن البَدَن مستقلّة وان ليس المراد بها الرّوح البخاري وأمّا اطلاق الجسم عليها فلأنّ نشأة الملكوت أيضاً جسمانّية من حيث الصورة وان كانت روحانية من جهة المعنى غير مدركة بهذه الحواس وأمّا قوله فهي بمنزلة الريح في الزق فهي تمثيل لما به يحصل الحياة وبيان لمعنى نفخها في البدن كما مرّت الإشارة إليه آنفاً.
وليعلم أنَّ الأرواح متعدّدة في بدن الإنسان ويزيد عَدَدُهَا بزيادة صاحبها في الفضل والشرف كما استفاض به الأخبار عن الأئمّة الأطهار ففي الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه جاء رجل إليه فقال يا أمير المؤمنين إنّ أناساً زعموا أنّ العبد لا يزني وهو مؤمن ولا يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر وهو مؤمن ولا يأكل الرّبا وهو مؤمن ولا يسفك الدم الحرام وهو مؤمن فقد ثقل عليّ هذا وحرج منه صدري حين ازعم أنّ هذا العبد يصليّ صلاتي ويدعو دعائي ويناكحني وأناكحه ويوارثني واوارثه وقد خرج من الإيمان من أجل ذنب يسير أصابه فقال أمير المؤمنين عليه السلام صدقت سمعت رسول الله صلىَّ الله عليه وآله وسلم يقول والدليل عليه كتاب الله خلق الله الناس على ثلاث طبقات وأنزلهم ثلاث منازل وذلك قول الله عز وجل في الكتاب أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون فأمّا ما ذكره من أمر السابقين فانّهم أنبياء مرسلون وغير مرسلين جعل الله فيهم خمسة أرواح روح القدس وروح الإيمان وروح القوّة وروح الشّهوة وروح البدن فبروحِ القدس بعثوا أنبياء مرسلين وغير مرسلين وبها علموا الأشياء وبروح الإيمان عبدوا الله ولم يشركوا به شيئاً وبروح القوّة جاهدوا عدّوهم وعالجُوا معاشهم وبروح الشّهوة أصابوا لذيذ الطعام ونكحُوا الحلال من شوابّ [شباب] النساءِ وبروح البَدَن دبّوا ودرجوا فهؤلاءِ مغفور لهم مصفوح عن ذنوبهم ثم قال: قال الله تعالى تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض منهم من كلّم الله ورفع بعضهم درجاتٍ وآتينا عيسى بن مَريَمَ البيّنات وأيّدناه بروح القدس ثمّ قال في جماعتهم وأيّدهم بروح منه يقول أكرمهم بها ففضّلهم على من سواهم فهؤلاءِ مغفور لهم مصفوح عن ذنوبهم ثم ذكر أصحاب الميمنة وهم المؤمنون حقاً بأعيانهم جعل الله فيهم أربعة أرواح روح الإيمان وروح القوّة وروح الشّهوة وروح البدن فلا يزال العبد يستكمل هذه الأرواح الأربعة حتى يأتي عليه حالات فقال الرجل يا أمير المؤمنين ما هذا الحالات فقال أمّا أولاهنّ فهو كما قال الله ومنكم من يرّد إلى أرذل العُمُر لكيلا يعلم بعد علم شيئاً فهذا ينتقص منه جميع الأرواح وليس بالذي يخرج من دين الله لأنّ الفاعل به ردّه إلى أرذل العمر فهو لا يعرف للصّلاة وقتاً ولا يستطيع التهجّد بالليل ولا بالنّهار ولا القيام في الصف مع الناس فهذا نقصان من روحِ الإيمان وليس يضرّه شيئاً ومنهم من ينتقص منه روح القوّة ولا يستطيع جهاد عدوّه ولا يستطيع طلب المعيشة ومنهم من ينتقص منه روح الشّهوة فلو مّرت به أصْبَحُ بنات آدمَ لم يحنّ إليها ولم يقم ويبقى روح البدن فيه فهو يدبّ ويدرج حتى يأتيه ملك الموت فهذا بحال خير لأنّ الله هو الفاعل به وقد يأتي عليه حالات في قوته وشبابه فيهمّ بالخطيئة فيشجّعُه روح القوّة وَيزيّن له روح الشّهوة ويقوده روح البدن حتى يوقعه في الخطيئة فاذا لامسها نقص من الإيمان وتفصّى منه فليس يعود فيه حتى يتوب فاذا تاب تاب الله عليه وان عاد أدخله الله نار جهنّم فامّا أصحاب المشأمة فهم اليهود والنصارى يقول الله عزّ وجلّ الّذينَ آتيناهم الكِتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم يعرفون محمّداً صلىَّ الله عليه وآله وسلم والولاية في التوراة والإنجيل كما يعرفون أبناءهم في منازلهم وان فريقاً منهم ليكتمون الحقّ وهم يعلمون الحقّ من ربّك أنّك الرّسُول إليهم فلا تكوننّ من الممترين فلما جحدوا ما عَرَفوا ابتلاهم بذلك فسلبهم روح الإيمان وأسكن أبدانهم ثلاث أرواح روح القوّة وروح الشهوة وروح البدن ثم أضافهم إلى الأنعام فقال اِنْ هُمْ كالأنعام لأنّ الدّابّة إنّما تحمل بروح القوّة وتعتلف بروح الشّهوة وتسير بروحِ البدن فقال السائل أحييت قلبي باذن الله يا أمير المؤمنين.
وروي عن كميل بن زياد أنّه قال سألت مولانا أمير المؤمنين عليه السلام عليّاً فقلت يا أمير المؤمنين أريد أن تعرّفني نفسي قال يا كميل وأيّ الأنفس تريد أن أعّرفك قلت يا مولاي هل هي الاّنفس واحدة قال يا كميل إنّما هي أربعة النّامية النباتية والحِسِّيّة الحيوانية والناطقة القدسيّة والكليّة الإِلهيّة ولكل واحدة مِن هذه خمس قوى وخاصيتان فالنامية النباتيّة لها خمس قوى ماسكة وجاذبة وهاضمة ودافعة ومربيّة ولها خاصيّتان الزيادة والنقصان وانبعاثها من الكبد والحسيّة الحيوانية لها خمس قوى سمع وبصر وشمّ وذوق ولمس ولها خاصيّتـان الرضا والغضب وانبعاثها من القلب والناطقة القدسيّة لها خمسُ قوى فكر وذكر وعِلمٌ وحِلم ونباهة وليس لها انبعاث وهي{ } أشبه الأشياء بالنفوس الملكيّة ولها خاصيّتان النزاهة والحكمة والكليّة الإِلهيّة لها خمس قوىً بقاء في فناء ونعيم في شقاء وعزّ في ذلّ وفقر في غناء وصبر في بلاءٍ ولها خاصيّتان الرضا والتسليم وهذه هي التي مبدؤها من اللهِ وإليه تعود قال الله ونفخت فيه من روحي وقال تعالى
{ يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ * ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [الفجر: 27ـ28] والعقل وسط الكلّ.